مقدمة الدكتور أحمد عبيد بن دغر لكتاب الجريمة المُركبة
بين أيدينا سفر تاريخي ممتع، جهد مثابر لباحث وكاتب امتلك ناصية الكتابة لغة وسباكة، معنى ومبنى، وغاص باحثًا وناقدًا ومفكرًا، في مرحلة تاريخية هامة من تاريخ بلدنا، مركزًا على ظاهرة العنف التي واكبت ظهور الإمامة، وابتلاء اليمن بأئمة قدموا من خارجه ورفضوا مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، وامتطوا صهوة الدين لتبرير العنف، وكانوا ولا يزالون سببًا في صناعة الصراعات والمعاناة تاريخيًا في اليمن.
لقد تسببت الحروب الأهلية الناتجة -في أغلبها- عن ادعاء سلالة أحقيتها في حكم اليمن وامتلاك رقاب اليمنيين باسم الدين، في تخلف هذا البلد الكبير والعظيم، وما لحق بأهله من عوز وفقر وجوع، وكثيرًا ما استدعى القائمون على مشروع الإمامة تاريخيًا عونًا من الخارج، والحوثيون الذين اعتمدوا على الإيرانيين في حربهم على الشعب ليسوا استثناء.
امتلك الباحث همدان العليي منهجه في سبر غور موضوعه الذي ركز في جزء كبير منه على البُعد الإنساني والحقوقي، وجعل من فترة الحوثيين المنقلبين على الشرعية المنتخبة من الشعب أنموذجًا في البحث، ليربط بين تفكير الأئمة ونهجهم في القمع وإخضاع اليمنيين، وبين ما ينتج عن هذه النهج والتفكير العنصري من ممارسات إجرامية.
لقد هال الكاتب هذا الكم اللامحدود من العنف.
يدرك المعنيون بالشأن اليمني، أن الأئمة بنوا سلطانهم وكياناتهم في فترات متقطعة من تاريخ اليمن، على نظرية الإمامة العنصرية التي تحصر حكم المسلمين في ذرية «آل البيت»، كما يدعون في فقههم الديني والسياسي.
ويعلم كل المعنيين بالتاريخ اليمني، والتاريخ العربي والإسلامي، والعلوم الأخرى، زيف هذه النظرية، وسقوطها في الوعي الجمعي لغالبية المسلمين، وهذا هو ما يفسر أن أصحاب هذه النظرية العنصرية بفرقهم العديدة ظلوا منذ 1400 عام أقلية دينية، لا يتبعها إلا الجهلة والانتهازيون، لكنها إذا حصلت على المال والسلاح فإنها تغدو خطرًا كبيرًا.
الكاتب المميز همدان العليي الذي نتوقف عنده ونرحل معه في هذا السفر الجميل، والبحث العميق، لا يتوقف عند هذه الظاهرة في جانبها الفكري والسياسي، التي لا تخفى على باحث لبيب أو مؤلف قدير، بل يبحر بنا في غزارة من المعلومات الحديثة الكثيفة، التي تكشف أسباب الحروب والعنف في التاريخ اليمني، والوسائل الإجرامية التي تستخدمها هذه الجماعة في إخضاع اليمنيين لحكمها العنصري.
ولكي يربط الباحث بين ماضي الإمامة الإجرامي، وبين حاضرها العنيف، قدم لنا مثال الفرقة المطرفية، وهي إحدى فرق الزيدية، التي تحرر دعاتها من مسلمات كثيرة في هذا المعتقد، المطرفية رأوا خلافًا لكل أئمة المذهب أن الإمامة تصلح في عامة المسلمين، ولهذا كفرهم غلاة المذهب وأبادوا كثيرًا منهم في صنعاء وما حولها، حتى غدت مثلًا يضرب به للحديث عن عنف وقسوة وجبروت الأئمة.
«الجريمة المركبة» هو العنوان الرئيس للكتاب، ويبدو منذ الوهلة وكأنه حديث في العام من الظاهرة، إلا أن العنوان الفرعي يضع النقاط على الحروف، وينبئنا بما ذهب إليه الباحث المؤرخ، وهو تبيان أصول التخلف والتجويع في اليمن، وأهدافه التي أسهب في شرحها، وآلياته المصحوبة بالعنف المادي والمعنوي عبر أساليب عديدة. لقد رصد الكاتب أشكال وأساليب العنف التي طورها الحوثييون، بما في ذلك الاستيلاء على أموال المواطنين بذرائع مختلفة، وفرض جبايات جائرة عليهم، مصحوبة باستخدام القوة، ومصادرة أموال الدولة والأوقاف والزكاة، وأموال المساعدات الإغاثية.
تحضرنا أمثلة كثيرة على المدى الذي يذهب إليه الأئمة في تجويع وتجهيل وتخلف اليمن واليمنيين، فكتب التاريخ تؤكد واقعة أن اليمن مرت بمجاعة أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت مخازن الإمام يحيى مليئة بالحنطة، لكن الإمام يحيى رفض توزيعها على المواطنين أو حتى بيعها لهم، وهذه المحاصيل أخذت من اليمنيين، كزكاة وخمس وجبايات عديدة. وهذا لأن بعض الأئمة يؤمنون أن الله لا يحاسبهم على ما قاموا بجبايته دون حق، بل على ما لم يجبوه من رعاياهم وإن كانوا يتضورون جوعًا.
توصم معتقدات الأئمة وأعمالهم لإخضاع الشعب اليمني بالممارسات العنصرية، السلالية، المتعالية، ذلك ما ذهب إليه المؤلف في كتابه الثمين والغزيز في معلوماته، وهو في ذلك على حق، فالمستهدف من التجويع والتجهيل هو الشعب اليمني من جماعة تدعي بأن الله -عز وجل- ميزها عن بقية البشر. لقد لعب الوعي الديني المزيف المستند إلى هرطقات الأئمة دورًا سلبيًا في حياة اليمنيين ولايزال.
تركيز الكاتب على مشكلة العنصرية في معتقد الحوثيين، إدراك حقيقي لجذور وأسباب أغلب الحروب في اليمن من فترة طويلة، وهذه مسألة جديرة بالاهتمام والدراسة والتمحيص، لأنه لا يمكن تحقيق السلام العادل والدائم في اليمن ما لم يتم القضاء على مسببات الحروب، وعلى رأسها العنصرية التي تقسم الناس في اليمن إلى سادة لهم الحكم والمال والجاه، وأتباع بمثابة العبيد عليهم أن يقاتلوا من أجل تثبيت حكم الفئة الأولى، وأن يعملوا لكي يسلموا الجبايات للجماعة.
ومن المهم هنا، التأكيد على فداحة واحدة من أخطر الممارسات التي تنفذها هذه الجماعة منذ بداية الحرب، وهي جريمة «الإبادة الثقافية»، واستغلال الحوثيين لمقدرات وأموال ووظائف ومدارس ومنابر الدولة، لنشر معتقدها الكارثي بالقوة، بعدما نفذت سياسة تجويع قاتلة. إن التجريف الثقافي الذي نتعرض له في اليمن لا يستهدف بلادنا وحسب، وإنما المنطقة برمتها، وهذا الكتاب بمثابة صافرة إنذار للفت انتباه العالم المطالب بالوقوف إلى جانب الشعب اليمني، بما يضمن حق اليمنيين في العدالة والمساواة والعيش الكريم، وتحقيق السلام العادل والدائم.
والكتاب الذي يأتي فريدًا في مادته العلمية، يجمع بين الكتابة في التاريخ، والخوض في السياسة، الاستناد إلى الماضي، مع التركيز على حاضر الإمامة في نسختها الحوثية المصنوعة في طهران، بكل ما فيها من جشع وطمع وانحطاط، يصاحبه عنف وقسوة في التعامل مع الشعب، ويستره صمت دولي مريب، وهذا هو سبب اندلاع المقاومة الوطنية والانتفاضات المتلاحقة، التي لم تشهدها ولم تعرفها الإمامة في تاريخها من قبل، والتي ستستمر حتى يتم بناء دولة قائمة على المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية بين أفراد الشعب.
الدكتور أحمد عبيد بن دغر
رئيس مجلس الشورى اليمني