مقالات رأي

دعوة خامنئي ل”حج البراءة”.. قراءة في الدوافع والتوقيت والمآل

عادل الأحمدي

قبل اكثر من أسبوع، رأيت صورة لتغريدة مرشد الثورة خامنئي يدعو فيه حجاج إيران وغير إيران، لجعل هذا العام “حج البراءة”.. وظننت أن التغريدةأ مفبركة إذ أن مثل هذه الدعوة هي بمثابة اعلان عمل عدواني ضد حجاج بيت الله والسلطات القائمة على خدمتهم وتأمينهم أي المملكة العربية السعودية التي ارتبطت مع إيران باتفاق مصالحة برعاية الصين! ولكن عندما عدت إلى حساب خامنئي بمنصة إكس (تويتر) وجدت أن المسالة جادة وأن الملالي لهم قراءات خاصة في هذا الموسم وقد حشدوا لها حشدًا كبيرًا، متنصلين عن اتفاقات الصلح. وهكذا هم.. ليسوا أهل عهد ولا ميثاق.

في هذا السياق من المهم أن نعرف ما الذي يقصده خامنئي بالبراءة وما المراد من ذلك؟ ولماذا في هذا التوقيت؟ وما هو المآل المتوقع؟

مفهوم البراءة بين الحقيقة والتدليس

والبراءة من المشركين مصطلح مقتبس من آية كريمة في سوره التوبة منصوصها “وأذان من الله ورسوله إلى الناس في يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولُه”. والآية هذه لها سياقها وزمانها ومكانها حيث نزلت في ختام حج السنة التاسعة للهجرة وكان حجا اختلط فيه حجاج المسلمين بحجاج المشركين الذين كانوا يطوفون عراة بمعية أصنامهم ومعبوداتهم.. ثم نزلت الآية لتقطع دابر المظاهر الشركية في الحج وحول البيت الحرام، وعليه لم يحن موسم الحج في العام التالي إلا وقد أصبح الحج خالياً من تلك المظاهر الشركية ولذا لم يعلن خلاله أيَّة براءة، وذلك الحج هو الذي سمي بحجة الوداع وهي الحجة الوحيدة التي حجها النبي عليه الصلاة والسلام ولو كانت البراءة فرضا متكررا في كل موسم لكان رسول الله أول الممتثلين لأوامر ربه، لكن المسبب انتفى بزوال مظاهر الشرك وحققت براءة العام الماضي مبتغاها.

وزيادة في التدليل على أنها كانت أمرا مؤقتا لظرف معين ألَّا أحد من الخلفاء الراشدين أو من خلفاء وحكام الدول الإسلامية التي تبعتهم إلى يوم الناس هذا، قام بمنسك يسمى بإعلان البراءة في الحج.

إذن؛ فالبراءة هي آية قرآنية تُليت على حجاج العام التاسع الهجري (ولم تزل)، ولم يصاحبها أية مظاهر بل تبعتها إجراءات حاسمة لجعل الحج خاليا من رجس المشركين وطقوسهم الوثنية، لكن جهاز التشيع عمل على جعل “البراءة من المشركين” في تلك الآية مرتكزا للتعبئة والتهييج بهدف إقلاق أمن الدولة التي تشرف على الحج. ولعل من أقدم المصادر الشيعية التي بلورت هذا المصطلح وأعطته بعدا توظيفيا، هو العلامة المجلسي المتوفي بداية القرن الثاني الهجري والذي فسر البراءة من المشركين بأنها براءة من الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية رضوان الله عليهم.

واستمر شحذ مصطلح البراءة ليغدو عند الشيعة الإمامية ركنا أساسيا من أركان الحج ومن لم يتبرأ فلا حج له.. وفي كل مرة يتم تغيير دلالة البراءة حسب الظروف لتصل عند الخميني إلى الصرخة المعروفة بالموت لأمريكا وإسرائيل وهي في الحقيقة تستبطن عموم المسلمين والحكام الذي لا يوالون الملالي أو لا ينحدرون مما يسمى آل البيت.

إذن، اكتمل تحريف مفهوم البراءة على يد خميني وغدا مرتكزا تأليبيا نتج عنه عدة مآسٍ في مواسم حج راح ضحيتها مئات من الحجاج الإيرانيين المغرر بهم وحجاج من بلدان أخرى بالإضافة إلى العشرات من شهداء الواجب من منتسبي الأمن السعودي.

إن الذي يتابع مواقع الملالي وقنواتهم هذه الأيام يجد أنهم يعدون وليمة كبيرة تحت عنوان البراءة سيما وأن الطاغوت خامنئي أطلق على حج هذا العام “حج البراءة”.. وانداحت إثره عشرات التناولات والتأصيلات تبرر هذا المدعى وتؤصل له وتعتبره ركنا ركينا مما أسموه “الحج الإبراهيمي”!

وقد بدأ الحجاج الإيرانيون وأذرعهم من حوثيين وحشد وغيرهم، برفع الشعارات بالتدريج في الأماكن المقدسة كنوع من جس النبض لردة فعل السلطات السعودية.. وتقضي الخطة أن يبلغ التصعيد ذروته يوم عرفة أو ما وصفها خامنئي صحراء عرفة، وزاد أن كلف شخصا يلقي خطابا بالنيابة عنه في يوم عرفة كشرارة تنطلق بعدها مسيرات وفعاليات إطلاق البراءة.

لعل هناك من قد يقول: إذا كان الأمر مجرد شعارات فما المشكلة طالما أن السلطات السعودية لم يعهد عنها أنها حاولت تلوين الحج بلون واحد بل تترك لكل الطوائف الإسلامية أن تحج بطريقتها فما الضير في جعل هؤلاء يتبرؤون كما يريدون؟

والحقيقة أنه لابد من توضيح أن البراءة التي يريدها خامنئي يعرفها الأمن السعودي حق المعرفة ويعرفها الآباء الذين عاصروا المآسي في الثمانينات بسبب دعوات البراءة، حيث ليست مجرد شعارات تقال بل تفخيخ خطير للحج والحجيج.

وصحيح أن سلطات الحرمين تحترم مذاهب ضيوف الرحمن لكن السماح لجعل موسم الحج موسما للتظاهرات السياسية الجماعية هو أمر يهدد أمن الحجاج وسكينة الحج “ولا جدال في الحج”، ولو تم السماح لكل ذوي شعار أن يطلقوا شعارهم وبشكل جماعي لأصبح الحج فوضى وليس مؤتمرا يثبت وحدة المسلمين ومكانا يتقرب فيه الناس لرب العالمين.

وأهم من كل ذلك فإن البراءة الخمينية ليست مجرد إطلاق شعارات في الهواء بل عمل إرهابي وتخريبي عن سبق إصرار.. والدليل على ذلك ما حدث في مواسم سابقه وأبرزها في العام 1407 الموافق 1987 حيث تطورت شعارات ما يسمى بالبراءة من هتافات إلى أعمال شغب أخرج فيه حجاج إيران (الذين كانت نسبة منهم عناصر في الحرس الثوري) أسلحة يدوية، وحاولوا بعد ذلك منع بقية الحجاج من التوجه إلى وجهاتهم، كما اعتدوا على رجال الأمن وافتعلوا مشكلة أمنية كبيرة تطورت إلى مواجهة مع الأمن راح ضحيتها مئات من الحجاج ومن رجال الأمن.

بالتالي فإن ما يسمى بالبراءة من المشركين ليس له في الأساس مستند شرعي يثبت إلزاميته بمواسم الحج ولا سُنة توضح كيفيته، وكذلك ليس له سوابق على مدى التاريخ بل إن سوابقه الوحيدة هي عبارة عن مجازر معاصرة من إنتاج إيران خميني. ولهذا فدعوة خامنئي لحج البراءة هي دعوة فتنة لإقلاق أمن الحجيج ويفترض مجابهتها من قبل كافة الدول المسلمة، حكومات وعلماء.

سر التوقيت

ويبقى السؤال: لماذا حرص النظام الإيراني على التصعيد هذا العام بالذات؟ والجواب نفسه يأتي من خلال تغريدات وخطابات خامنئي في الأسابيع الأخيرة إذ يريد أن يعزف على جراح الأمة مستغلا الجرائم الصهيونية في حق أبناء غزة والسخط الممتد في الشارع العربي والإسلامي، وفي ظن الملالي أن البراءة في توقيت كهذا سوف تؤدي إلى تهييج الحجاج بما قد يؤدي إلى فلتان أمني أو فقدان السيطرة من قبل السلطات المعنية، ما يسفر عنه إحراج النظام السعودي ليقوم الملالي بإحياء دعوتهم المتكررة لتدويل الإشراف على الحرمين.. هذا أقل مكسب يتوخونه من أحداث الشغب التي يريدونها تحت غطاء إعلان البراءة!

ورغم أن بلاد خادم الحرمين الشريفين أفشلت مكائد سابقة مماثلة، علاوة على أن المملكة صارت اليوم أقوى وأمنع على كافة الأصعدة أمنيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا، وكذلك رغم فشل الإيرانيين السابق في إفساد مواسم الحج.. إلا أن من اللازم أن نعرف أن هؤلاء الحمقى في طهران جادون جدا في حماقتهم التي عادة ما تنتهي بدماء ودموع ومآس شاهدناها على طول الخط من بغداد إلى الموصل إلى حلب إلى دمشق إلى بيروت إلى صنعاء إلى تعز.. علما أن الملالي خبراء في زعزعة الأوطان وتحريف الأديان وقتل الإنسان.

البراءة مِن مَن بالضبط؟

قبل الولوج إلى حديث عن التدابير الأمنية السعودية لحماية الحج وتأمين الحجيج مهم أن نستكمل التعريفات اللازمة التي تعطينا الصورة الكاملة لدعوة خامنئي (حج البراءة).. فمثلما تعرفنا على ماهية البراءة وما هو مفهومهم لها وكيف يريدون تطبيقها.. من اللازم أن نعرف أمرا آخر ذا صلة وهو: من هم المقصودون بالمشركين الذي يفترض البراءة منهم؟ والحقيقة أن المرء يصدم عندما يعرف أن لملالي التشيع مفهوما خاصا للمشركين يختلف عن المفهوم المعروف لدى أمة الإسلام.. فالمشركون في نظرهم هم من يشركون أئمة آل البيت في الولاية والموحدون من يوحدونهم في الولاية!

إذن فالشرك لديه مدلول مغاير تماما لدى هؤلاء، ووفقا لذلك المدلول فعموم الأمة مشركون.. وإذا أردنا التمحيص أكثر فإن أكثر ما يغيظهم من المملكة العربية السعودية أنها جعلت المشاعر المقدسة خالية من أية مظاهر وثنية أو شركية، وإلا فإن الشيعة بالمعنى العلمي المحض هم عبارة عن حركة شركية وثنية سواء في جانب الاعتقاد أو في جانب التعبد.

وأما في جانب الاعتقاد فإن شركهم يتمثل في جعلهم الأئمة وسطاء بين العبد وربه وهذا هو ذات الوظيفة التي كان يعشمها مشركو قريش من هبل والعزى ومناة الثالثة الأخرى!

وبدقة متناهية يمكن القول إن هؤلاء أعادوا إنتاج الشرك بطريقة مغلفة بغلاف الإسلام.. وكلي يقين أنه إن كان ثمة من براءة يجب أن تعلن في الحج وغير الحج، فهي البراءة منهم بوصفهم أئمة الشرك ومادة الوثنية.

هذا في الجانب الاعتقادي، أما في الجانب العبادي فإن طقوسهم في أغلبها عبارة عن طقوس وثنية والدليل على ذلك ما نراه في شعائر ما يسمونه الحج الأكبر الخاص بذكرى غدير خم والذي يقام في العراق كل عام بعد ثمانية أيام عقب الحج بمكة.

ولديهم فقه مغلوط وتأصيل شيطاني لهذا المنحى الشركي يسمى (مناسك المشاهد) أي المشاهد المقدسة أو العتبات المقدسة فهم أدوات شرك حتى في عبادتهم.. ونجد ذلك أيضا في تقديسهم للقبور وفي صلاتهم على أحجار كربلاء.

وبالحديث عن كربلاء ينظر إليها هؤلاء أنها أهم من الكعبة.. ويجسدون ذلك شعرا:

ومن حديث كربلا والكعبة
لكربلا بان علوُّ الرتبة

ويزعمون بأنه لن تقوم الساعة حتى تهدم الكعبة وينتقل الحجر الأسود إلى كربلاء.. ولديهم سوابق في ذلك حيث أن قرامطة البحرين قبل قرون أخذوا الحجر الاسود وأخفوه عندهم أكثر من 30 عاما. وإمعانا منهم في التقليل من الكعبة فإنهم مثلا يسمون النجف الأشرف مقابل الكعبة المشرفة..!

ما هي نظرتهم للحج؟

إذن، وتبعا لما سبق فإنهم لديهم حجاً أهم في نظرهم يوم الثامن عشر من ذي الحجة ذكرى غدير خم الذي يزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى فيه لعليٍّ بالولاية من بعده.. وهو حجٌّ ضِرار يحشدون له قضهم وقضيضهم ويعتبرونه الحج الحقيقي، وبالتالي فإن ذهاب الكثير من ملاليهم إلى مكة ليس إلا من باب التخريب وليس من باب العبادة أو أداء الركن الخامس.

وتبعا لما سبق لديهم رؤية عجيبة تجاه قبلة الصلاة، حيث في العام 2009 أفصح أحمد علم الهدى ممثل خامنئي في مدينة مشهد الإيرانية، أن القبلة يجب أن تتغير وتتوجه نحو مشهد وليس مكة!!! والملفت أن هذه الدعوة الجريئة نقلتها وكالة فارس الرسمية.. وكتبت حينها مقالين في صحيفه “الجمهورية” الصادرة بتعز وموقع “نشوان نيوز” الإخباري مطلع نوفمبر 2009 أميط اللثام عن خطورة السكوت على مثل هذه الدعوة. ذلك أن مسالة القبلة من الأمور الأساسية في الدين الإسلامي ومجرد التفكير في حرفها هو خروج سافر عن الملة.

هذا وما خفي أعظم.. ولن أجامل في هذا الشأن مراعاة لمشاعر الفرق الباطنية، ولكنني أرى أن التشيع عندما تنزع عنه بعض القشور المذهبية البسيطة فإن جوهره دين ضرار يقوم بفك عرى الإسلام عروة عروة، أو هو حسب الأستاذ حارث الشوكاني “التأويل المجوسي للإسلام”.. وفي يقيني أن التشيع وأساطينه امتداد شديد الوضوح والتطابق لتياري الشرك والنفاق.. وتحدثنا سابقا كيف أنهم امتداد لتيار الشرك، أما كونهم امتداداً لتيار النفاق فهذا لأنهم جعلوا “التقية” تسعة أعشار الدين، والتقية هي عين النفاق.

ومهم التأكيد على أننا عندما نسوق مثل هذه التوضيحات فإننا نقصد فيها التبيين لعامة المسلمين والبسطاء من جمهور التشيع، أما أصحاب العمائم السوداء فلن نثبت لهم بطلان حجتهم إذ هم أدرى ببطلانها.. حتى أن المعمم منهم قد يفتري أحاديث وينسبها لرسول الله في جلسة واحدة في حسينية مليئة بالنحيب.

أمن الحج خط أحمر

واضح أن نظام الملالي ألقى بثقله لتفخيخ موسم الحج لهذا العام تحت لافتة البراءة.. وواضح أنه استنفر كل أذرعته وقام بتجييش إعلامه وكأنه يريدها ضربة قاضية لمؤتمر المسلمين السنوي المتمثل بالحج.. هكذا يحلم أصحاب الفيل الجدد وسيجعل الله كيدهم في تضليل.

في غمرة هذا كله نحيي الروح اليقظة والفهم العميق والاستعداد الكبير للمملكة العربية السعودية.. بقيادتها وأمنها وجيشها وكل مواطنيها.. هناك درجة عالية من التأهب، والجميع يردد عبارة واحدة: “أمن الحج خط أحمر.. لن نتهاون فيه.. ولن يتم تجاوزه”.

الكل في بلاد خادم الحرمين لخدمة الحجاج وتأمين الحجيج.. ومن ذلك قيام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالاعتذار عن المشاركة في مؤتمر بإيطاليا لانشغاله بإدارة موسم الحج. ولا أحد ينكر أن خدمة الحرمين الشريفين في ظلال المملكة العربية السعودية منذ المؤسس رحمه الله وطيب الله ثراه وصلت بالحجيج إلى أفضل مستوياته خدمة وأمنا واستيعابا حيث ارتفع حجم الاستيعاب إلى نحو 20 ضعفا منذ أيام المؤسس إلى الآن.

لا تمزح قيادة المملكة في أمنها وأمن ضيوف الرحمن.. وسيكتشف خامنئي ومن معه أنه كان مخطئا جدا في حساباته.. وهكذا السعودية.. تمتص العدو حتى يخيل إليه أنها جنحت للمداراة وتجنب الشر ثم تصوب فتوجع.

لكن في المقابل مطلوب من علمائنا ألا يكتفوا بالفتاوى الرمزية الدبلوماسية في تعرية هذه الدعوات الشريرة لأن مداهنة هذا الباطل يجعله يتجرأ مرة أخرى ويعبث ويعيث.

لا خوف على حجاج بيت الله مهما كان الشر الذي يريده هؤلاء من يدعون البراءة من المشركين، ذلك أن السلطات السعودية ستكون بالمرصاد وهي جاهزة جدا ولديها خبرة في التعامل مع المخاطر بكافة أنواعها. ولعل في مثل هذه الدعوات التخريبية الصادرة من خامنئي جرس إنذار مهم بعد أن عشنا سنوات ظننا فيها أن الملالي ملوا هذه اللعبة السخيفة وصاروا يلعبون في مربعات أخرى لكن يأبى الله إلا أن يفضحهم.

سيمر الموسم بسلام لكن مهم ألا تمر مثل هذه الدعوات دون تفنيد من علماء ومفكري وزعماء الأمة.. “وقفوهم إنهم مسؤولون”.

….

سيذهب زبدهم جفاءً ويبقى صوتُ المسلمين يجلجل في مسامع الأرض: “لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون”. ويا لها من براءة.

تعليقات الفيس بوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى