رشاد العليمي.. رجل الدولة في زمن الأزمات وإعادة بناء اليمن وسط العواصف

د.محمد العرب
في زمن التحولات الكبرى، حيث تتشابك الأزمات وتتعاظم التحديات، تبرز الحاجة إلى قيادة تمتلك رؤية استراتيجية صلبة وقدرة على المناورة بين التعقيدات المحلية والإقليمية والدولية. في المشهد اليمني الذي يتقاذفه الصراع والاجندات منذ سنوات، يقف الرئيس رشاد محمد العليمي على رأس مجلس القيادة الرئاسي، متحملاً مسؤولية تاريخية تتطلب حنكة استثنائية وإدارة دقيقة للأولويات وسط حقول ألغام سياسية وعسكرية واقتصادية.
يدرك العليمي أن الأزمة اليمنية ليست مجرد صراع عسكري أو سياسي، بل هي مأزق متعدد الأبعاد يتطلب مقاربة تجمع بين القوة والمرونة، بين الحسم والدبلوماسية، وبين الواقعية والطموح. منذ تسلمه زمام القيادة، أظهر فهماً عميقاً لتعقيدات المشهد اليمني، واستطاع أن يوازن بين القوى المتصارعة، محافظاً على وحدة المجلس الرئاسي ، ونجح في تعزيز ثقة الحلفاء الإقليميين والدوليين بقدرته على إدارة المرحلة.
ما يميز استراتيجية العليمي أنه لا يتعامل مع الملف اليمني كأزمة معزولة، بل كجزء من المشهد الإقليمي والدولي، مدركاً أن استقرار اليمن مرتبط بالتحولات الجيوسياسية الكبرى. فهو يدرك أن تحقيق السلام والاستقرار لن يكون ممكناً دون بناء شبكة تحالفات متينة، تعزز من قدرة الحكومة اليمنية على الصمود والمناورة. ومن هنا، عمل على ترسيخ علاقات وثيقة مع الأشقاء في التحالف العربي، مؤكداً على أن الحل في اليمن لا يمكن أن يكون إلا ضمن إطار عربي، يحمي مصالح اليمنيين ويقطع الطريق على التدخلات الخارجية التي تحاول إعادة تشكيل المشهد بما يخدم أجندات لا علاقة لها بمستقبل اليمن.
الاقتصاد، باعتباره العصب الحيوي لاستعادة الدولة، لم يكن غائباً عن أولويات العليمي. لقد أدرك مبكراً أن أي انتصار سياسي أو عسكري لا يمكن أن يُترجم إلى استقرار حقيقي دون معالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة. لذلك، عمل على إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية، محاولاً تحقيق توازن بين الاستجابة للأزمات الطارئة، مثل أزمة المرتبات وقوة العملة، وبين وضع خطط طويلة المدى لتعافي الاقتصاد.
تحركاته في هذا الملف لم تكن مجرد إجراءات تقنية، بل جاءت ضمن رؤية استراتيجية تهدف إلى تحرير الاقتصاد من الهيمنة والفساد، وخلق بيئة تمكن اليمنيين من استعادة دورة الحياة الطبيعية.
على الصعيد العسكري، واجه العليمي معادلة معقدة، حيث لا يمكن للحل السياسي أن ينجح دون وجود قوة عسكرية تفرض معادلة جديدة على الأرض، وفي الوقت ذاته، لا يمكن للحسم العسكري وحده أن يحقق سلاماً مستداماً. ومن هذا المنطلق، تبنى سياسة إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية، متجنباً الوقوع في الفوضى التي أفرزتها تعددية الولاءات المسلحة، وسعى إلى خلق جيش وطني قادر على الدفاع عن اليمن دون أن يكون أداة لمشاريع ضيقة. هذه المقاربة، رغم صعوبتها، تعكس إدراكه بأن البناء العسكري يجب أن يكون قائماً على أسس وطنية لا على حسابات آنية قد تعيد إنتاج الفوضى لاحقًا.
داخلياً تعامل العليمي مع الملفات الشائكة بحذر ودراية، مدركاً أن أي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى انقسامات تعيق عملية استعادة الدولة. وقد أظهر قدرة على امتصاص التوترات، متجنباً الانجرار إلى معارك جانبية، ومركزاً على الحفاظ على وحدة الصف الوطني في مواجهة التحديات الكبرى. لم يكن ذلك سهلاً في ظل تباين المصالح وتضارب الأولويات داخل القوى المختلفة، لكنه استطاع حتى الآن أن يحافظ على تماسك مجلس القيادة الرئاسي، واضعاً مصلحة اليمن فوق كل الاعتبارات.
في المجال الدبلوماسي، عزز العليمي موقع اليمن على الخارطة الدولية، مؤكداً أن بلاده ليست مجرد ملف إنساني، بل قضية سيادية تتطلب دعماً سياسياً واقتصادياً وأمنياً ، لقد سعى إلى إبقاء القضية اليمنية ضمن دائرة الاهتمام الدولي، معتمداً على مزيج من الدبلوماسية الهادئة والتحركات الاستراتيجية التي أثمرت عن دعم متزايد للحكومة الشرعية في المحافل الدولية.
لكن التحدي الأكبر الذي يواجه العليمي هو كيفية تحقيق السلام دون تقديم تنازلات تمس جوهر الدولة اليمنية. فبينما تسعى بعض الأطراف لفرض تسويات قد تعيد إنتاج الأزمة، يدرك العليمي أن أي اتفاق لا يستند إلى مرجعيات واضحة، تضمن استعادة مؤسسات الدولة وسيادتها، لن يكون إلا مقدمة لجولة جديدة من الصراع. لذلك، ظل موقفه ثابتاً في التأكيد على أن السلام لا يعني الاستسلام، وأن أي حل سياسي يجب أن يكون قائماً على أسس تضمن عدم تكرار الأخطاء التي أدت إلى انهيار الدولة في المقام الأول.
رغم كل الضغوط والتحديات، يواصل العليمي العمل وسط زحام الملفات الملتهبة، مدفوعاً بإرادة لا تلين، ورؤية لا تقتصر على إدارة الأزمات، بل تمتد إلى إعادة بناء اليمن من جديد. هو يدرك أن المهمة شاقة، لكنه أيضاً يعرف أن التاريخ لا يذكر من استسلموا للعواصف، بل من واجهوها بثبات وصنعوا من ركام الأزمات جسوراً للمستقبل. وفي اليمن، الذي أنهكته الحروب، لا تزال هناك فرصة لمن يؤمن أن الدولة لا تُبنى بالشعارات، بل بالعمل المتواصل والإرادة الصلبة.