قيادة العقل في زمن العواصف والعواطف: الرئيس العليمي أنموذجاً
د. محمد الحميدي
في مفترقات التحولات العميقة من مجرى التاريخ، عندما تقف الأمة على حافة الانهيار، يظهر القائد الفريد والفذ، الذي يتنقل بمهارة بين العقل والعاطفة، بين الحكمة والقوة، لا تنحني قامته تحت وطأة الأزمات، ولا تلهي بصيرته اضطراب الأحداث، ولا يغريه بريق السلطة، يختار الصمت الواعي عندما يشتد الضجيج، ويتقدم بثبات وسط الفوضى العارمة، مدركاً أن الاستدامة ليست خياراً بقدر ما هي ضرورة حتمية لإعادة بناء ما خلفته لعنة الحرب من دمار.
إن القدرة على تحقيق التوازن في لحظات التذبذب بين هاوية اليأس وأفق الأمل ليست مجرد براعة عابرة، بل هي جوهر القيادة التي نادراً ما تتجسد، وهذا التوازن ليس مجرد استقرار في مواجهة العواصف، إنما هو التحرك المتعمد والحذر نحو إحياء أمجاد الماضي العتيق ورسم ملامح المستقبل الجديد الذي يستحق التضحية والانتظار .
السياقات التي تحتاج إلى قيادة تتجاوز الظاهر، يتجلى القائد الذي يفهم أن التغيير الجذري لا يأتي من خلال ردود أفعال سريعة أو تحركات عشوائية، بل عبر استيعاب كامل للتحديات المحيطة به، وإيجاد حلول تنبع من فهم شامل وعميق للواقع المعقد، أي أن القائد لا يقتصر دوره على إدارة اللحظة الراهنة، إنما يمتد ليشمل القدرة على رؤية ما هو أبعد، حيث يستشرف المستقبل بخطوات مدروسة تُوازن بين الممكن والمأمول.
هنا، يمكننا استحضار مقولة “فن الممكن” لعالم السياسة ” بسمارك” الذي أشار إلى أن ”القيادة الحقيقية لا تُقاس بقدرتها على تحقيق المستحيل، إنما بقدرتها على إدارة الممكن وتحويله إلى واقع” هذه الفلسفة العميقة في القيادة تُعلمنا أن الزعامة ليست مجرد عملية تحكم في الأحداث، بل هي فن التعامل مع التناقضات وإدارة المصالح المتعارضة بحكمة تُفضي إلى تحقيق التغيير التدريجي، فالقائد الحقيقي هو من يُتقن فن الموازنة بين الحاضر والمستقبل، بين الرؤية والواقع، والضروري والممكن، وهو من يستوعب أن القيادة الفعالة ليست في مجابهة الأزمات فقط، إنما في القدرة على تحويل تلك الأزمات إلى فرص للنمو والتحول.
من يملك رؤية وطنية شاملة، وإرادة لا تنضب، ونفسًا طويلا لا يعرف الاستسلام، وعقلا قادرا على التفكير خارج الصندوق، سيدرك جيدا أن القيادة تتجاوز مجرد إدارة الحاضر، وأن هذه المرحلة تتطلب استيعاب دروس الماضي وأخطائه، والبناء على أساسها خطط للمستقبل البعيد، مع ضرورة استلهام عقلية القائد “ونستون تشرشل” الذي قدم نموذجاً متميزاً خلال الحرب العالمية الثانية، إذ جمع بين مقاومته إلى النازية مع تقديم رؤية استراتيجية واضحة لفترة ما بعد الحرب، مما جعله مثالاً بارزاً في فن إدارة الأزمات.
في عالم مضطرب بالأحداث والأصوات المنادية بالحلول السريعة، يظهر الصبر كقوة خفية تقود القائد الحكيم نحو أهدافه، هذا الصبر ليس سكوناً، بل انتظاراً فاعلاً، يستثمر فيه الوقت في بناء التحالفات وجمع القوى المتفرقة تحت راية واحدة، فالصبر يمنح القائد القدرة على رؤية ما وراء الأزمة والتخطيط حتى النهاية، بحيث يتم دراسة كل خطوة وكل قرار يتم حسابه بعناية، وكما قال الفيلسوف السياسي جون ستيوارت ميل: “إن من يعرف فقط جانبه الخاص من مسألة ما، لا يعرف عنها إلا القليل”. وهنا يظهر الذكاء السياسي في قدرة القائد على فهم الوضع من كافة جوانبه، كما فعل نيلسون مانديلا الذي استطاع بصبره أن يحول العداء الذي طال أمده في جنوب أفريقيا إلى مصالحة وطنية.
القيادة الحقيقية لا تُقاس بعدد القرارات المتخذة، بل بعمق الفكر الاستراتيجي الذي يدفع تِلك القرارات، ولذلك فإن التغيير الدائم هو التغيير الذي يأتي تدريجياً، يمكن من خلاله بناء المؤسسات القوية وتعزيز الثقة بين القيادة والشعب، وإرساء قيم العدالة والشفافية، وبالطبع من يسير على هذا النهج يعلم أن السلطة لا تكمن في السيطرة اللحظية، إنما في قدرة الناس على تبني مشروع الدولة كجزء من هويتهم الجماعية، يتجلى هنا مفهوم “القيادة بالشرعية”، ما يدل على أهمية أن تصبح القيادة متوافقة مع إرادة الشعب، وهو ما يمنحها قوة دائمة وشرعية حقيقية، ومن أجل تجسيد هذه الفلسفة يمكن النظر إلى نموذج ” لي كوان يو” الذي قاد سنغافورة من الفقر المدقع إلى واحدة من أقوى الاقتصادات في العالم، من خلال استراتيجية التغير التدريجي المتعمد.
سوف يتذكر التاريخ هؤلاء القادة الذين قادوا أمتهم بالحكمة والاتساق دون الحاجة إلى تسليط الضوء على أفعالهم التي كانت بليغة بما يكفي، لتروي قصصهم بنفسها.
يمثل الرئيس رشاد العليمي منارة الأمل في زمن التحديات، حيث يقدم نموذجا للقيادة الهادئة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، ويجسد جوهر القيادة الحقيقية التي تترجم الرؤية بعيدة المدى إلى واقع ملموس.