الشهيد المناضل محمد الجرادي سيرة نضال مكتملة
د. ثابت الأحمدي
لا يليقُ بالبطلِ إلا نهاية سامورائية، تترجم عظمة نفسه وسمو روحه.. ينتصر أو يموت..!
لا تكمنُ العظمة في الشهرة المفرغة من محتواها الأخلاقي والقِيمي، ولا يكون الخلود في اختلاق أوهام بطولات يسجلها البعضُ هنا أو هناك. العظمة موقف، والخلود ثبات على الموقف حتى الرمق الأخير. هذا ما تجسده لنا سيرة البطل الوطني الغيور اللواء محمد الجرادي، ابن اليمن، كل اليمن، الضابط المحترم، الوفي لشرفه العسكري، والمنتمي لتربة أرضه.
جندي الوطن الشجاع، صاحب العقيدة العسكرية العتيدة الذي قاتل أحفاد مزدك وبابك الخرمي في الثمانينيات مع رفاقه الأبطال، على رأسهم رفيق دربه المناضل الشهيد أحمد الأبارة وآخرون، لبُّوا داعيَ العروبة في العراق، بقيادة الشهيد صدام حسين، رحمهم الله جميعا. وتواصلت مسيرةُ البطل الجرادي في الحروب الستة ضد الحوثي، مكللا هذه السيرة النضالية بمواقفه الوطنية في مارب منذ انقلاب الحوثي في 2014م، وحتى آخر لحظة من حياته. يا لها من سيرة باذخةِ العطاء، وأي سيرة؟!
أتأملُ في “ألف باء” الصورة الأخيرة التي اختتم حياته بها، والواقع أني لا أشاهدُها مجرد المشاهدة، كما قد يفعل البعض، ولكني أقرؤها. نعم أقرأ الصورة قراءةً، كما لو أني أتصفح سفرًا ضخما بين يدي. إنها تقول كل شيء بلغة الصمت، تترجم بطولاتِ الشهيد التي أدّاها بصمت الرجال خلال تلك المسيرة الطويلة.
لفظَ نفسَه الأخيرَ كأبطالِ اليمنِ العُظماء من قبله: علي عبدالمغني، الزبيري، القشيبي، الشدادي، الأبارة، شعلان، وغيرهم الذين رَووا تربة اليمن الغالي بدمائهم الزكية، في مواجهة عصابة الرجس البغية، ولا يليق بالكبار إلا أن ينتهوا هذه النهاية المشرفة.
العميد الجرادي مدرسة عسكرية في نضاله العتيد، ومدرسة عسكرية في مواقفه الوفية، من الانطلاق حتى الخاتمة، والتي اشتُقت من صلابة جبال ريمة الشامخة، وزادتها قوةً عنفوانُ صحارى مارب، ولسان حاله:
مُذ بدأنا الشوط جوهرنا الحصى
بالدم الغالي وفردســــنا الرمال
وانزرعنا تحت أمطار الفــــــا
شجرًا ملء المدى أعيا الـزوال
شجرا يحضن أعمــــاق الثرى
ويعير الريح أطــراف الظّلال
نحن هذي الأرض فيها نلتـظي
وهي فينا عنفـوان واقتتــــــال
من روابي لحمنا هـــذي الربى
من رُبى أعظمنا هذي الجبـال
نعم.. انزرعنا شجرا نحضنُ أعماقَ الثرى. وها هو شهيدُ الوطن الكبير يحضنُ ثرى تربته التي سقته ماءها، مضرجًا بدمائه الزكية هو ورفيقه، بينما كان متجها في مهمة وطنية ضمن أعماله اليومية. وكل يمني سبتمبري أكتوبري هو شجرة الوطن الملتحمة بثراه، المتجذرة بتربته. لفظ نفسه الأخير ملتحما بالأرض، حاضنا أعماق الثرى، وفق الإشارة البردونية الصادقة. ولعمري لو سُئل الشهيدُ عن شعوره الأخير هذا، لأجاب إجابة برودونية: “ضميتُه ملءَ صدري، إنه وطني”.
شهيد الوطن الكبير.. أخاطبُ روحك السامقة في ملكوتها الأعلى، وقد سجلتَ للأجيال سفرًا من أسفار العظمة والخلود، ستظل فنارات ضوءٍ ومشاعل هداية لتلاميذك ومحبيك من بعدك. أخاطب روحك الأبية، وأقول: يوما ما سوف يزهرُ دمُك الغالي الذي سفحتَه على ثرى وطنك، مُدافعًا عن الأرض والعِرض، وقد أكملتَ فريضة النضال وسننها ونوافلها. حين قتلوا الزبيري من قبلك خلق الوطن ألف زبيري، وحتما سيتخلق في المستقبل ألف جرادي وجرادي يترسمون خُطاك الملهِمة.
دمُك المسفوح اليوم على أديم الأرض خطّ سفرًا من ألفِ حكايةٍ وحكاية، تُموسقُ أجيالُ الغد فصولَها المكتنزة بعقاراتِ القيم، الزاخرةِ بروائع النضال.
روحك العظيمة باقية أبدَ الدهر.. سيرتك محكيّاتُ السُّمّار.. صمودك إلهامُ الأحرار.
شهيد الوطن الكبير.. لأنك البطل الاستثنائي في الزمن الاستثنائي فقد أبت صحارى مارب بامتدادها الفسيح، وأطرافها المترامية إلا أن ترتوي من دمك الزكي، وهل تختارُ الأرضُ الطيبة إلا أطيبَ السُّقى؟! أبت أرضُ الحضارةِ بسعةِ آفاقها إلا أن تحضنَ بداخلها جبلا من جبال ريمة، أو قل من جبال اليمن الشمّاء، كما احتضنت من قبلُ في مسافة قريبة منك جبلا من جبال سبتمبر المعظم، الشهيد البطل علي عبدالمغني، والشهيد الشدادي، والشهيد شعلان، وغير بعيد عنكم أيضا أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري. وكل هؤلاء الأبطال قتلتهم عصابة الرجس وسلالة الإفك الإمامية البغيضة.
شهيد الوطن الكبير.. ارتفعتَ شهيدا، ببزتك العسكرية، برتبتك الفخمة، بروحك الأبية، بنشاطٍ لا يكل ولا يملُّ، وأنت تؤدي واجبك الوطني المقدس، مترقبا ساعة النصر ولحظات الفرح، مسلّمًا الراية إلى تلاميذك الأوفياء من بعدك، وثق أنهم على قدر المسؤولية وعلى مستوى المهمة.
أيها الشهيد.. سلامي لروحك..