مكافحة الفساد في اليمن: المشكلة ليست في السياسات فقط!

علي يحيى عبدالله

منذ إنشاء الجمهورية اليمنية وتحقيق الوحدة في 22 مايو 1990، اتجهت سياسات مكافحة الفساد في اليمن إلى تبني عدد من المقاربات المختلفة، التي تنوعت وفقاً للظروف السياسية والاقتصادية التي شكلت طبيعة النظام السياسي الناشئ. وقد تطورت هذه السياسات تدريجياً، بدءاً من مقاربتي الزجر/الردع (1990-1994) والإصلاح (1995-2005)، وصولاً إلى تبني سياسات مكافحة الفساد وفق المقاربة الشمولية المندمجة في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد منذ 2006، وسوف نتناولها بقليل من الإيجاز في سياق هذا المقال وآثارها على جهود مكافحة الفساد في اليمن.

بعد تحقيق الوحدة اليمنية، اتبعت الحكومة سياسة مكافحة الفساد عبر آليات رادعة، حيث تم التركيز على الإجراءات القانونية الزجرية التي تفرض عقوبات صارمة. وقد تم تأسيس هذا النهج على مجموعة من التشريعات التي تضمنت قوانين رادعة، منها الدستور اليمني، والقرار الجمهوري بالقانون رقم (12) لسنة 1994 بشأن الجرائم والعقوبات، والقرار الجمهوري بالقانون رقم (13) لسنة 1994 بشأن الإجراءات الجزائية، والقانون رقم (19) لسنة 1991 بشأن الخدمة المدنية، والقرار الجمهوري بالقانون رقم (39) لسنة 1992 بشأن الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، والقانون المالي رقم (8) لسنة 1990، والقانون رقم (1) لسنة 1991 بشأن السلطة القضائية، والقانون رقم (25) لسنة 1990 بشأن الصحافة والمطبوعات، وغيرها. وقد أثرت هذه المقاربة بشكل كبير على توسيع نطاق التجريم وتعزيز الأثر الردعي للعقوبات، كما ساهمت في تطوير الإجراءات القضائية المتعلقة بالمتابعة والمحاكمة، مما أضفى طابعاً صارماً على سياسات مكافحة الفساد خلال تلك الفترة.

بين عامي 1995 و2005، شرعت الحكومة اليمنية في تنفيذ إصلاحات قانونية ومؤسسية تهدف إلى تحسين الحياة العامة من خلال تعزيز الإدارة الرشيدة، الشفافية، والنزاهة في المؤسسات العامة. تضمنت الجهود إصلاحات اقتصادية شاملة، مثل تحسين الاقتصاد الكلي، وتعزيز دور القطاع الخاص، واستقلال القضاء. ورغم تحقيق بعض النتائج الإيجابية، مثل نمو الناتج المحلي بمعدل 5.6%، إلا أن التحديات الاستثمارية ونقص التمويل الخارجي أعاقت تنفيذ الخطط الخمسية بشكل كامل. أسفر ذلك عن نمو اقتصادي محدود، وارتفاع البطالة من 11.5% عام 2000 إلى 16.8% عام 2005، مما أظهر صعوبة ربط الإصلاحات الاقتصادية بتحسين الحوكمة.

في يناير 2006، شرعت الحكومة اليمنية في تنفيذ خطة شاملة لإصلاح الحوكمة ومكافحة الفساد، مستندة إلى التزاماتها الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد 2005، وانضمامها لمبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية 2007. تضمنت الإصلاحات اصدار قوانين مثل الذمة المالية، مكافحة الفساد 2006، والمناقصات والمزايدات والمخازن الحكومية 2007، وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب 2010، إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2010-2014. إضافة إلى إنشاء هيئات متخصصة معنية بمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في المشتريات والإدارة المالية. ومع ذلك، واجهت الجهود تحديات، أبرزها تضارب القوانين، ضعف استقلالية الهيئات الرقابية، وحصانة كبار المسؤولين، مما أثر على تحقيق النتائج المرجوة. لاحقًا، تضمنت خطط 2012-2014 تحسين الشفافية والمساءلة بدعم دولي، بينما ركز مؤتمر الحوار الوطني (2013-2014) على تعزيز الحوكمة وسيادة القانون، لكن التنفيذ ظل معلقًا بسبب استمرار الحرب وتعثر العملية السياسية.

رغم تعدد السياسات والإصلاحات التي تبنتها الحكومة اليمنية منذ التسعينيات، أظهرت التقارير الدولية أن هذه الجهود لم تحقق تأثيراً كبيراً في مكافحة الفساد. ففي مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، سجلت اليمن تصنيفاً متدنياً على مدار العقدين الماضيين، حيث حصلت في عام 2023 على 16 نقطة من أصل 100، مما وضعها في المرتبة 176 من بين 180 دولة، لتظل من بين الدول الأكثر فسادًا في العالم. يُعزى هذا التراجع إلى ضعف تنفيذ القوانين، وتضارب الصلاحيات بين الهيئات الرقابية، إضافة إلى تأثير العوامل السياسية والصراعات التي عرقلت الإصلاحات. أما مؤشر الحوكمة العالمية الصادر عن البنك الدولي، فقد أظهر تراجعاً في مؤشرات مثل سيادة القانون، فعالية الحكومة، والسيطرة على الفساد، مما يعكس محدودية تأثير الإصلاحات المعلنة على أرض الواقع.

تسلط هذه المؤشرات الضوء على الفجوة الكبيرة بين التشريعات والواقع العملي، حيث لم تكن السياسات كافية لإحداث تغييرات جذرية في البنية المؤسسية المتجذرة التي تعزز الفساد. علاوة على ذلك، فإن استمرار عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي منذ 2011 قد زاد من تعقيد جهود مكافحة الفساد، مما أدى إلى تدهور الشفافية والمساءلة، وزيادة التحديات التي تعيق تحقيق الحوكمة الرشيدة.

ولمعالجة التحديات المرتبطة بالفساد في اليمن، ينبغي تعزيز الإرادة السياسية لضمان تنفيذ الإصلاحات بشكل جاد ومستدام، مع ضمان استقلالية الأجهزة الرقابية والقضائية عن النفوذ السياسي. كما يتطلب الأمر أيضاً وضع إطار قانوني موحد يمنع تضارب الصلاحيات بين الهيئات والأجهزة الرقابية، مع تعزيز آليات التنسيق بينها لتسريع التحقيقات والبت في القضايا. في هذا السياق، يمكن الاستفادة من الجهود السابقة التي قامت بها الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد وبعض منظمات المجتمع المدني، حيث تم حصر كافة التشريعات والقوانين التي تتعارض مع قانون مكافحة الفساد. وقد شارك كاتب هذه المقالة كمقرر ضمن فريق مراجعة التشريعات، لكن هذا الجهد اصطدم بعراقيل في مجلس النواب، مما حال دون تنفيذه حتى الآن. إلى جانب ذلك، يجب تعزيز الشفافية في الإدارة المالية والمشتريات العامة، وتفعيل دور المجتمع المدني والإعلام في الرقابة والمساءلة. كما يُعد الدعم الدولي ضرورياً لتوفير الموارد الفنية والمالية، إلى جانب بناء قدرات المؤسسات المحلية، مع نشر ثقافة الشفافية والمساءلة عبر حملات توعية وطنية تُشرك المجتمع في جهود مكافحة الفساد.

تعليقات الفيس بوك
Exit mobile version