مقالات رأي

وقفات لابد منها مع كتاب (ظاهرة القومية اليمنية – أقيال) ‏

عادل الأحمدي

تباينت آراء العديد من الأقيال حول كيفية التعاطي مع كتاب “ظاهرة القومية اليمنية – أقيال” للأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي، إذ هناك من رأى بمجرد الاطلاع عليه أن الكتاب لا ‏يستحق الرد، وأن المؤلف بدا أن مشكلته مع التاريخ اليمني ورموزه وليس مع حراك ‏الأقيال. بينما رأى آخرون أن الرد مهم لأن الكتاب قد يصل إلى شرائح وبيئات ‏وأزمنة قد تقرأ ما فيه وكأنه حقائق. وبالنسبة لي أرى أن الكتاب ينبغي الرد عليه. ‏

وأبدأ بالتأكيد أن حراك القومية اليمنية (أقيال) ليس فوق النقد، بل هو أحوج ما ‏يكون إلى نقد بنّاء حتى وإن كان قاسيا، فهو يعاني مشكلات ويجابه تحديات يحتاج إلى معالجتها، لكن ما حمله الدكتور في كتابه لم يكن نقداً بل ‏محض افتراء في عمومه، قائماً على تصور جاهز ضد الأقيال خرج بموجبه بفتوى تنظر إليهم وكأنهم مجموعة من المرتدين بحاجة إلى إقامة الحجة إليهم ‏ودعوتهم بالتي هي أحسن إلى سبيل الرشاد. ‏

فرضيات خاطئة

نظر المؤلف للقومية كحركة عرقية عنصرية جاءت ردة فعل على عنصرية الحوثي، وأنها تريد إعادة عقيدة ما ‏قبل الإسلام وتقتدي بنشوان الحميري والحسن الهمداني ومحمد محمود الزبيري في إحياء “‏النعرة القحطانية” وتستهلك مصطلحات “الأسود العنسي”، وتعادي كل ما هو هاشمي حتى لو كان ضد ‏الحوثي.‏

وانطلاقا من ذلك راح يعري تلك الدعوة (الجاهلية) ويحطم سبأ وحمير وينال من ‏نشوان والهمداني ويظهر فيهما النواقص.. وينصح الاقيال بالعودة إلى الحق وعدم ‏مصادمة ثوابت الشعب. ويتوقع في نهاية الكتاب أن مصير الأقيال التفتت. رغم كونه في موضع آخر يبدي خوفه من الأقيال عندما يصبحون سلطة حاكمة، ومعضلة أنهم لن يقبلوا بالهاشميين مواطنين “إلا بشروط مذلة”، حد تعبيره.

مجرد أن تبني دراسة كاملة على فرضية خاطئة، وهي أن الأقيال دعوة عرقية، ‏فهذا ينسف الدراسة من أساسها. الأقيال حراك يواجه عرقية السلالة الهاشمية بروح وطنية ‏تؤمن بالشعب متعدد الأعراق والمواطنة المتساوية ونظام الجمهورية اليمنية ومبادئ وأهداف ثورة 26 سبتمبر ‏وتفخر بالأرومة القحطانية وحضارة اليمنيين قبل وأثناء وبعد الإسلام. سواء معين وسبأ ‏وحمير وحضرموت وقتبان وأوسان، أو الرسوليون والصليحيون والطاهريون والكثيريون والقعيطيون.. في منحى لتقوية الذات اليمنية التي تتعرض ‏لمحاولة طمس للهوية واستعباد للإنسان ومصادرة للحكم باسم الدين والسلالة. ‏

معركة مع التاريخ

ولتفنيد ما سبق، راح الدكتور يقلل من شأن سبأ وحمير وخلص إلى أنها لم تكن ‏فترة ذهبية بل مليئة بالصراعات وأنهم قوم كفروا بأنعم الله، ولا يجب أن نقتدي ‏بهم، وأن سبأ وحمير كان انتقال الحكم فيها سلالياً وأن الدعوة إلى ذلك هي ‏ارتكاس ورِدّة عن الدين. وفي هذا اعتساف شديد وتزوير، فالعودة إلى استلهام ‏الروح الحضارية لا تعني العودة إلى كل متعلقاتها العقدية والفكرية، بل إلى روح ‏الإنتاج والبناء وحكم الشعب نفسه بنفسه، سواء عبر أسرة يمنية أو بالتداول. ‏واستشهاد المؤلف ب”يوم الوعل” كدليل على الرغبة في إحياء عقيدة ما قبل الإسلام، فيه ‏بهتان وتزوير، إذ كنت أحد ثلاثة أطلقوا شرارة يوم الوعل وحددنا ببيان ماذا ‏يعني يوم الوعل للحيلولة دون التفسيرات الخاطئة. وبالتالي ووفقاً لهذه ‏الأطروحة فإن الكتاب مبني على اتهامات لا وجود لها في الواقع. ‏

تقوم صفحات الكتاب بالرد على أطروحات يمكن أن نقسمها كالتالي: بعضها ‏محض افتراء مثل يوم الوعل، والبعض الآخر قصور في الفهم مثل قضية استنساخ ‏تجارب سبأ وحمير، والبعض الثالث، أخذ رأي نادر داخل حراك الأقيال، بينما ‏”النادر لا حكم له”، أو رأي جزئي ويريد تعميمه على المجموع، الأمر الذي قاد إلى ‏سطحية متورِّمة ليست جديدة على الدكتور الدغشي الذي كان كتابه (ظاهرة ‏الحوثيين) نموذجاً لهذه السطحية، حيث أعطاهم مظلومية في ذلك الكتاب، ثم لما ‏أثبتت الأيام خطأه أصدر الجزء الثاني من الكتاب، وبرر هجومه على الحوثيين ‏بالجزء الثاني بالقول إن لغة الجزء الثاني تختلف عن لغة الجزء الأول لأن الأول ‏صدر في عام 2009 أي في وقتٍ كان الحوثي في موقع الدفاع. وما دام المؤلف يعتقد أن الحوثي كان يومها ‏في موقع دفاع فهذا يعطي لنا صورة عن سطحية رؤيته في فهم ما يسميها الظاهرة الحوثية. ‏

خلل منهجي

إلى ذلك، ساق المؤلف عشرات المراجع للرد على دعاوى منسوبة للأقيال لم يأتِ ‏عليها بمرجع واحد معتبر.

لم يعد المؤلف إلى مؤلفات الأقيال ولم يتواصل أثناء التأليف بنماذج داخل ‏الحراك القومي، ويخلو الكتاب من ذكر مؤسسة واحدة محسوبة على الحراك ‏القومي أو ناشط واحد من ناشطي القومية، باستثناء إحالته إلى عدد يتيم من ‏صحيفة تسمى “أقيال”، ذكر هو أنه مختلَفٌ عليها داخل الأقيال، وإلى بيان صادر عن القومية ‏واعترف هو أن أغلب الأقيال يتبرأون من أي بيان أو صحيفة باسم القومية. تشعر جراء ذلك، وكأن الكتاب يتحدث عن أشباح.

صحيح أن القومية حراك ‏شعب وأن فيها تباينات لوجهات النظر تجاه قضايا معينة، لكن في المقابل لها ‏أسماء ولها مؤسسات ولها نوع من المواقف يتسم بالثبات يمكن البناء عليها. ‏فمثلاً، كيف تصدر دراسة عن الأقيال وليس فيها ذكر للشهيد خالد الدعيس طيب الله ثراه، الذي يُعتبر ‏أيقونة القومية اليمنية وواحد من الأسماء المُجمع عليها!!

انطلق المؤلف للأسف من تلك القناعات الجاهزة، ليدمغ القومية بأنها عنصرية ‏لا تختلف عن عنصرية الحوثي، وراح بعد ذلك يسهب بالوعظ عن خطورة ‏العنصرية والتفاخر بالأحساب والأنساب، وجعل الدين دائماً مترسه الذي ينطلق ‏منه وسوطه الذي يجلد به القومية، في محاولة لتكفير الأقيال أو تفسيقهم في أحسن الأحوال.

لقد جعل المؤلف ‏من الوطنية والدين كضرائر، وزاد في التسطيح أنه جعل في استلهام الحضارة ‏اليمنية وكأنه ردة عن الدين، وفي إحياء “يوم المسند” وكأنه انقلاب على اللغة العربية وفي ‏التذكير بالتقويم الحميري وكأنه رفض للتقويم الهجري. الدين باعتباره الورقة ‏الرابحة لهزيمة الحراك الذي يسعى إلى تحرير اليمنيين من الاستعباد البشري ‏باسم الدين.

ولكن المؤلف يجد نفسه في مأزق عندما يجد أن الأقيال يحتوون في ‏صفوفهم تياراً من كبار المتدينين بينهم علماء، وراح يقول إن هؤلاء ليسوا علماء بل ‏مجموعة من الوعاظ، بل إنه قام بحرف الدلالات عن مقاصدها 180 درجة. ‏فلإثبات لا دينية الحراك راح يقول إن الأقيال عندما يستخدمون كلمة “رحمن ذو ‏سماوي” فكأن هذا استبدال للبسملة، بينما العكس هو الحقيقة، إذ الأقيال ‏يستخدمونها في بعض الأحيان كدليل على الجذر الإيماني بالله تعالى في أعماق الإنسان اليمني. ‏

وأيضاً وجد المؤلف نفسه في مأزق آخر، إذ كيف تريد أن تدين حراكاً وتدمغه بمعاداة ‏الدين بينما هو يحتفي بعلماء أمثال محمد اسماعيل العمراني رحمه الله، وبدلاً من أن يكون ‏بيان القومية في نعي العمراني نقطة تحسب للأقيال في مواجهة الاتهامات، انتزع المؤلف جملة في البيان ‏وقال إنها دليل على علمانية الحركة، وهذه قد تعد نقطة تحسب للأقيال عند البعض، ولكن ‏بالنظر إلى الجمهور الذي يستهدفه الدغشي فإنها تنسف الأقيال، فالعلمانية ‏لديهم تعني اللادينية. على أن الدكتور يعترف أن أغلب الأقيال لا يقرون البيانات ‏وأنه لا يجوز لأحد أن يصدر البيانات باسم الأقيال وهذا صحيح والدليل على ذلك، أنني ‏تعرضت لحملة شعواء من قبل رفاقي الأقيال، بسبب أنني أعدت نشر بيان باسم ‏القومية في مستجد سياسي، وقمت بحذفه. ‏

إذن، فالمؤلف نفسه يشكك في مصادره الشحيحة التي ساقها لإدانة ‏الأقيال. ‏

للأسف لم يقترب المؤلف لا من قريب ولا من بعيد من تعريف ما يسميها ‏الظاهرة القومية، ولا يعطي الكتاب أبداً صورة عمّن هم الأقيال، متى نشأوا؟ من ‏وراءهم؟ كيف يتخذون القرارات.. لا يوجد معلومة تضم إجابة لمن يسأل من هم ‏الأقيال، باستثناء الدعاوى المفتراة التي أجهد نفسه في الرد عليها، ضمن كتاب تقول ‏صفحاته: مرحباً بكم في الحضيض. ‏

إنني كواحد من مؤيدي حراك الأقيال، وأدعي أنني أفهم الحراك جيداً، فإنني، وأنا أقرأ الكتاب، شعرت بالألم على كل قارئ يمكن أن يصل إليه الكتاب ويأخذ ‏نظرة مغلوطة. وهنا تتحسر على الأمانة العلمية حينما تجد البون الشاسع بين ‏الحقيقة والتلفيق المكتوب بأسلوب بحثي يمكن أن نطلق عليه “الأسلوب الدغشي”، ‏كمصطلح يمكن أن نطلقه من الآن وصاعدا على كل بحث لا يتحرى الدقة، ‏وإن كان اسم صاحبه مسبوقاً بـ أ.د. ‏

يقوم البروفيسور أحمد بالدغش من هنا ومن هناك لتأييد فرضياته.. “الدغش” كمصطلح للتهويم في هذه الدراسة التهويمية (وليس التقويمية)، عندما نستخدمه فليس في ذلك تنابز بالألقاب، حاشا، بل تقريع لهذه المنهجية العوراء التي يكتنفها الظلم. ‏

يحسب للدكتور الدغشي أنه أقر مراراً أن العدو الحقيقي هو الكهنوت السلالي ‏وأن الخطر الحقيقي هو الحوثي، ولكن الدغشي بهذه الدراسة، منح الحوثي، من حيث لا يقصد، هدية ‏لم يكن يحلم بها. ‏

بين الوطنية والدين

والحقيقة أن مواجهة الحركات الوطنية بتهمة مناكفة الدين، هي ما كان يعاني منه ‏كل الحركات الوطنية في التاريخ داخل وخارج اليمن. وعندما أتأمل صفحات ‏الكتاب أقول إنه يكاد يكون نسخة متضخمة من القصيدة المنحولة على الثائر علي بن الفضل بغرض تشويهه، ‏والتي منها أنه:

أحلّ البناتِ مع الأمهات
ومن فضلهِ زاد حِلّ الصبي

هذه الحالة المضادة، التي يضع فيها الدكتور وأمثاله الحركات الوطنية في مواجهة الدين، هي جهل ‏مركب بالوطن والدين معاً. ف”الوطن” من المنظور الديني يظل حيز الابتلاء الدنيوي ومزرعة الآخرة ‏التي هي حياة الخلود. و”القوم” هم الناس الذي ينشط في إطارهم المرء سواء كان محركه ‏دينياً أو غير ديني. وبالتالي فإن الحركات الوطنية التي تتجاهل الدين، لا يكتب لها ‏النجاح، كما أن الحركات الدينية التي تتجاهل الوطنية أيضاً لا يكتب لها النجاح. ‏والفارق هنا هو ما تريد إحرازه القومية اليمنية، ولكن ليس على شاكلة الأسلمة بل اليمننة فالإسلام علاوة على كونه رسالة الله وتعاليمه، فإن فيه تضحياتنا كيمنيين منذ ما قبل بيعة العقبة الأولى وحتى اليوم. ولن نسمح أن تذهب تضحياتنا هباء أو أن يغدو الإسلام شركة عائلية.

ولذا قال أحد مرجعيات الأقيال وهو ‏الدكتور مطهر بن علي الإرياني رحمه الله:

أيا وطني جعلتُ هواك دينا
وصرتُ على شعائره ‏أمينا

والوقوف مع هذا البيت سيضع الإرياني في خانة الردة من ذوي الفهم الدغشي، ما لم يتم قراءة ‏البيت التالي له، وهو:

وفي الإيمانِ بالأوطانِ برٌ
وتقديسٌ لربِّ العالمينا

ويمكن هنا أيضا الاستدلال بأبيات خالدة للشهيد القيل خالد الدعيس يقول فيها:

لو لم يكن دينُ الإلهِ تساوياً
لكفرتُ بالرحمنِ والأديانِ

لكنّ دينَ اللهِ فطرةُ خَلقهِ
قد رُكبتْ في فطرةِ الإنسانِ

والفطرةُ السمحاءُ عدلٌ مطلقٌ
وبها استقرتْ كفةُ الميزانِ

فأخي الذي حسبي إخاهُ، هو الذي
إن قال ها أنا ذا، رأيتُ “يماني”

ولسانُهُ في حالهِ ومقالهِ
“بلدي، وليس مع بلادي ثاني”

وولاؤهُ بمسرّةٍ ومضرّةٍ
هو للبلادِ وفطرةِ الرحمنِ

أما الولاءُ لعصبةٍ وسلالةٍ
فهو الولاءُ لعنصرِ الشيطانِ

ولعنصرِ الكِبرِ الذي أودى به
للتيهِ، للظلماتِ، للنسيانِ

والإشكال قديم بين التيارين، تيار الوطنية والتيار الذي ينسب نفسه للدين، وقد ‏ناضل العديد من المفكرين والأدباء في محاولة إزالة اللبس، الأمر الذي جعل البردوني يقول في ‏آخر دواوينه:

لا يعرفُ اللهَ من لم يعشقِ الوطنا

وعندما تجد هجوماً من بعض الأقيال على بعض مرويات الدين، فهو هجوم على مرويات الدين الذي يستخدمه ‏السلاليون في قتل الناس، وبالتالي فإن القومية هي انتصار للدين الحق أمام الدين ‏الوثني وليس العكس. وطبيعي أن تُرشق بعد ذلك القومية بكل الاتهامات التي ‏رُشق بها الأنبياء. ‏

ورغم وجود باحثين أقيال تصدروا لتفنيد دعاوى السلالة وفق المنظور الديني فإن منهج القومية الأعم يركز مرحلياً على التخفف من الخطاب الديني لتجنُّب الطائفية واللدد حول غدير خم وأصحاب الكساء، ‏ويرى البعض أن الأولوية اليوم هي للكلام المتطاير من “سود النخر” على أنغام القيل الشاعر بن معوضة محمد:

بلادي، ومن قال حقي غلَب
وحقي قفا ابي وبعدي حفيدي

جذوري على عمق ألفين أب
طرف حبلها في الزمان الجليدي

وعاد البحار المحيطة صلَب
وقيعان الانهار تزرع (مَريدي)

‏ومن قبل ما تشتعل بالعرب
معارك ولاية حسيني يزيدي

وتبدأ ب(تبت يدا ابي لهب)
فتوحات عمرو بن معد الزُّبيدي

بلادي خزانة ذهب مِن ذهب
ومن قبل ما تستضيف “المَعيدي”

وتعرف وجوه الذحل والجرب
وتحمل ندوب الوجود الصديدي

بلادي وبنت الحسب والنسب
تضاريسها نابتة في وريدي

إننا نواجه عنصرية مدججة بخطاب ديني منحول، والكفر بدين السلالة هو ‏انتصار للدين الحق، وهذا لا يجعل من حراك القومية حركة دينية، بل هو حراك ‏شعب فيها نسبة ضئيلة يرون أن مشكلتنا أصلاً تكمن في الدين نفسه، بينما يرى غالبية الأقيال أن الدين ‏براء من المشكلة التي تعاني منها. ولو قرأ الدكتور الدغشي كتاب “خرافة السلالة ‏والولاية” للقيل أحمد الحميري، أو كتاب “فتنة السلالية في الإسلام” للقيل أحمد البتيت، أو كتاب “الكهنة” للإكليلة الدكتورة لمياء الكندي أو كتاب “ماذا يعني انتمائي لليمن” للقيل الدكتور ثابت الأحمدي، أو مخرجات مؤتمر نادي الإكليل السنوي الأول والثاني، لما احتاج إلى كل هذه التهم. ‏

لم يكن الدغشي بحاجة إلى النيل من الهمداني ونشوان لكي يحاكم حراك ‏القومية، لكنك تقف أمام مؤلفٍ يجد صعوبة في التعرف على الهمداني ونشوان ‏وقد خلت أغلب مؤلفاته من ذكرهما وقضى عمره في محاولة تقريب المسافة بين محمد ‏خاتمي ومحمد الغزالي. ‏أقول هذا لأنني قارئ عريق للأستاذ الدغشي وقد التقيته مراراً وكنت أنقّح مقالاته المنشورة في مجلة “نوافذ” عامي 1999، 2000.. وقرأت أغلب أبحاثه ولازلت أهفو لقراءة بحثه المهم “نظرية المعرفة في القرآن الكريم” وأعده إنجازاً يحق للدكتور الدغشي أن يفاخر به.

لقد عمل المؤلف “بكل ما أوتي من مهارة وسداد” على القول إنه لا يعرف شيئاً ‏عن التاريخ اليمني. ويعتمد في تفنيد التاريخ على مؤرخين من أمثال محمد بافقيه ومحمد أحمد الشامي! والقول مثلاً إن قوم سبأ كفروا بأنعُم الله، هذا ليس ‏اكتشافاً خطيراً وضع الدغشي يده عليه، إذ أن الحديث عن حضارة امتدت آلاف ‏السنين لا يعني خلوها من فترات صراع ولا يعني خلوها من بعض العيوب من بينها كفران النعم. ولكن هدف القومية اليمنية أقيال هو الوصول ‏بالإنسان اليمني إلى حالة من الوعي يعرف فيها جيداً نقاط قوته ونقاط ضعفه. ‏فلكل شعبٍ خصائص متوارثة، حتى من ينتمي لهذا الشعب وهو ‏ينحدر من أعراق أخرى سوف يصطبغ بصفاته مع مرور الزمن باستثناء الحالة السلالية ‏الخاصة بالهاشميين والتي أصرت على البقاء خارج المنظومة النفسية لليمنيين ‏ولم تنصهر داخل المجتمع، بل إنها بنَت استحقاقها المزعوم في الحكم على كونها ‏ليست يمنية. ‏

يورد الدغشي بعض حروب فترة سبأ وحمير مزهواً وكأنه بهذه المعلومة أصاب الأقيال بمقتل، وهذا دليل على أنه لا يقرأ حركة التاريخ جيداً، فعندما نتحدث ‏عن تجربة اليمنيين أو غيرهم فنحن نتحدث عن أزهى عصورها وحالاتها، ومع هذا فإننا ‏نرى صيغة الجمهورية اليمنية هي الأصلح اليوم وليس صيغة المكاربة التي نستلهم أجمل ما فيها. ‏ومؤكد في تصور غالبية الأقيال أن اليمني هو من انتمى لهذا الشعب وعاش داخله، سواء كانت أصوله قحطانية أو من ‏القوقاز أو الصومال أو حتى من جزر الكاريبي. فكلمة السر التي يجهلها الدغشي للأسف، هي ‏اليمن. اليمن المعنى الكبير الذي يحاول الأقيال تنميته في قلوب أبنائه. ‏

(اليمن “ذلك المجهول”.. بلد الإيمان والحكمة، وقصة القصص، وحكاية الحكايا.

وحين تمتلئ قلوب الناس بحب اليمن، تفعم أرواحُهم بالوضوء، وتمتلئ أيامُهم بالمجيء، وتصبح المناطقية صِفراً والسلالية كفراً، وهكذا، وعبر فعل اجتماعي وفكري وعسكري متصاعد، ننفك من قيود اللحظة العقيم وكابوسها الثقيل.

ويقيناً أننا لم نصل إلى ما وصلنا إليه من واقع مزرٍ إلا بسبب مفاهيم خاطئة، دينية واجتماعية، تحكّمت في مواقفنا ونصبت متارسنا وصنعت مآسينا. ولن نتحرر من الواقع المزري إلا بتحرير منظومة المفاهيم وتنقيتها وبناء وعي متنور وصلب عصيٍّ على الانخداع.. وهي ثورة يقودها طلائع شعبية “خفيفة الظبَل”، دمُهم ثائر، أطلقوا على أنفسهم مسمى الأقيال. وغداً بمشيئة الله، سيعرف الجميع أن هؤلاء أكثر من ارتبط بالله وفهم كُنهَ الدين وأحب هذا الشعب. وبالأحرى: الشعب هو الأقيال والأقيال هم الشعب، إذ ليسوا تنظيماً ولا حزباً ولا منظمة). والفقرة أعلاه منتزعه من منشور عقب الاحتفاء بيوم المسند.

في معرض انتقاصه مستندات الاعتزاز الوطني الحضارية تشعر أن هذا ليس كلاما يليق بالبروفيسور أحمد الدغشي بل بشخص آخر اسمه “الدعشي”، فداعش هي من لها مشكلة مع الحضارة وتعتبر الآثار أوثانا!

إن إصرار المؤلف على تصوير استلهام الأقيال للحضارة وكأنه رغبة في استنساخ ‏النظام والعقيدة الغابرة وإنكار فترات الضعف، هو نوع من خفة في العقل. ‏وزد على ذلك أنه أحياناً يصل به الأمر أنه يقول بمعرض نصحه للأقيال، إن معين وسبأ ‏وحمير كانت ممالك توسعية تغزو الآخرين، ويقول لا نريد أن نكون أمة غازية، نريد ‏استقراراً ولا نريد أن نغزو أحداً..! وهذا تحريض متعدد الخطوط ضد الأقيال، وكأنه لا يكتفي ‏بتحريض الداخل المتدين، بل يحاول تحريض العالم. وهذا يدل على أن الكتاب ‏فيه للأسف نوع من التجني المدروس بعناية. ‏

أسوأ ما يفعله المؤلف أنه يريد أن يحشرك لتدافع عن إيمانك بالله عز وجل، فمن ‏هو حتى ينصب للآخرين هذه المشنقة. وهناك نوع من التساؤلات يورده المؤلف ‏لا تقل سذاجة عن الأطروحات التي ينطلق منها، من بينها أنه يورد بيتاً للقيل نشوان ‏الحميري يفتخر فيه بقحطانيته ثم يورد أبياتاً للكاهن عبدالله بن حمزة يفتخر بسلالته ‏ويتساءل: ما الفرق بينهما!! ولو اعتمدنا الأسلوب الدغشي هذا في محاكمته، لقلنا له ما الفرق ‏بينك أنت وحسين الحوثي. فأنت تسفّه الاعتزاز بالتاريخ وحسين الحوثي يقول في ‏تسجيل مصور إن هؤلاء اليمنيين يفتخرون بالأعمدة التي في مأرب وبسبأ وحمير، يريدون ‏أن يعيدونا إلى اليهودية.. نحن لن نعتسف هذه المقارنة لأننا نعرف الفرق في ‏الدوافع. ‏

وبمناسبة الحديث عن اليهودية، فإن من جملة الافتراءات التي يسوقها المؤلف، زعمه أن جزءاً من الأقيال يفتخر بذي نواس الحميري، الملك اليهودي الذي أحرق ‏نصارى نجران في الأخدود، ويقيناً لم أجد أي قيل يفتخر بهذه الجزئية على ‏الإطلاق.

بل إن المؤلف وأمام افتخار الأقيال بأسعد الكامل كملك موحد لليمن وموحد ‏بالله تعالى، فإنه كما فعل مع نشوان والهمداني، راح ينتقص من التُّبع أسعد الكامل، ‏وخلص للقول إنه لا يؤمن باليوم الآخر. وهكذا يمضي المنهج الدغشي في اعتساف النتائج ‏المبنية على مقدمات خاطئة بجرأة لا يحسد عليها.

دعوة للمراجعة

دعا الدغشي الأقيال إلى مناقشة ما ورد في كتابه، وسمعت أنه قال لأحدهم إنه مستعد ‏للتراجع عن معطيات بالكتاب إذا تم إقناعه أنها خاطئة، وبعد أيام، وبتنسيق من البرلماني الدكتور شوقي القاضي، مقرر أن ‏تكون هناك مناظرة بين الدغشي ومجموعة من الأقيال يفترض بهم الوقوف أمام ‏الدغشي للدفاع عن إيمانهم وتاريخهم!

ليس معلوماً بوضوح هل الدغشي يعرف حراك الأقيال ‏جيداً وافترى عليه عمداً، أم أنه اعتمد فعلاً على من حرض عليهم واستدل ببعض ‏المنشورات.. فهل بعد معرفته الحقيقة سيقوم بمراجعة؟ ولماذا لم يتواصل مع ‏الأقيال قبل النشر؟ وهل بعد دحض حجته سوف يتراجع أم تأخذه العزة بالإثم، أم أنه سوف ‏يبحث عن غراب يعلمه كيف يواري سوءته. ‏

المسافة بين الحقيقة والواقع قد تأخذ عقوداً من الزمن، هي المسافة التي قضيتها بين ‏تحريض أستاذ لي في الإعدادية قال إن أغنية الفنان أيوب طارش “يا معبد الشمس كم لك ‏محتجب وا حبيب” هي ردة عن الإسلام ودعوة إلى عبادة الشمس. بعد عقود سمعت الأغنية وقرأت ‏لشاعرها عثمان أبوماهر طيب الله ثراه، ليترجح عندي أن إيمان عثمان أبوماهر كان أكبر بكثير من إيمان ‏معلمي. ‏

إن ما يهدد اليمن اليوم ليس حراك الأقيال الفكري بل جماعة عنصرية مسلحة تستخدم الدين لقتل الشعب واستعباده وحكمه. اليمنيون ‏شعب الإيمان والحكمة، وحراك القومية في نظري هو نوع من الإيمان والحكمة. ‏

إن الخطاب الديني ما لم يكن خطاباً مستنيراً يتحرى الدقة ويراعي خصوصية ‏الزمن والوطن، فإن ما سيفعله ليس سوى توطئة لحركات مثل الحوثي. نريد لشعبنا ألا يخدعه أحد باسم الدين. كما أن الدين لم يكن ليلغي خصوصية ‏أيّ شعب أو أمة، وهذا هو السبب الذي جعله يمتد شرقاً وغرباً. فالأتراك مثلاً ‏الذين يقيم المؤلف الدغشي حالياً بين ظهرانيهم، حكموا العالم الإسلامي ثمانية قرون ‏وظلوا متمسكين بهويتهم ولم يتنازلوا حتى بمسألة اللغة، رغم أن حضارتهم بنيت ‏على الإسلام، وهذا جزء من قوة الإسلام أنه لا يلغي الذات الوطنية بل يعززها ‏ويحيي ما فيها من محامد ويهذب ما فيها من هِنات. ‏

هناك أيضاً، جوانب في الكتاب تنم مجدداً عن خفة في العقل وعن رِقّة في الدين، من ‏ذلك حين يتساءل المؤلف، أن الأقيال كيف يرتضون سلالية حمير وينكرون ‏سلالية “الآل” (الهاشميين)، “وهم لديهم دليل -زعموا- من الدين واضح”!! على ماذا ترد في هذا الصدد، هل تقول له إن الأقيال لا يريدون سلالية حميرية، أم ‏تقول له إن الأقيال إذا أرادوا سلالية حمير فهي يمنية، وأن سلالية الآل هي وافدة ‏وباسم الدين. سطر واحد مليء بالألغام يكفي لنسف منهجية الكاتب كاملة.‏

نقول إن هذا الاصرار على دمغ الاقيال بالانسلاخ عن الدين هو إصرار ناجم عن رقة في الدين من قبل من يتبنى هذا الدمغ، ذلك أن سلاح الدين يستوجب التقوى في استخدامه والتعمق في فهمه.. وكما جاء في الأثر “الدين هذا متين فأوغل فيه برفق، ولا تكن كالمُنْبَتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطَع”.

‏يريد الكاتب الخلوص للقول لماذا أيها الأقيال ترتكسون ‏بعد هداية؟ لماذا نكون مخيرين إما تحت حكم السلالة وإما العودة للجاهلية.. عودوا إلى الإسلام. هذه خلاصة ما يتضح من كلام المؤلف، وأعتقد أن في مثل هذا ‏الطرح جهلاً بالإسلام وبالأقيال معاً. فلا الدين يتعارض مع خصوصيات الشعوب الحضارية، ولا الأقيال في مواجهة مع الدين. القصة وما فيها أن الدكتور الدغشي كتب مقالاً قبل سنوات ينتقد فيه ‏الأقيال، وتعرض بسببه لتنمُّر في التعليقات صبغت رأيه أثناء تأليف الكتاب. ولعله سيتفاجأ أنه ‏لم يلاقِ نفس التنمُّر رغم كونه قدحهم بكتاب كامل، وذلك لأنه يجهل أن حراك القومية ‏هو ورشة فكرية كبرى تنمو باطراد وتعالج نفسها أولاً بأول، بسرعة تفوق قدرته ‏على المتابعة والموضوعية والإنصاف. ‏

في ختام الكتاب، ونتيجة التخبط، لا يتضح للقارئ بالضبط، هل الأقيال لديهم مشكلة مع الإسلام ‏أم مع الصلاة الإبراهيمية!!

عموماً سنعتبر أن الدكتور أخذ مصادره في الكتاب من تأثير الردود على مقاله ‏السابق في لحظة غضب ومن تعليقات لأسماء وهمية فأنتج دراسة لم يحالفه فيها التوفيق، وندعوه إن كان جاداً أن يعتبر هذه الدراسة مجرد بداية خاطئة تدفعه ‏لدراسة “معمّقة بحق”، لكن يتوجب عليه أن يتعَب أكثر ويتجرد. وأهلاً به وبغيره ناقداً ومسدداً ‏من غير تزوير ولا تحوير ولا تحقير.‏ فالأقيال هم فرسان المرحلة اليمنية الراهنة يحبون شعبهم ويؤمنون بعدالة قضيتهم ويتقبلون كل نقد بنّاء بصدر رحب. ‏

تعليقات الفيس بوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى