مهاجمة وتخوين .. الرئيس العليمي. تهوين الفكرة الوطنية
مصطفۍ محمود
هناك حقائق لا تحتاج إلى براهين وأدلة إضافية ووثائق مادية من اجل كشف ماهيتها. وذلك لتطابق الوقائع والحقائق في الأشياء، التي تجعل من الممكن الحكم عليها بصورة مباشرة. مثل أن نقول، بان كثرة الذباب في مكان ما يعني وجود قمامة أو وساخة. وهذا بدوره يدل على انعدام الوقاية الصحية وثقافة النظافة.
وحقائق الوجود والطبيعة والسياسة من حيث الجوهر هي من نفس هذه الفصيلة. وذلك لأن الحقيقة منطق، والمنطق هو الصيغة المجردة لإدراك وجود الأشياء وعلاقاتها بمعايير السببية. وسواء جرى استعمال الاستدلال أو الاستنباط، فأنهما كلاهما يوصلان إلى إدراك الحقيقة كما هي. وما عدا ذلك أو بدونه أو بالخلاف عنه هو مجرد رغبات وأمان وأهواء كما كان يقول القدماء، أو تصورات وأحكام أيديولوجية جاهزة كما نقول اليوم.
وقد تكون المحاولات المحمومة والمنسقة لمهاجمة وتخوين الرئيس العليمي بين الحين والاخر وتجريمه عما جرى وبجري في اليمن مسؤلية احوال البلاد نتيجه اسقاط المليشيا الحوثيه للدوله .. الأمر الذي يشير إلى وجود مشكلة كبرى تتعلق، من وجهة نظري، بقضية الفكرة الوطنية اليمنيه.. وذلك لأن القضية الوطنية اليمنيه الآن هي إحدى القضايا الأكثر جوهرية وإشكالية بالنسبة للحاضر والمستقبل. فهي الإطار الذي يمكنه أن يجمع الجميع، ومن ثم يولد مرجعية كبرى يجري الصراع فيها وضمنها من اجل تطويرها، أو بالعكس، يجري تفتيتها وتدميرها من الداخل عبر إثارة مختلف أشكال الانتماء البدائي لما قبل الدولة الحديثة وأدواته التقليدية.
ذلك يعني، إن “قضية الرئيس العليمي” ليست شخصية وليست حزبية ولامناطقيه ، بقدر ما هي قضية وطنية عامة. فتناسق الجوقة الإعلامية العنيفة ضده وإجماعها المتشابه في الأداة والعبارة من قبل أطراف مختلفة ومتناقضة ومتصارعة ومتناحرة، يطرح بالضرورة السؤال المتعلق بالغاية القائمة من وراءها. إذ ما هو الشيء الذي يجمع الحوثي والاصلاحي والانتقالي واولاد توكل كرمان والاشتراكي والليبرالي وتنظيم القاعده وداعش والهاشميه السياسيه.. وسلطنة عمان وجمهوريه ايران الفارسيه واسرائيل اليهوديه وبعض الدول العربيه؟.. هل هو الحق والحقيقة؟ والخير والجمال؟ والعدل والمساواة؟ والفكرة الوطنية والقومية؟ والديمقراطية والشرعية؟…
وفي حال الإجابة على هذه الأسئلة، فان الغاية تبدو جلية من دون الاستفاضة بما جرى ويجري من مغامرات ومقامرات ومؤامرات وتدمير وتفجير وتخريب وما إلى ذلك، ألا وهي تنوع المصالح ووحدة الغاية القائمة في السعي لإعاقه الرجل وتعثير خطاه المتجهه صوب إ ستعادة الوطن وبناء الدوله التي يعملون علێ تفتيت فتاتها لليل نهار وتفتيت المجتمع والسلطه الشرعيه… بعبارة أخرى، إن محاولات مهاجمة وتخوين الرئيس العليمي والتشنيع به. شبيه بهجوم الذباب على قمامة الانهيار المادي والمعنوي لجسد الفكرة الوطنية اليمنيه وذلك لأن هذه القوى لم ولن تجتمع إلا بهذا الصدد،
تماما كما اجتمعت علي تحطيم الكيان الوطني اليمني والدوله والمجتمع و تقاسمها.
وبما أن الزعامة الوطنية حالة تاريخية، اي ليست مطلقة وليس لها نموذج ثابت واحد، إلا أن مقياسها العام يقوم في محاولة الحفاظ على وحدة الدولة واستقلالها وتوحيد صفوفها بمعايير الفكرة العامة التي تذلل نفسية وذهنية الانتماء الجزئي والعابر. فمابالكم بدوله منهاره يحاول العليمي جمع شتاتها في جؤ عاصف..
وقد كان ذلك الأمر سهلا بالنسبة للزعيميين الراحلين سالمين والسلال بسبب توحد المقدمات الوطنية آنذاك، والصعود الاجتماعي واليساري، والحالة القومية العربية والعالمية الداعمة لفكرة التحرر والاستقلال. بينما تختلف الحالة أمام الرئيس العليمي اختلافا هائلا من حيث مقدماتها وتعقيدها. فقد جاء العليمي إلى الحكم في ظل انهيار شامل للدولة والفكرة الوطنية، وانقسامات سياسيه وجغرافيه وخراب اقتصادي شبه تام، وتحلل اجتماعي وانحطاط معنوي وأخلاقي مريع، وحرب قاس لما يقارب لعقد من الزمن، وتكالب إقليمي خفي ، و احتلال إيراني غير مباشر وتحكم تام بكل المفاصل الأساسية “لإعادة بناء الدوله والديمقراطية” فيه.
كما أن وصوله للسلطة جرى من خلال عمليه نقل السلطه بعد تثبيت أسس النظام السياسي للمحاصصة ، وتصنيع النخبة السياسية الفاسدة، وتوطين ثقافة الخيانة للمصالح الوطنية، وظهور وتوسع وتجذر التجزئة الطائفية والمناطقه والجهوية والسلاليه ، واشتداد قوة وبأس الميليشيات والعصابات، وتفجير الصراعات العرقيه و الطائفيه والمناطقيه والسياسيه . وكل ذلك على خلفية مجتمع متهرئ وإدارة بالية هي عصب الفساد والتحلل، وفقر مدقع، وانعدام شبه تام لمنظومة الصحة والتربية والتعليم، وضمور مطلق للعلم والصناعة والثقافة، وزراعة بدائية. باختصار، بلد بنيته التحتية أشبه بقنوات مجاري المياه الثقيلة والآسنة.
وبالتالي، فان المهمات التي يواجهها الرئيس العليمي كانت ومازالت من الصعوبة التي لا تستطيع تنفيذها على أفضل وجه، أية شخصية بمفردها، حتى في حال اليقين من نواياها النبيلة وإرادتها القوية ورؤيتها الإستراتيجية الواقعية والعقلانية. كعالم الاجتماع رشاد العليمي الذي يكاد ينعدم هذا النوع من الشخصيات السياسية في اليمن وفي المكونات والأحزاب والتيارات الحالية الموجودة في هرم السلطة الشرعيه والأسباب العامة معروفة ألا وهي انعدام تقاليد النظام السياسي العقلاني، وضعف الشرعية والقانون وحكم الدستور، وتلاشي فكرة المواطنة الفعلية، والانهيار شبه الشامل للبنية الاجتماعية الاقتصادية الحديثة والعلم والصناعة والتكنولوجيا والثقافة. وتعدد سلطات الامر الواقع
إلا أن الرئيس العليمي يواجه هذا الواقع من خلال نمو وتهذب رؤيته السياسية المبنية على أساس إدراك الإمكانية وتحديد معالم الرؤية المستقبلية للدولة والنظام السياسي والوطن والمجتمع…فقد نمت خياراته الإستراتيجية في السياسة الداخلية صوب إدراك أهمية وجوهرية الفكرة الوطنية، وبناء وحدية الدولة ومركزيتها لأدارة المرحله الانتقاليه ، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وإعادة بناء الجيش وتسليحه، وإعادة كتابة الدستور أو إصلاحه، وأخيرا إدارة الصراع السياسي عبر فكرة الأغلبية والمعارضة. وقد واجهت القوى المشار إليها أعلاه وعملت ومازالت تعمل المستحيل من اجل عرقلة هذه الخيارات.
كما نمت خياراته الإستراتجية في السياسة الخارجية من خلال تعزيز وتثبيت الدوله الشرعيه في المجتمع الدولي الممثل الوحيد للشعب اليمني وانتزاع اقرار ضمني بتصنيف جماعه الحوثي مليشيا ارهابيه و البحث عن علاقة معتدلة للقوى المؤثرة في السياسة اليمنيه ( الاتحاد الاوروبي الولايات المتحدة) مع التركيز على البعد العميق والضروري للعلاقة السعوديه اليمنيه . والسعي نحو توحيد المصالح والسلوك العملي مع بقيه الدول العربيه . وكلاهما خياران استراتجيان يصبان في خدمة المصالح اليمنيه الجوهرية ويسيران صوب المثلث اليمني والسعودي والعربي بوصفه ضمانة الاستقرار والازدهار اللاحق. بمعنى الجمع بين العامل العربي والإسلامي بالشكل الأمثل. إضافة إلى توسيع وتنويع مصادر القوة الإضافية لليمن من خلال تمتين العلاقة الاقتصادية والعسكرية بدول الشرق و الغرب
وقد احتوى هذا الخيار الاستراتيجي على إمكانية الابتعاد التدريجي عن بعض الدول الاقليميه والدوليه ، واشتداد العداء المستتر والعلني مع ايران وإسرائيل وبضع الدول العربيه ، اي الثلاثي الأكثر عداء لليمن والفكرة العربية … كل ذلك يشير إلى أن الرئيس العليمي هو الشخصية الوطنية الكبرى بين النخب اليمنيه والطبقه السياسية الحالية. إذ استطاع أن يجسد فكرة الزعيم الوطني، فهو حزب لوحده ولعلۍ ان محبيه ومناصريه يفوق عددهم اعضاء ومناصرين الاحزاب والمكونات اليمنيه مجتمعه
كما ان السلطه وصلت اليه بدون صراع دموي، ولم ينهزم امام عواصف المتآمرين عليه.والخونه المحطين به من كل ناحيه واتجاه من اول يوم تقلد زمام السلطه،
والاهم انه لم يقيم تحالفات مع فصائل مسلحه ضد الاخرۍ ليعزز سلطته الحاكمه ومكانته الشخصيه علۍ حساب المصالح الوطنيه العليا وفضل ان يكافح وحيدا اعزلا في سبيل إستعادة اليمن وبناء الدوله .. وهذا بدوره أيضا مؤشر جوهري على شخصيته السياسية الوطنية، اي التي تضع أولوية المصالح العليا للبلد على المصلحه الشخصية، خصوصا، ان التحالفات مع فصائل مسلحه ضد اخرۍ تحقق له قدر كبير من احكام السلطه لكنها تنتج سلسله تحالفات تأسس لصراعات طويله الامد تتحول إلى حرب ضروس. وهذا شأن اي قائد يعرف قيمة مايعمل من اجل تحصيل القوة الوطنيه. إن القائد السياسي الجيد هو الذي يجيد الانتصار ولو بعيد حين، وليس الذي ينتحر بمعايير “البطولة” الفردية.
وقد يكون هذا أيضا خطأ من أخطائه. وعلى العموم، أن الخلل العام الذي لم يستيطع اصلاحه الرئيس العليمي خلال المده القصيره في السياسة العملية أمر طبيعي وملازم لكل تجربة معقدة وحالة مزرية كما هي حالة اليمن.. وبالتالي، فان “الرذائل” التي يجري إلصاقها به، تبقى أفضل من “فضائل” من يسعى لتخوينه.
إذ يكفيه انه جمع في سلوكه السياسي وشخصيته العملية ويرسي مقدمات الفكرة الوطنية اليمنيه والدولة الوطنية اليمنيه . أما محاولات الهجوم عليه و تخوينه البائسة واليائسة فهي مجرد مؤشر على الانحطاط والخيانة فيمن يدعو إليها.