ستنتهي الحرب وتبقى الألغام
فهمي الزبيري
4 آبريل 2022م
يحتفل العالم اليوم باليوم الدولي للتوعية بمخاطر الألغام، في الوقت الذي يعاني فيه أبناء اليمن من أكبر كارثة مدفونة تحت الأرض تتربص باليمنيين وتهدد حياة ومستقبل الأجيال القادمة، وتكثف مليشيا الحوثي المسلحة من زراعة الألغام التي تعرقل وصول المساعدات الإنسانية وفرق المنظمات الإغاثية إلى المناطق الملغومة، ما يضاعف معاناة المدنيين والأبرياء في المجتمعات الضعيفة.
تشير التقديرات إلى وجود 2 مليون لغم في مختلف أنحاء اليمن زرعتها مليشيا الحوثي الإرهابية، و النسبة الأكبر منها زُرعت في أماكن مدنية بعيدة عن مناطق الاشتباك، مثل مداخل المدن والأراضي الزراعية والطرقات، مما يجعلها تتسبب في مقتل المئات كل عام أو بتر الأطراف، وتستمر آثارها الكارثية طويلة المدى مخلفة آلاماً ومأسي لمن نجوا، و يعاني الناجون منها مرارة المعاناة والعجز، وأحياناً تكون المناطق التي توجد بها ألغام أرضية ملوثة لسنوات حتى بعد إزالة المتفجرات؛ مما يصعِّب على الناس العودة إلى منازلهم ومزارعهم.
وثقت منظمة هود و12 منظمة حقوقية في تقرير أطلقت عليه الالغام والسلام، اليوم، مقتل واصابة 1022 شخص معظمهم نساء وأطفال نتيجة الألغام والمتفجرات خلال فترة الهدنة فقط، لتكشف مدى وحشية ودموية هذه المليشيات.
وتسببت الألغام المدفونة والمتفجرات تحت رمال الصحاري وفي المزارع والمراعي والطرقات في كارثة إنسانية ورعب كبير بين السكان، وتمثل تهديدا مباشرًا على حياة المدنيين والأطفال على وجه التحديد، ويواجه المدنيون، والمسافرون، ورعاة المواشي، والمزارعون، والأطفال، والنساء والنازحون، كما دمرت عشرات الآليات الزراعية وقتلت حتى الأغنام والجمال والأبقار.
وتتفاقم معاناة كثير من الأسر عندما يتعرض ربّ الأسرة لإعاقة كاملة نتيجة تعرضه للغم أرضي، أو تفقد معيلها، وعلى المستوى الصحي، تنتشر الأمراض العصبية والتشوهات الجسدية التي يصعب معالجتها نتيجة غياب الخدمات الطبية وبرامج الدعم النفسي والاجتماعي، ويمتنع كثير من المزارعين عن حرث مزارعهم خوفا على حياتهم، ما يؤدي إلى تدهور الجانب الاقتصادي والمعيشي للمزارعين.
لم يتوقف خطر الألغام الحوثية على اليابسة، بل تعداه إلى البحر الأحمر ومضيق باب المندب الدولي، والذي يشكّل تهديداً للصيادين اليمنيين الذين يفقدون مصدر رزقهم، كما تتسبب في تهديد حركة الملاحة الدولية، ومع هذا ، لم يلق ملف انتهاكات الألغام اهتماما يتناسب مع حجم الكارثة الذي أودت بحياة المدنيين والأطفال والنساء التي تتكرر مآسيها كل يوم.
*تاريخ زراعة الألغام في اليمن*
تعود زراعة الألغام في اليمن إلى بداية العام 1962م، من القرن الماضي أثناء الصراع بين الإماميين والجمهوريين، حيث قامت القوات الموالية للإمام البدر بن أحمد حميد الدين بزراعة حقول ألغام في كل من محافظة الجوف شمال اليمن ومديرية صرواح شرق صنعاء ومديرية أرحب غرب شمال العاصمة اليمنية صنعاء، ولا زالت هذه الألغام تنفجر بالرعاة والنساء والأطفال إلى اليوم، كما أن الفترة بين ما يعرف بحرب المناطق الوسطى التي شهدت اليمن خلالها صراعًا مسلحًًا بين شطري اليمن سابقًا حيث تم زراعة حقول ألغام في المناطق الحدودية في قعطبة وحريب والعود ومريس و بيحان و مكيراس، ولا زالت بقايا الألغام في هذه المناطق تهدد حياة الناس إلى اليوم، وخلال حروب صعدة الستة قامت مليشيا الحوثي بزراعة الألغام المضادة للأفراد على نطاق واسع سقط على إثرها ضحايا من المدنيين بينهم نساء وأطفال.
وفي الوقت الذي كان فيه اليمن في على وشك إعلان منطقة خالية من الألغام عام 2012 ، تسبب انقلاب المليشيا الحوثية على الدولة في اشعال الحرب وتضاعفت زراعة الألغام بشكل جنوني من قبل مليشيا الحوثي الارهابية.
*التشريعات الدولية والمحلية*
صادقت بلادنا مبكراً على “اتفاقية أوتاوا” المتعلقة بالألغام 1997م مع معظم دول العالم، والتي تجرم زراعة وصناعة ونقل الألغام التي يتضرر منها الأبرياء أثناء الحروب وتستمر حتى بعد الانتهاء من النزاعات، إلا أن جماعة الحوثي ـ والتي صنفت بأنها جماعة إرهابية من قبل الإدارة الأمريكية ورفعت من قائمة التصنيف بعد شهر واحد فقط، تحت مبررات المساعدات الإنسانية ـ ماتزال ماضية في زراعة الألغام، لأنها وجدت تعاطفاً دولياً شجعها على الاستمرار في جرائمها ضد المدنيين دون الضغط عليها لتعديل سلوكها الإجرامي وممارسة انتهاكاتها ضد المدنيين.
*الاطفال والنساء المتضرر الأكبر*
أكثر من ثمان سنوات والألغام تحصد الأطفال والنساء الذين يشكلون بحسب مراكز حقوقية نحو 75٪ من المدنيين الذين لقوا حتفهم نتيجة انفجار الألغام والأشراك الخداعية والذخيرة والعبوات الناسفة والقذائف نسبة، وكشف تقرير حديث لمنظمة “إنقاذ الطفولة” ارتفاع عدد ضحايا الألغام الأرضية والمتفجرات من الأطفال في اليمن ثمانية أضعاف خلال خمس سنوات، وأشار التقرير الى مقتل أو إصابة طفل واحد في المتوسط العام الماضي 2022 طفل كل يومين، وهو أعلى معدل منذ خمس سنوات، وأفاد التقرير أن سبب الزيادة في عدد الضحايا بين الأطفال عودة العائلات إلى مواطنها الأصلية خلال فترة الستة الأشهر من الهدنة الأممية (بين أبريل وأكتوبر 2022) حيث عادوا إلى مناطق ملوثة بالألغام، وتعرضوا للإصابة “أثناء مشاركتهم في الأنشطة اليومية مثل اللعب وجمع الحطب والمياه ورعاية الماشية وهم يفتقرون إلى الخبرة للتعرف عليها أو تجنبها”، لم يتوقف الأمر عند قتل الأطفال بالألغام وتعرضهم للإعاقات الدائمة وبتر أطرافهم، بل وصل القبح بمليشيا الحوثي استخدم الأطفال في زراعة الألغام وتدريبهم عليها والتعامل معها وهي جريمة يعاقب عليها القانون الدولي واتفاقيات وبروتوكولات حماية الطفولة.
كما أن المرأة في اليمن هي الأكثر تضرراً من مخاطر الألغام والأجسام الحربية ومخلفات الحرب، حيث تتعرض حياتهن للخطر أثناء عملهن في الزراعة وجمع الحطب، وتسببت بمقتل وإصابة المئات منهن، إضافة إلى معاناة الم وفراق من ألم مقتل الزوج أو الأبن أو تعرضهم لإعاقات مستديمة، وسجلت اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان أكثر من 1800 حالة من النساء هن ضحايا الألغام، وتتزايد أضرار الألغام بالنسبة للنساء الريفيات نتيجة فقد مصادر دخلهن بسبب تلوث المزارع وأماكن الرعي والاحتطاب، ما يؤثر بشكل مباشر على المعيشة ورعاية الأطفال.
*أنواع الألغام المستخدمة*
افاد الخبراء والمختصون في نزع الألغام، بأن المليشيات الحوثية مستمرة في زراعة مختلف الأنواع والأحجام من العبوات الناسفة والتي تنفجر أثناء ملامسة أو اقتراب اي شخص وجميعها محرمة بحسب القوانين والاتفاقيات الدولية.
وتستخدم مليشيات الحوثي طرقاً ووسائل وأساليب عديدة ومبتكرة في زراعة الألغام للتمويه وبطرق عشوائية ومرتجلة، وهناك أنواع من الألغام المضادة للآليات والمركبات قامت المليشيات الحوثية قامت بإجراء تعديلات عليها وعمل دواسات بمجرد عبور الاشخاص عليها تحدث انفجارات وأضرار هائلة، كما تستخدم أشكالاً متعددة للألغام الفردية بطرق خداعية يصعب اكتشافها والتحقق منها، لتلحق اضراراً كبيرة بالمدنيين، وتقوم بتمويه تلك الألغام على شكل أحجار واشجار وتغطية الالغام والمتفجرات بمواد عازلة واخرى مثل لون التربة وأخرى على شكل صخور تتشابه مع صخور المنطقة نفسها، كما تصنعها على شكل أدوات منزلية واسطوانات الغاز ومزهريات وقنينات العطور ولعب أطفال وغيرها من الأنواع الخداعية التي تستهدف المدنيين، ويشارك خبراء من ايران وحزب الله في تصنيع هذه الألغام والمتفجرات بتقنيات حديثة عن طريق الريموت كونترول والراديو وعن طريق الهاتف المحمول، وأيضاً عن طريق الدواسات، كما تستخدم المليشيات الحوثية الإجرامية طرقاً أكثر خطورة عن طريق مواد مغناطيسية حساسة تنفجر بمجرد مرور المركبات أو الأشخاص بجوارها ولا تحتاج إلى دواسات مثل الطرق التقليدية.
ووصل الأمر بالمليشيات الحوثية إلى ابتكار طرق تستهدف الفرق الهندسية العاملة في نزع الالغام، بحيث تضع قنابل ومواد شديدة الانفجار أسفل الألغام المزروعة لتلحق أضراراً بالأشخاص الذين يعملون على إنقاذ حياة المدنيين والأطفال، في نهج وحشي لاستمرار قتل وتشويه المواطنين، ما دفع الفرق الهندسية لابتكار وسائل أخرى أكثر احترازاً لمنع حدوث اضرار أثناء نزع ألغام الموت الحوثية.
*عدم وجود خرائط*
تواجه عملية نزع وتطهير اليمن من الألغام تحديات أهمها عدم وجود خرائط واضحة، حيث تعمدت مليشيا الحوثي زراعة الألغام الأرضية والعبوات الناسفة في اليمن بشكل واسع دون خرائط، وتعرض فريق الأمم المتحدة في محافظة الحديدة لحادثة انفجار لغم يؤكد ذلك، وأيضاً ندرة الكوادر المحلية المؤهلة للتعامل مع هذه الألغام كي يتم نزعها في فترة زمنية قصيرة، ومن التحديات التقنية، عدم توفر أجهزة حديثة للكشف عن هذه العبوات والمتفجرات، كما تتزايد مخاطر الألغام والعبوات الناسفة في مواسم الأمطار حيث تجرف السيول الألغام من منطقة إلى أخرى لاسيما في مناطق النزوح، وتكون في متناول المدنيين والأطفال، نتيجة الكم الهائل من الألغام التي زرعتها المليشيات والتي قد تستغرق عملية التطهير سنوات طويلة، بسبب عشوائية زراعتها ورفض تسليم الخرائط للمناطق المعروفة.
*التوثيق والحملات الالكترونية*
ساهمت الحملات الالكترونية والفعاليات الاحتجاجية في الداخل الخارج والحملات الالكترونية على كشف انتهاكات وجرائم جماعة الحوثي للرأي العام العالمي والمحلي، وتعريف العالم مدى الدموية والإجرام الذي تمارسه بحق اليمنيين، كما تعد عملية رصد وتوثيق جرائم زراعة الألغام وأضرارها الجسيمة خطوة مهمة في سبيل تحقيق العدالة، وحفظ حقوق الضحايا والمتضررين، وتوثيق الجرائم التي يتعرض لها المدنيون والأبرياء ورصدها وسيلة لتحقيق مبدأ المساءلة الجنائية والانتصاف لهم، حتى لا يفلت مرتكبو هذه الجرائم من العقاب كونها جرائم لا تسقط بالتقادم.
*المواقف الدولية*
لاشك بأن صمت المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية تجاه الحوثيين في ارتكابهم جرائم جسيمة من أخطرها زراعة الألغام في المزارع والأماكن العامة والطرقات العامة تسببت في تدهور الحالة المعيشية للمزارعين وأصحاب الدخل المحدود، حيث توقفت الحياة اليومية وتأثرت المحاصيل الزراعية، وأصبح من الصعوبة الحصول على الغذاء الكافي والمياه النظيفة، ما يزيد من مخاطر انتشار الأوبئة والأمراض في مجتمع يعاني من ضعف شديد في الرعاية الصحية ويعرض آلاف الأطفال والنساء للخطر المحقق.
وفي الوقت الذي كشفت فيه منظمات دولية ومحلية وتقارير الخبراء بأن الحوثي الطرف الوحيد المتورط في زراعة الألغام والعبوات الناسفة، أصيب اليمنيون بخيبة امل بعد تقديم منظمات الأمم المتحدة عشرات السيارات (دفع رباعي) بمبرر نزع الألغام اضافة إلى توقيع اتفاقيات بملايين الدولات تحت لافتة التوعية بمخاطر الألغام، دعم لمليشيات الحوثي.
*جهود نزع الألغام*
تبذل الجهات اليمنية والفرق الهندسية المحلية ومشروع مسام السعودي لنزع الألغام جهودا كبيرة لتطهير المناطق الملوثة بالألغام والمقذوفات، ويعمل في مكافحة ونزع الألغام 32 فريقاً هندسياً في 8 محافظات يمنية تمتد من شبوة شرقاً إلى تعز والحديدة وحجّة غرباً، ويستخدم مشروع مسام تقنيات وأجهزة متطورة في نزع الألغام، ويضم في فريقه خبراء أجانب لتطهير كل الأراضي الملغومة، وتشير تقديرات إجمالي عدد الألغام المنزوعة منذ بداية الحرب نحو 380 ألفاً لغم زرعتها الميليشيا الحوثية بعشوائية في مختلف المحافظات.
*الألغام والسلام*
ان تجاهل ملف الألغام في أجندة المفاوضات ومساعي السلام غير مقبول، لان الألغام والعبوات الناسفة التي زرعتها مليشيا الحوثي ستظل خطراً محدقاً يهدد حياة اليمنيين في مرحلة ما بعد الحرب، ما يتطلب تدخلا عاجلا من المجتمع الدولي وهيئات حقوق الإنسان والمبعوث الدولي وفريقه الخاص إلى اليمن الضغط على المليشيات الحوثية الالتزام بالقوانين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنص على حماية المدنيين والتي تجرم صناعة الألغام أو نقلها أو تخزينها، والتوقف عن زراعة الألغام بمختلف أنواعها، كما يجب ان تتضمن جهود السلام فتح تحقيق شفاف وعاجل في كل انتهاكات الألغام، ومحاسبة كل المتورطين سياسيا وقانونيا وجنائيا في تصنيع وزراعة الألغام والعبوات الناسفة وتقديمهم للعدالة، وفقا للمواثيق والاتفاقيات الدولية وقواعد القانون الإنساني الدولي واتفاقية اوتاوا، وتعويض المتضررين وتاهيلهم نفسيا واجتماعيا عبر مراكز متخصصة، ورعايتهم صحياً وطبياً.
ولن تتحقق عملية السلام عملياً، الا بعد تسليم المليشيات خرائط الألغام في مناطق الاشتباك ومناطق الحدود وسواحل اليمن على البحر الأحمر، ووضع خطة لما بعد الحرب لتوفير الرعاية الإنسانية لضحايا الألغام، واعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية التي كانت بالقرب من خطوط المواجهات لانها الركيزة الأساسية للسماح بالعودة الآمنة للنازحين إلى مناطقهم الأصلية، وتقديم المساعدة التقنية لإزالة الألغام من خلال توفير التدريب والدعم للمنظمات المحلية التي تعمل على تطهير حقول الألغام والعمل على زيادة الوعي المجتمعي.
**مدير عام مكتب حقوق الانسان بأمانة العاصمة*