من مات فهو شهيد ومن عاش فهو عتيق تجويع الإمامة للشعب
د. ثابت الأحمدي
لا يشبه الإمامة من الكائنات الحية إلا الطفيليات. تعتاشُ الطفيليات داخل جسم الإنسان على غذائه وشرابه ودمه، حتى تأتيَ عليه وعلى صحته، كما هو الشأن مع الكيان الإمام البغيض، يعتاشُ عبر التاريخ على حقوق الناس وممتلكاتهم، بطرقٍ احتيالية عدة، تارة باسم السماء كزكاة ونذور وخمس، وتارة تحت مسمى الضرائب والمكوس، عرفت باسم “مطلبة” وهي أنواع كثيرة ذكرها المؤرخ يحيى بن الحسين القاسمي في كتابه بهجة الزمن في تاريخ اليمن، ومنها: “وهِي مطلبة التبن لمن شَرم أو لم يشرم، ومطلبةُ الصَّلاة لمن صلى أو لم يصل، ومطلبة الرياح/ الرباح، ومطلبة البارود والرصَاص، ومطلبة سُفرة الوالي، ومطلبة دار الضَّرب، ومطلبة ضيفة العيدين والمعونة.. “إلخ. هذا إلى جانب ما عُرف بـ “واجبات المستقبل”.
وواجبات المستقبل تعني تسليم زكاة الأعوام المقبلة، وخاصة حين يشتد الصِّرَاع بين المتنافسين والخصوم من العاملين والخراصين والجُباة، ويقيسون زكوات السَّنوات المقبلة على السَّنة الحالية، وذلك من أجْل الإثراء السَّريع وضمانِ ألا تذهبَ لغير العاملِ في المنطقة المكلف بها في السَّنوات القادمة.. !
وقد ابتدأت هذه العادة من أيام الطاغية الأول يحيى حسين الرسي نفسه الذي فرض دفع الزكاة سلفا قبل وقت طويل من الحصاد؛ الأمر الذي أفضى إلى نتيجتين اثنتين:
1ــ الجوع، لأنّ الرعية كانت مضطرة تحت سطوة جنود هذا الإمام أو ذاك إلى تسليم كافة ما حصدوه للإمام، لأن الإمام وحده كان يستأثر بأكثر من نصف غلات الرعايا، فيما كان العمال والقضاة والجنود والمخمنون والخراصون يستغلون ما تبقى. ويُعتبر الإمَامُ المتوكل أحمد بن سليمان، ت. 566، أولَ من دشَّن الطيافةَ والمُخمّنين لتقدير أمْوال المزارعين قبل نضج ثمارها، ثم قبضها حين يحين حصادها أو تنضج ثمرتها، وانقطعت فترة وكانت تُسلم بالأمانة، حتى أعادها الإمَامُ المتوكل، واتخذها الأئمَّة من بعده عادةً جارية حتى عهد بيت حميد الدين، بل لقد كان الإمام يحيى نفسه ووالده موظفا سابقا لدى الأتراك “جابي ضرائب” وحين وصل إلى الإمامة مارسها بذهنية “جابي الضرائب” ولم يكن يرى في الشعب غير مزرعة واسعة له ولقومه. فانتشرت المجاعات في مختلف القرى والمناطق، ومعها انتشرت الأوبئة والأمراض بمختلف أنواعها. وهو ذات الشأن اليوم مع الجماعة الحوثية الإيرانية التي فرضت الجبايات المتعددة على الناس، سواء استوفت الشروط أم لم تستوف، حتى صار التجار وكأنهم مجرد محصلين للأموال من الشعب إلى هذه الجماعة.
2ــ عدم استصلاح الأراضي وزراعتها. وهي نتيجة طبيعية حين وجد الناسُ أنهم مجرد عمال لدى الإمام ونائبه وعماله، ولا يستطيعون الحصول إلى نصف ما يحصدونه، فعمدوا إلى التراخي، كما عمد بعضهم إلى الهجرة خارج اليمن، وخاصة أيام الإمامة القاسمية، وقد كانت شرق أفريقيا هي وجهتهم الرئيسية، ومن هناك يقطعون بقية البلدان، سواء إلى شمال أفريقيا أو إلى أوساطها، على ما في الهجرة والاغتراب حينها من المخاطر والانقطاع عن الأهل والبلد والتعرض للقتل والسلب وأيضا الغرق في البحر. وثمة قصيدتان اثنتان لكل من: مطهر الإرياني بعنوان “البالة” وأخرى للبردوني بعنوان “غريبان وكانا هما البلد” وفيهما تصوير بديع لحال اليمني في بلاد المهجر وللمآسي التي يتعرض لها جراء سياسة الأئمة الظالمة، ونفس الحال اليوم معهم أيضا حيث تشرد ما يزيد عن خمسة ملايين يمني، في الداخل أو الخارج، غادروا أهاليهم وديارهم ووظائفهم مكرهين، وقد سطت هذه الجماعة على كل شيء، بما في ذلك الأموال الخاصة للنازحين.
وتجدر الإشارة إلى طبيعة الاقتصاد “الريعي” الذي كان سائدا في السابق، خلاف طبيعة الاقتصاد اليوم، كان اقتصادا إعاشيًا، تقليديا، وبطرق بدائية أيضا، ويعتمد ــ في غالبه ــ على مزروعات الريف ومصنوعات الحضر البدائية أيضا.
لقد كانت سياسة الأئمة همجية تجاه الرعايا؛ إذ لم يكونوا يعطون موظفيهم رواتبَ شهريةً من خَزانة الدَّولة؛ بل يعمدون إلى إقطاع كل عامل أو مسؤول نسبةً ماليةً أو عينية محددة مما يتحصله من الناس، يقوم بخصْمها من واردات الجهات المعنيَّة به، وكذا الجند المقربون من الإمَامِ أو حَاشيتِه يطلق الإمام لهم العنان كالوحوش الكاسرة على الرعية، فعاش الأئمَّة ُفي ترفٍ ارسْتقراطي باذخ، عيشةَ الملوك، في الوقت الذي يتضورُ الشَّعبُ جوعًا وفقرًا مدقعًا، تنهشُهم أمراضُ القرونِ الأولى. فعلى سبيل المثال بلغ الجوعُ والمرضُ في عهد الإمام المهدي علي بن المهدي عبدالله “علي مقلى” مبلغًا لم يُعرف من قبل، فقد كانت الجنائزُ التي تخرجُ من أبوابِ صَنعاء لا تقل عن مئة وخمسين جَنازة في اليوم؛ بالإضَافة إلى نحو ثلاثين ممن يموتون من الجوع، حسبما ذكر المؤرخ حسين العمري في كتابه تاريخ اليمن الحديث. وقَدْ حدثت مجاعات مشابهة لها للناس في عهد الإمَام يحيى أكثر من مرة، في الوقت الذي كان ينام على كنوز من الذهب والفضة، وعلى مئات مخازن الحبوب، ولم يصرفها للناس، فكان ابنه الحسن يقوم بتصدير بعضها إلى الخارج لحسابه الشخصي وهِي المحسوبة على بيت المال. وحين تقدَّم إليه أحد الوجهاء بمذكرة شرح له فيها حالة النَّاس التي بلغت بهم حد الموت من الجوع، أجاب عليها والده الإمام: من عاش فهو عتيق، ومن مات فهو شهيد.! بل لقد ذكر الشاعر مطهر الإرياني أن الناس كانوا يموتون في الطرقات جوعا في عهد الإمام يحيى، في منتصف أربعينيات القرن الماضي، فيما مخازن الحبوب والغلال ملآى بمختلف أنواع الحبوب التي يحتكرها الإمام له ولأسرته، وأيضا للبيع. واليوم هاهم قد أطلقوا لأتباعهم ومناصريهم الزمام كالكلاب الضالة، تستحوذ وتنهب وتصادر بالإكراه والقهر بصورة لا مثيل لها.
وفي عهد الإمام أحمد من بعده ذكر الرئيس الراحل القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكراته أن عدد اليمنيين الذين كانوا يموتون من الجوع مئة ألف يمني سنويا، كما هو الشأن مع الجماعة الحوثية الإيرانية التي حولت اليمن كله إلى مناحة جماعية، وإلى بيوت عزاء، وقد جرجرت الشباب والأطفال إلى حرب عبثية لا لشيء إلا من أجل أن يحكم سيدهم فقط، كما أصبحت أعداد المقابر ومساحاتها تنافس أعداد ومساحات المزارع التي جفت آبارها وصارت قاحلة في السنوات الأخيرة.
وثمة قصيدة لأبي الأحرار الزبيري عنوانها: “العجوز وعَسْكري الإمام” تُجسد نضالاتِ المرأة ضد هَذا الطغيان الغاشم، في حوارية ديناميكية، يقول فيها:
المرأة:
يا رب كيف خلقت الجند ليس لهم عندي طعامٌ ولا شاء ولا نعم
ويلاه مالي أرى وحشًا وبندقه أذلك العسْكري الغاشم النهم
العسكري :
نعمْ أنا البطلُ المغوار جئت إلى عجوزة لم يهذب طبعَها الهرم
إنا جنود أمير المؤمنين فلمَ لا تذبحي الكبش يا حمقاء دونهمو؟
أين الدجاجةُ؟ أين القات؟ فابتدري إنا جياعٌ وما في حيكم كرم
المرأة :
يا سيدي ليس لي مالٌ ولا نشبٌ ولا رجالٌ ولا أهلٌ ولا رحم
إلا بني الذي يبكي لمسغبةٍ وتلك أدمعه الحمراء تنسجم
وهذه البيدُ فاقطف من هواجرها ما شئت إنا إلى الرحمن نحتكم
ماذا يريدون من جوعي ومسغبتي إني لكالحمل المشوي بينهمُ
يطلبون زكاةَ الأرض؟ ليس بها إلا الحِمام وإلا الحجر والرخم
أم جزية الكوخ ؟ لا كانت جوانبه السوداء ولا نهضت في ظله قدم
أم قيمة القبر قبل الموت وا أسفًا الكوخُ قبري فما للظالمين عموا؟!
العسكري :
إني إذن راجعٌ للكوخ أهدمه يا “شافعية” إن الكذبَ دأبُكمُ
باختصار.. تاريخ الإمامة هو تاريخ الفقر والجوع والمرض، والواقع خير شاهد اليوم مع الإمامة الجديدة التي تعتبر نسخة أخرى من آبائهم وأجدادهم الطغاة.