الماضي والسلالة والأقيال في وجه التاريخ والمستقبل
فهمي محمد
المجتمعات العربية بشكل عام والمجتمع اليمني بشكل خاص أكثر المجتمعات الإنسانية «تدثراً» بثياب الماضي التي دائماً ما تسربل حاضرهم على الدوام. هذا إذا لم يكن الماضي هو الجهاز المفاهيمي الذي يرسم ملامح المستقبل لا سيما في بلاد مثل اليمن تعطلت فيه صيرورة التقدم والتاريخ، رغم التضحيات الجسام، التي قدمت على امتداد ثلاث ثورات خاضت جميعاً خلال ستة عقود معركة الخلاص التاريخي مع الماضي وحضوره المعيق للمستقبل ولفكرة التغيير في اليمن!!!
التاريخ في اليمن وإن كان حاضراً على الدوام كسجل زمني يدون الأحداث والوقائع التاريخية المكثفة “سلبياً” إلا أنه لم يقدم نفسه حليفا لليمنيين في معركة التقدم والتغيير، بعكس ما ذهب إليه المفكر علي أمليل حين قال في كتابه (السلطة السياسية والسلطة الثقافية)، إن التاريخ دوماً يقدم نفسه حليفا للشعوب المتطلعة نحو التقدم!
هذا لا يعني أن حاضر اليمنيين مع استلابية التاريخ التي تناولها الباحث الكبير قادري أحمد حيدر في كتابه (الحضور التاريخي وخصوصيته في اليمن) تكذب مقولة المفكر علي أمليل في مسألة إيجابية حضور التاريخ مع الشعوب المتطلعة، بل يعني أن الحضور التاريخي في اليمن هو حضور للماضي الذي يلتهم الحاضر على الدوام، وليس حضور التاريخ كصيرورة نحو التقدم الذي يصنع المستقبل، كما يقصد بذلك المفكر علي أمليل في كتابه، ما يعني أن ما ذهب إليه الباحث الكبير قادري أحمد حيدر يتسق تماماً في المعنى مع ما ذهب إليه المفكر علي أمليل.
التاريخ كأحداث ونماذج تاريخية تقليدية ماضوية، يصبح بما هو معقول إنساني غير صالح للاستخدام المتكرر في العصر الحديث، لأنه يشكل حالة ممانعة لفكرة التغيير السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي، في حين أن التاريخ كصيرورة يشكل ديناميكية إيجابية في مسار التقدم نحو المستقبل، ما يعني أن مشكلتنا في اليمن تكمن بدرجة رئيسية في حضور الماضي أو بالعودة “الاستلابية” إليه بدلاً من التعاطي الناجع مع صيرورة التاريخ نحو المستقبل.
على حد وصف أحد الفلاسفة الألمان يكون التاريخ هو “حاصل الممكنات التي تحققت في أي مجتمع” ومع عدم تحقيق مثل هذه الممكنات العصرية نحو التقدم السياسي والاجتماعي، كما هو حالنا في اليمن، يتعطل التاريخ من حركته «الصيرورية » الحليفة للشعوب المتطلعة، ويتحول إلى ماض ممتد في حاضر الأجيال المتعاقبة كما هو حال الحضور التاريخي في اليمن، بمعنى آخر حضور الماضي يعمل على سلب التاريخ صيروته بالمعنى الذي يجعل الإنسان يعيش حالة مكثفة من التعاقب الزمني ليس إلا.
مع هذا الامتداد السلبي أو الاستلابي، يصبح الحاضر مجرد زمان ومكان «رجعي» نابذا لفكرة التغيير وثقافة الحداثة والتقدم على المستوى السياسي والاجتماعي، وحتى الثقافي والاقتصادي، ما يعني في النتيجة النهائية أن المجتمعات الإنسانية التي يكون حاضرها مجرد امتداد سلبي للماضي تعيش حالة من تقهقر التاريخ، ذاك ما نعيشه اليوم في اليمن، لا سيما بعد أحداث الانقلاب والحرب، خصوصاً في المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة الحوثية.
عطفاً على ما ذكرناه ماذا يعني حالنا اليوم بعد أن أقر دستور الوحدة اليمنية في 1990 مسألة التعددية السياسية والديمقراطية والمواطنة والتداول السلمي للسلطة، وبعد ذلك ثورة الشباب 2011م، ومخرجات الحوار الوطني والدولة الاتحادية، ثم نعود القهقرى مع انقلاب (21 سبتمبر 2014) إلى الحديث عن يوم الولاية والغدير والخمس وآل البيت وأحفاد بلال، والدفاع عن عائشة والصحابة؟
وفي المقابل يتحدث جزء آخر من النخب الرافضة لمشروع الحركة الحوثية عن الأقيال والقبيلة اليمنية وضرورة حضورها في معادلة الصراع الجارية، إلى غير ذلك من استدعاءات الماضي السحيق ونماذجة التاريخية المشوهة، وصراعاته السياسية الممزقة للمجتمع، وكأننا اليوم نعيش زمن الإمام علي ومعاوية وقريش والمهاجرين والأنصار والمكاربة والتتابعة ولسنا نعيش زمن القرن الواحد والعشرين.
ثم ماذا يعني أن يشطر الجميع وجوههم بوعي أو بدون وعي للبحث والتنقيب في سراديب الماضي السحيق ويديرون ظهرهم للحلول الوطنية المستقبلية؟ إذا لم نكن نعيش حالة من تقهقر التاريخ الأكثر خطورة في تاريخنا، أو أننا نحن اليمنيين انقهرنا بالتاريخ نحو الماضي على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي، مع أن مشكلتنا بمقياس العصر والفكر السياسي الحديث، تقول إن اليمنيين محتاجون لدولة نظام وقانون، وعدالة اجتماعية ونظام سياسي ديمقراطي ووطني يعيش فيه الجميع على مبدأ المواطنة.
مثل هذه الحلول أنتجها الآخرون من حولنا عندما تعاطوا إيجابياً مع التاريخ كصيرورة نحو التقدم الذي يصنع المستقبل، وليس عن طريق استدعاء الماضي السحيق وتصدير نماذجه السياسية والاجتماعية والثقافية «السمجة» نحو مستقبل الأجيال، كما هو حاضرنا وسوف يستمر بدون شك مع دعاة العودة إلى ماضي السلالة والأقيال والشيعة والسنة، لا سيما وأن الاشتغال السياسي والاجتماعي والثقافي، على مثل هذه المسميات والنماذج الماضوية سوف يكون على حساب إعاقة مفهوم الشعب السياسي في حاضر الأجيال القادمة، ما يعني في المقابل تعطيل صيرورة التاريخ وجدليته نحو التقدم على حساب المستقبل.
الحديث عن التاريخ هنا لا يعني الحديث عن الماضي وأحداثه أو عن السرد الزمني للحقب والقرون، بل يعني الحديث عن فعل الإنسان وتوجهه العقلاني حين يتعاطى مع فكرة التغيير والتقدم الذي يصنع المستقبل، وهنا يكمن الفرق بكون الزمن تعاقبا وقتيا تصنعه الجغرافية في حين أن التاريخ هو من صنع الإنسان وهو بهذا المعنى يقدم نفسه حليفا للشعوب المتطلعة للمستقبل، كما حاول التاريخ القريب أن يقدم نفسه حليفا لنا مع تحقيق الوحدة اليمنية، وفي مؤتمر الحوار الوطني ثم تم الانقلاب على صيرورة التاريخ، ذلك على سبيل المثال أما الحصر فالحديث يكثر فيه ولا ينقطع عن تفاصيل المشهد السياسي والاجتماعي في بلاد لم تتحول بعد ثلاث ثورات ووحدة إلى وطن لليمنيين رغم حجم التضحيات!
بيت القصيد، المستقبل في اليمن يبدو بدون حلفاء استراتيجيين في معركة الخلاص، لأن الفعل السياسي والاجتماعي للإنسان في اليمن أصبح يفتش عن الحلول في الماضي بدلاً من أن يصنع الصيرورة التاريخية التي تتجاوز الماضي إلى المستقبل، وهو مع كل باب يفتحه في الحاضر نحو الماضي في هذا التفتيش يقف في وجه المستقبل بقصد أو بدون قصد.