لا جاهليّـــة فــي اليمــــــنِ قبل الإســـــــــــــــلام
د. ثابت الأحمدي
اصطلح بعضُ المؤرخين ــ المسلمين والعرب تحديدًا ــ على تسمية فترةٍ من تاريخ العصر الوسيط بالعصر الجاهلي. أي فترة ما قبل الإسلام، اختلف البعضُ في تحديد فترتها ” يحددها مؤرخو الأدب العربي ب 150 سنة قبل الإسلام”. ومصطلح “الجاهلية” بقدر ما يحملُ من إشارةٍ تاريخيّة إلى الفترة المذكورة من وجهة نظر المؤرخين، أيضًا يحمل مدلولا ثقافيًا ودينيًا، لدى كثيرٍ من “رجال الدين” وزادته أدبياتُ الإسلاميين توكيدًا، وخاصّة في القرن العشرين. وفي تنظيرات “سيد قطب” وأخيه “محمد قطب” الكثير من التأكيد على ذلك؛ إذ المدلولُ من وجهة نظرهما ثقافيٌّ عقائديٌّ أكثر منه تاريخي؛ فهما يقرران أنّ الجاهليّة ــ من وجهة نظرهما ــ ليست فترة من الزمنِ مضتْ وانتهتْ، وإنما حالة متكررةٌ كلما ابتعد الناسُ عن الدين، حد تعبيرهما، نافيَيْن عن أي مجتمعٍ صفةَ المدنيّة والحضَارة في حالِ لم يكن متديّنًا، أو ملتزمًا بالدين، بما في ذلك مجتمعهما المصري الذي دعيا الناسَ إلى اعتزاله “شُعوريًّا” وفقًا لتعبير سيد قطب..!!
وما دريا أنهما بهذه الأحكام الحدّيّة ينفيان صفة المدنيّة والحضارة عن العالم الغربي اليوم، وعن الصين وشرق آسيا عُمومًا؛ كونها مجتمعات علمانية، الدين فيها محصورٌ في شؤونه الخاصّة، ولا علاقة له بالحكم والسياسة. والحكمُ هي الفكرةُ الجوهريّة التي دار حولها فكرُ سيد قطب، متأثرًا ــ في الأساس ــ بالشيخ أبي الأعلى المودودي. وهذا موضوع يبدو الغوصُ في تفاصيله بعيدًا عن فكرتنا.
والواقعُ أن دلالة هذا المصطلح تبدو صحيحة جزئيًا. بمعنًى آخر: قد تنطبق على جغرافيا معينة، لكنها لا تنطبقُ على بقية الجغرافيات في المنطقة. هذه الجغرافيا المقصودة هنا هي جغرافية وسط الجزيرة العربيّة فقط؛ فأهلها كانوا أهل “وَبَر”؛ أي أهل بداوة؛ خلافا لجنوب الجزيرة العربيّة وشمالها وشرقها؛ لأن أهلها أهل “مدر”؛ أي أهل حضارة، إذا ما استعرنا المصطلح “الخلدوني” في التقسيم.
كانت تحيط بوسط الجزيرة العربيّة من الجنوب: حضارة سبأ ومعين وأوسان وقتبان وحمير. ومن الشرق حضارة بابل في العراق، ومن الشمال حضارة آشور وفينيق في سوريا وبلاد الشام عمومًا، وإن كان الفينيقيون ينحدرون من أصول يمنية، كما يقررُ بعضُ الباحثين. كما تتصلُ أيضا بهذه الحضارات الحضارةُ الفرعونية في مصر، وبقايا من الحضارة الرومانية في المغرب العربي والشام، ومنها ما عُرف بمُدنِ البحار الحضارية في العصر الوسيط، مثل قرطاجنة والاسكندرونة والاسكندرية وحيفا، وغيرها. وهي حضاراتٌ لها امتدادُها الزمني عبر آلاف السنين، وكانت على قدرٍ كبيرٍ من التمدن والتحضر، ويصعبُ إسقاط كلمة “الجاهليّة” عليها، ومن الاستحالة التقاء الحضارة والجاهلية معا..!
ويُهِمُّنا في هذه التناولة نفي صفة الجاهليّة عن أهل اليمن قبل الإسلام، مع الإشارة إلى أن الإسلام بدأ في جذوره الأولى ابتدأ من هذه الجغرافيا، ولم تكن الشريعة المحمدية إلا المُتمِّمَة النهائية له؛ كون دعوة جميع الأنبياء هي الإسلام؛ لأنّ (الدين عندالله الإسلام). والرسول محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ يقول: “إنما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق”. وقد فصلتُ هذه المسألة باسترسالٍ في كتابَي: “ماذا يعني انتمائي لليمن”؟ و “اليمن.. الحقائق الخمس”.
كان اليمنيون أهلَ حضارة وتمدن، أدهشت الشرق والغرب معا، وقد أشاد بهذه الحضارة المؤرخون الأجانب قبل العرب والمسلمين، منذ مئات السنين، وحتى اليوم. فلا تزال أرضُ اليمن مسرحًا كبيرًا للاكتشافات الآثارية التي تعكس مدى تمدن ورقي ذلك الشعب في مرحلة ما قبل الإسلام. ومرة أخرى نؤكد أن قولنا: “ما قبل الإسلام” جريًا على ما هو شائع فقط، حتى صار في حكم القطعي من الصحيح، وإلا فقد عرف اليمنيون الإسلام منذ آلاف السنين.
نعم.. اليمنيون أهل حضارة، وليسوا من الجاهلية في شيء، وإن ظهرت بعض ملامح ما نعتبره اليوم جاهلية، لكنها كانت بفلسفة الزمان والمكان من السائد والمستساغ آنذاك، كما هو الشأن في كل المجتمعات، وما يدرينا اليوم، فلعلّ بعض سلوكياتنا وتصرفاتنا الحالية قد تصبح في الأزمنة القادمة مسخرة لأجيال تلك الأزمنة.
وحتى لا يكون الكلام من قبيل الادعاء، أو السرد الخيالي، نشير هنا إلى أبرز ملامح حضارة اليمن القديم، استدلالا وتوكيدا لما ذهبنا إليه، فبالمثال يتضح المقال، كما يُقال:
1ــ العُملة.. كانت لليمنيين عملة نقدية موحدة، بمختلف وحداتها النقدية، يتعاملون بها في أسواقهم، منذ آلاف السنين، خلافا لغيرهم الذين كانوا يعتمدون المقايضة العينيّة في البيع والشراء، أي بيع التمر بالحليب، وبيع البر بالشعير، وبيع اللحوم بالأجبان على سبيل المثال..!
2ــ كان لليمنيين قبل الإسلام تقويمٌ شمسي، وآخر قمري، وكانوا يحسبون بهما السنوات والشهور والأيام، ويعتمدون عليها في مواثيقهم وعهودهم التجارية والسياسية والاجتماعية، كما ذكرت نصوصُ المسند.
3ــ كان اليمنيون أهل تجارة وصناعة؛ وليست أي تجارة أو أي صناعة، كانت تجارتهم داخلية وخارجية، بقوانينها ولوائحها المنظمة لذلك، وكانت صناعتهم استخراجية، لما في باطن الأرض، لا صناعات حرفية؛ بما في ذلك صناعة الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وكانوا متحكمين بطرق التجارة العالمية التي عرفت بطريق الحرير وطريق البخور، البرية والبحرية. وقد برعوا كثيرًا فيها، ووصلوا إلى حد الثراء الفاحش؛ أمّا في صناعة السُّفن فلم يكن يُدانيهم أحد في ذلك؛ بل وفي قيادة السفن في مختلف المواسم، إذ كانوا ملاحين مهرة، وكانوا سادة البحار، كما ذكر المؤرخون الأجانب، وخاصة هيرودت واسترابو، وسانس وفيليب حتى، وغيرهم. ولم تكن هندسة القصور والمعابد إلا انعكاسًا للتقدم العلمي والحس الحضاري للشعب. ولا ننسى هنا الإشارة إلى أن سلعتَيْ: البخور واللبان كانتا تُباعان بوزنهما ذهَبًا لدى المجتمع الغربي؛ حيث كانوا يستخدمونهما هناك في طقوسهم الجنائزية والكنسية، وكانت من هدايا الملوك وكبار القوم لبعضهم البعض، إلى جانب استخداماتهما في التطبيب.
4ــ كانت لليمنيين قبل الإسلام منظومة قوانين سياسية ودينية، نظّمت حياةَ الناسِ في مختلف الجوانب، بعضُ تلك القوانين لا توجد اليوم على تقدم الزمن، إلى حد أن بناء المنازل كان يتمُّ بتصريحات رسميّة من مجلس المدينة، وكذا تأسيس مجاري المياه أو تعديلها، وهذا مثبت بالنصوص المسندية، وذكرتها كتب المؤرخين؛ أما عن التعاليم الدينيّة فقد كانت أغلب تشريعات الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم موجودة لدى اليمنيين سابقا، وفي منظومة قوانين نجران ما يكفي للاستدلال على ذلك، وقد عُرفت بمدونة القديس جرجنتيني”، وهي مكونة من 64 مادة، إضافة إلى النصوص الأخرى.
5ــ كان اليمنيون على قدرٍ عالٍ من الرفاه الاجتماعي إلى حد تزيين آنيتهم بالذهب والفضة، وتأثيث مساكنهم بأفخر الرياش والأثاث، وكانوا مستقرين في البيوت والقصور، ولم يكونوا بدوًا متنقلين في الخيام، كما ذكر المؤرخون، ومنهم استرابو الذي سمى اليمن: “بلاد الطّيب” والطّيبُ من أسماء الذهب قديمًا؛ بل لا يزال بعض من سكان المهرة يطلقون على الذهب: “الطيب/ الطيوب” إلى يومنا هذا. وفي ذلك قال الشاعر في وصف مارب:
وماربُ قد نطقت بالرُّخام وفي سقفها الذهبُ الأحمرُ
ويقول شاعر الرسول حسان بن ثابت مفاخرا باليمن، ومخاطبا قريش:
تعلمتم من منطق الشَّيْخ يعرب أبِينا فصرتم مُعربين ذوي نفر
وكنتم قديمًا ما لكم غير عُجمة كلاما وكنتم كالبهائم في القفر
كما يقول الشاعر دعبل الخزاعي في ذات المعنى:
من أية ثنية طَلعت قُريْشٌ وكانوا قبلنا مُتَنَبِّطِيْنا
6ــ ازدهرت الفنونُ في اليمن القديم بصورةٍ لا مثيلَ لها اليوم على تقدم الزمن، وكما يقال: “إنّ الفنونَ حربُ الأمم المتقدمة، بينما الحروبُ فنُّ الأمم المتخلفة”، فقد ازدهر النحت والرسم والتصوير والغناء إلى حد أن وجد من الملوك اليمنيين من الفنانين أنفسهم كالملك الحميري “ذوجدن” “السّامد” وسامد في الحميرية تعني: المغني، أو المُطرب.
7ــ بلغت المرأة في التاريخ القديم حالة متقدمة لم تشهدها اليمنُ ولا غيرُها من المجتمعات في المنطقة في الوقت الحالي؛ كبلقيس الملكة، وغير بلقيس؛ حيث برزت الكاهنة “برأت” التي تسنّمت منصبَ الكهانة الدينيّة “السّادن/ القيّم”. وكان للأميرة “لميس” دورٌ اجتماعيٌّ آخر، وغيرهن من النساء. وبروزُ النساء في أي مجتمع دليلٌ على تقدمه ورقيه الحضاري؛ لأنّ المجتمعاتِ المتخلفة تزدري المرأة وتحتقرها أيا كان دينها أو ثقافتها.
والسؤال هنا: عن أي جاهلية يتحدث هؤلاء المؤرخون ومن يسير في فلكهم؟!! ولعمري فإنَّ مصطلح جاهليّة اليوم أكثر انطباقا على حالنا منه في السّابق؛ أمّا في تاريخنا القديم فلا جهلَ ولا جاهليّة؛ بل حضارة وتقدم ورفاه..
والخلاصة: إن شعبًا كان يمتلك العُملات النقدية بكافة وحداتها، والتقويم التاريخي بأنواعه، والتجارة والصناعة ومنظومة القوانين والتشريعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، والرفاه الاجتماعي، والفنون الجميلة بأشكالها وأنواعها، ويحترم المرأة كما يحترم الرجل، لهو من التمدن والحضارة والرقي بمكان..! وبالتالي فلا جهل ولا جاهلية..!
ومن هذا المنطلق يجبُ علينا تصحيح مفاهيمنا التاريخية، وإعادة النظر في موروثنا القديم، لا للغرق في تفاصيله، وإنما للانطلاق منه، مستلهمين تجارب الآباء والأجداد، فجِيناتُ الحضارة تسري بين دماء شعبنا الذي أصيب بنكباتٍ متتاليةٍ، أفقدته الوعيَ بذاته والاعتزازَ بتاريخه.
الآن.. وبعد أن بانَ الصُّبح لذي عينين.. هل يستطيعُ قائل، أو متقول ما أن يقول: أننا كنا في جاهلية؟! هذا في حكم المُحال المُستحال، ولكن:
قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمد وينكرُ الفم طعم الماء من سقم
المكابرون كُثر، والمتآمرون على تاريخنا وحضارتنا من بني جلدتنا أكثر، والناهشون بمخالبهم في جسد الوطن أكثر وأكثر، قديمًا وحديثًا، وهاتوا لي إماميًّا واحدًا يشيرُ إلى حضارةِ اليمن وتاريخها وأمجادها، وإن تلميحًا..!