ثقافات متعددة وهُوُية واحدة
د. ثابت الأحمدي
لا نحتاجُ لمزيدِ جهد من التأمل في ثقافات الشُّعوب وتباين عاداتها وتقاليدها الداخلية، وخاصة البلدان التاريخية العريقة ذات الصّبغة الحضَارية كالصين والهند ومصر واليونان والرومان والفرس والترك واليابان.. إلخ.
هذه شعوبٌ ذات أنظمة اجتماعيّة وثقافيّة “مُركّبة”، حد التباين أحيانا، شهدت حروبًا تاريخية عنيفة ومعارك متوحشة فيما بينها في الأزمنة الماضية، ومع تشكل الدولة الوطنية الحديثة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، تداخلت هذه الثقافاتُ فيما بينها إلى حد كبير، واستطاعت أن تشكل فيما بعد “هُوُيّة” واحدة موحدة، مع الحفاظ على الخصوصية المحلية أو الذاتية لكل جماعة. أي أن الدولة اكتسبت صبغة هُوُيّاتية جامعة للكل، حد تشكل ما سماه البعض “أيديولوجيا الدولة” التي تُعتبر بمثابة عقيدة راسخة في الوعي العام الجمعي للشعوب. كما هو الشأن لدى الأمريكان والأوروبيين والنمور الأسيوية السبعة، والصين والهند وتركيا وإيران.
تتكونُ الهند من ثقافاتٍ متعددة، لكل ثقافة خصوصيتها المحلية، وذات الشأن مع الصين، وبقية الشعوب المذكورة، غير أن هذه الثقافات لا ترتبط وجدانيًا أو أيديولوجيًا بأي جماعات أخرى خارج أوطانها. وإن حصل ذلك اعتُبرت من الخيانات الوطنية التي تستحق العقوبات القاسية بحق الأفراد أو الجماعات، ففي اليابان منذ بداية القرن السابع عشر اعتُبرت المسيحية أيديولوجيا محرمة، يُقتل من يعتنقها؛ بل لقد قامت بتصفيات دموية وإعدامات ميدانية لكل ياباني متنصر، بعد أن اعتبرت كلَّ عنصرٍ منهم خطرًا على الأمن القومي الياباني، وحظرت كل الكتب والمنشورات المتعلقة بالمسيحية التي كانت قد تسللت إليها، ففر من نجا وأصر على تنصُّره من اليابانيين عبر البحر إلى الخارج، ولم يعد بعدها إلى اليابان، وزيادة في الاحتياط قررت الحكومة منع تعلم أي لغة أوروبية، حتى لا تتسلل التعاليم المسيحية الأوروبية عن طريق اللغة..!
ليس ذلك فحسب؛ بل لقد قامت بإغلاق موانئها البحرية ضد سفن التجارة الأوروبية، ودخلت في عزلة طوعية، دامت حتى أواسط القرن التاسع عشر، حفاظا على أمنها السيادي وهويتها القومية من الغزو الثقافي الخارجي..!
حتى السفن اليابانية والتجار اليابانيين أنفسهم، لم تكن تُبحر إلا سفن الدولة فقط، ولم تكن التجارة إلا عن طريق الدولة فقط، ومع الكوريين أو الصينيين لا غير، ولا يحق لأي ياباني الاتجار مع التجار الأوروبيين بصورة مباشرة، أو حتى تخزين شيء من بضائعهم لدى مخازن التجار اليابانيين دون إشعار الدولة وإشرافها عليه مباشرة، وفي بعض الموانئ المحددة سلفًا، وليس الكل.
وقررت الدولة اليابانية حينها أنَّ أي ياباني يقضي فترة أكثر من خمس سنوات خارج اليابان يتم إعدامه إذا حاول العودة، وكذا يُعدم كل مواطن يحاولُ مغادرة اليابان سرًا نحو أي دولة.
هذه العزلة المفروضة بقوة الدولة على ما فيها من السلبيات إلا أنها حفظت للدولة ثقافتها القومية، ومنظومة القيم الأخلاقية اليابانية، وحافظت على سيادة البلد، وقد رفعت آنذاك شعارها الثلاثي “شي، جين، يو” وتعني: الحكمة واليقظة والشجاعة.
وفي أواخر عصر تركيا العثمانية ــ وعلى الرغم من كونها لا تزال امبراطورية مترامية الأطراف مطلع القرن العشرين ــ إلا أنها تعاطت مع الأرمن “الأرثوذكس” بقسوة بالغة، وقد اشتمت منهم رائحة خيانة وطنية، حين جنحوا فكريا لبني عمومتهم الروس الأرثوذكس نهاية فترة روسيا القيصرية، وانتهى الأمر بثاني أكبر مجزرة عرقية في القرن العشرين بعد الهولوكست التي كانت بعدها.
الولايات المتحدة الأمريكية متشكلة من عشرات الثقافات؛ لكن هويتها الجمعية بروتستانتية، ألمانيا خليط من أيديولوجيات متعددة؛ لكن الهوية الألمانية موحدة باعتزاز مبالغ فيه، إلى حد احتقارهم لمن يتكلم الإنجليزية داخل المجتمع الألماني، على الرغم من الجذر اللاتيني الذي يجمع بين اللغتين..!
ذات الشأن لدى إيران التي تعتبر خليطا من عشرات الأعراق والثقافات والعقائد، إلا أن الجميع ينتمي إلى الهُوية الفارسية، ومن ثبت تواصله مع أي كيان خارج الدولة تم اجتثاثه والتنكيل به؛ على الرغم من أن العرقية الفارسية لا تزيد عن 51% من إجمالي الهُويات والأعراق الأخرى التي تمثل 49% من مجموع الشعب الإيراني.
في مصر يتواجد المسيحيون داخل المجتمع المصري من قبل الإسلام بثقافتهم الأرثوذكسية التي استعصت على تذويبها من قبل الغزاة الكاثوليك سابقا، لكنهم مصريو الهوية والهوى إلى اليوم، وأتذكر بالمناسبة هنا تصريحا لرئيس الطائفة المسيحية الإنجيلية بمصر عن رؤيته لعلاقته بشيخ الأزهر، قال: شيخ الأزهر ليس إماما للمسلمين فحسب؛ إنما إمام لكل المصريين، في إشارة إلى انضواء المسيحيين في الهُوية المصرية، وإن كانوا بثقافة دينية مغايرة للأغلبية المسلمة هناك.
نحنُ في اليمن شعبٌ وأمة ذات تاريخ وحضارة عريقة، لا تقل عن حضارة أيٍّ من الشعوب المذكورة آنفا، ومع أن العرق والديانة والهُويّة والثقافة والتاريخ واحد، إلا أن ثمة من ينتمي وجدانيا إلى ثقافة مغايرة كل المغايرة لمجتمعنا وثقافتنا وحضارتنا، من ينتمي لإيران الفارسية، مُتنكرًا ليمنيّته ولعروبته ولدينه الصحيح. يُقدس “قم وطهران وشيراز وأصفهان وخراسان”، ويهاجم مكة والمدينة بالصواريخ والدرونز. يقدس الخميني وسليماني ويتنكر لجيرانه في الجزيرة العربية..! يحنُّ للشهربانو ويتنكر لبلقيس..!
الدولة الوطنيّة المعاصرة بتركيبها الثلاثية: “الأرض، الشعب، النظام السياسي”، تربطُ بين المنتمين إليها المصلحة الواحدة، فيما كهنة الإمامة في اليمن لا يزالون مشدودين إلى أوهام الأيديولوجيا وخرافات القرون الأولى، وأساطير علي وفاطمة..!