في مدار الضوء
-كتب عبد الوهاب هيلان
من أراد أن يعرف كيف يكون المرءُ نتاجاً للمعرفة الإنسانية العميقة التي لبُّها ولبابها الأدب وكيف يكون الإتزان الذي تحدثه تلك المعرفة في الشخص والشخصية فليتأمل في شخصية الدكتور القدير الراحل عبدالعزيز المقالح.
لو لم أكن قد عرفته عن قرب وعن بعد من خلال مساحاتٍ ومنافذ عدة لكان النموذج المتخيل للكمال الإنساني الذي أتحدث عنه هو نموذج الدكتور القدير نفسه أو مثلُه.
وإذا كان الأديب -أي أديب حقيقي-عرضةً بين الحين والحين لشيء من حالات الزهو الأدبي – إن جاز التعبير – فإن حالة الزهو هذه تأخذ أبهى صورها لدى الأديب حين يكون في حضرة وحضور أديبٍ باذخ البهاء كالدكتور عبد العزيز المقالح.
لن تعوِّض الأحاديث والكتابات عن الدكتور عبد العزيز المقالح في رحيله- مهما أخذت زينتها -للأجيال القادمة فقدان عامل الحضور الشخصي والكاريزمي لشخصيته الفريدة !
فالتعبير أو الإيحاء الكاريزمي لهذه الشخصية يقول ما لا تستطيعه الألسن والقلوب !
لذا إن كان هناك من أثرٍ فاجعٍ حقاً لرحيل شخص أستاذنا الكبير فإنه -في اعتقادي-يكمن في هذا الغياب الشكلي على وجه التحديد !
قال أحد الأصدقاء المغرمين ذات يوم في معرض ذكر المقالح:
لا أستطيع أن أتخيل جامعة صنعاء من دون أن يكون المقالح رئيساً لها !
قلت :يكاد هذا يكون انطباع الجميع !
كما أني لا أستطيع كذلك أن أستحضر الأدب والثقافة عموماً دون أن يكون المقالح رمزاً من رموزها!
لقد استوطن المقالح وجدان الكثير من الناس ليس من خلال أدبه أو نشاطه المعرفي المتميز فحسب ؛ وإنما أيضاً من خلال مزاياه الإنسانية الفريدة التي قلما تراها مجتمعةً في نفس، ولعل أبرز تلك المزايا وأصعبها -بالإضافة إلى صفة التواضع الجم ،والشفافية ،و مجاملة الجميع ،هي قدرته على التكيف مع المحيط أياً كان ،والتأقلم مع ما لا يطاق من الأحياء والأشياء على الرغم من حساسيته الأدبية المفرطة !
أتذكر مما أتذكره في أواخر التسعينات -وهي الفترة التي ترددتُ فيها لبعض الوقت على منتداه الأدبي الأسبوعي في مركز الدراسات والبحوث أن ممن كانوا يرتادون المنتدى من كان يتعمد-في بعض الأحيان- استفزازه ببعض المشاركات التي تحمل ما يشبه رسائل التحذير والتهديد السياسي المبطن ،أو تحاول المقارنة بينه وبين الشاعر عبد الله البردوني الذي كانت تربطه به علاقة إخاء و صداقة راقية، فكان -خاصة تجاه هذه الأخيرة – يغتاظ إلى الحد الذي يخرجه عن طوره أحياناً من حيث لا يحب .
وعلى الرغم من ذلك كان يتكرر حضور نفس الأشخاص ويستمر في ملاطفتهم ومجاملتهم وكأن شيئاً لم يكن …
الحديث عن الشاعر الإنسان عبد العزيز المقالح -وهو ما هو عليه- ليس بالأمر السهل ولا الهيّن ،ومحاولة ذلك أشبه بمحاولة الإمساك بشعاعٍ من شمس أو نسمة هواء !
ولم تكن هذه الكلمات العابرة إلا استجابة لاشعورية لبواعث الشجى التي استثارها حدثُ الرحيل !
ولا أُعد ما قلته الآن حتى نقطةً في بحر هذا الضوء الخالد.
لعمرك ما الرزِيَّة فقدُ مالٍ
و لا شاةٌ تموتُ و لا بعيرُ
و لكن الرزية فقدُ حرٍ
يموتُ لموتهِ خلقٌ كثيرُ .