ثقافة وفن

تجليات المكان ودلالاته في روايات نجم شرف الدين .. قراءة نقدية تحليلية

كتب: نجيب الكبودي
في الوقت الذي تفتقد فيه المكتبة الروائية اليمنية الى الرواية التي تجسد جمالية وعجائبية مدننا اليمنية وما اختزلته معالمها ومآثرها وما شهدته أحياءها وأسواقها وأزقتها من أحداث وتفاصيل ، فقد جاءت الأعمال الروائية للروائي اليمني المقيم في قطر (نجم شرف الدين) لتأخذ على عاتقها هذه المهمة ، فجاءت بخطابها السردي المغاير والمتفرد لتجعل من تلك المدن مسرحا مفتوحا لأحداثها الروائية ولتصور لنا بأسلوبها السردي المتفرد الذي يجمع بين السرد الروائي والنثر الأدبي والشعر الغنائي والفانتازيا العجائبية جمالية وفرادة مدننا اليمنية ، وتنفض عنها غبار الزمن لتعيد اكتشافها وتقديمها لنا من جديد في أعمال روائية غاية في الإبداع.

وهو ما تجلى في النجاح الكبير للأعمال الروائية للكاتب نجم شرف الدين التي تناولت المدن والتي شارك بها في عديد من أكبر المعارض الدولية للكتاب كمعرض القاهرة الدولي للكتاب ومعرض الرياض الدولي للكتاب وغيرها من المعارض حيث نفدت بعض أعماله الروائية التي شارك بها خلال الأيام الأولى للعرض.

على النقيض من كتاب الرواية الكلاسيكية التقليدية الذين تناولوا “المدن” في أعمالهم الروائية ، فالروائي (نجم شرف الدين) لن تقرأ له نصا روائيا كلاسيكيا تقليديا، لأنك ببساطة ستجد نفسك تقرأ لروائي يجيد الرسم “بالكلمات!” ، كاتب استبدل قلم الروائي بفرشاة الرسام ، ليصيغ كلماته بلغة رشيقة قادرة على التصوير السردي الدقيق ، وبأسلوب سلس وممتع مبني على المعايشة الذاتية والمعلومة الدقيقة ؛ فيمر الكاتب بين الأحداث والشخصيات والأماكن ملتقطًا أبرز تفاصيلها، كما أنه يترك المجال حينما يستدعي الأمر- متاحًا لبعض الأماكن والشخوص لتعبر عن فرادتها خصوصياتها ومكنوناتها ، لذا ستشعر وأنت تقرأ فصول رواياته وكأنك تشاهد بثا حيا ومباشرا للتاريخ ، لذا لا غرابة أن تشعر وأنت تقرأ أعماله الروائية كـ “ثلاثية صنعاء – مشاقر تعز – سمسرة وردة” بأنك عبرت الى عوالم وأزمنة مختلفة دون أن تبرح مكانك ، وبأنك تجول في فضاءات سردية مفتوحة تمتزج فيها جمالية المكان مع واقعية اللحظة والزمن مع عبق التاريخ الممتزج بسحر الخيال في آن واحد !

ولكون رواياته تعج بالتفاصيل والأحداث، فقد اعتمد الروائي (نجم شرف الدين) في اسلوبه السردي اللغة المباشرة البسيطة السهلة التي تجعلك تتقاسم أحداث الرواية مع أبطالها وشخوصها وتذوب وتتماهى بشكل سلس ومدهش مع عنصري الزمان والمكان فيها ، وفي فصول رواياته تلمس بنفسك نسبية الزمان والمكان التي تحدث عنها عالم الفيزياء اينشتاين في أوضح تجلياتها وأزهى صورها ، إن رواياته عموما تعد من ذلك النوع من الروايات التي تجعلك لا شعوريا تشارك أبطالها وشخوصها سيناريو القصة وحيز المكان ، وتطلق العنان لمخيلتك وهي تجول بك في عوالمها الواقعية وتغويك بعوالمها الافتراضية الموازية في الوقت نفسه.

يكتسب المكان في روايات (نجم شرف الدين) أهمية كبيرة، لا لكونه أحد أهم عناصر الرواية، والعنصر الذي يؤسس الحكي ، بل لأنه في معظم أعماله هوالمكون الجوهري الذي يحتوى كل عناصر الرواية ، بما فيها من حوادث أحداث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها الجو العام الذى تتفاعل معه وتؤثر فيه ، والمحور الأساس الذى تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات.

يلمس القارئ لأعمال نجم هذه الأهمية للمكان لديه في كل مكونات أعماله الروائية التي صدرت حتى الآن : مشاقر تعز – ثلاثية صنعاء – سمسرة وردة بدأ من العنوان وصورة الغلاف وارتباطها الوثيق بالمكان في الرواية، وصولا إلى النص السردي وتتبع جماليات المكان وحضوره عند السارد ، وهذا ليس من السهولة بمكان ، لا بد هنا من وجود روائي يمتلك رؤية خاصة لسرد وتقييم الأحداث وربطها ببعض ، كما تتطلب من الكاتب أن يكون على على قدر عال من الثقافة الموسوعية وعلى علم ومعرفة تامة بهذه الأماكن وبكل تفاصيلها وبأهم الأحداث والوقائع التي شهدتها.

في روايته (مشاقر تعز) تمتزح روائح الكاذي مع حميمية المكان وعبق التاريخ وواقعية اللحظة ، ولأن هذه الرواية تحديدا مكتوبة بمستويات “زمكانية” متعددة ومغرية امتزجت فيها المعالم الواقعية بالوقائع الافتراضية التخيلية المغرية ، فستجد في نفسك شعورا تلقائيا بالإنبهار وتمتزج في أعماقك مشاعر الدهشة مع مشاعر الشجن الممتزج بالحنين إلى شيء ما في تلك الأماكن التي وردت في الرواية لا تدري كنهه ، إلى شخص ما عرفته يوما في أحد أزقة مدينة تعز أو أسواقها الشعبية الشهيرة ، أو قرأت عنه في أحد كتب التاريخ ، او تعرفت عليه للتو في سطور الرواية ، أو ربما تلمس تطابقا او تشابها بينك وبين أحد شخوصها.

وبناء على ما سبق فإن الأعمال الروائية للروائي (نجم شرف الدين) تكتسب أهميتها لا لكونها بمثابة سير روائية تاريخية لمدن ومعالم يمنية عديدة ، بل لأنها تمثل ما يمكن تسميته مجازا “نشاطا حفريا روائيا” استنهض هذه المدن والأماكن واستعادها من وسط ركام النسيان بأحياءها وأسواقها وأزقتها وساكنيها، وصاغها بأسلوب روائي متفرد يمنح قارئها عوالم وشخوص وأحداث واقعية وتغريه بعوالم افتراضية موازية ، وكل ذلك وبأسلوب سردي متميز يكاد يشعر معه القارئ بأنه عايش أحداث وتفاصيل كل تلك الأعمال الروائية مع كاتبها الروائي نجم شرف الدين في كل تلك المدن يوما ما في مكان ما أو زمن ما.

تعليقات الفيس بوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى