مقالات رأي

قمة جدة وأمن البحر الأحمر نحو استراتيجية بحرأحمرية شاملة

د. ثابت الأحمدي

منذ القدم والبحر الأحمر ساحة صراع دولي، جرت فيه حروب، وإليه امتدت غزوات الامبراطوريات الكبيرة، ولا يزال الحال من بعضه كما يُقال إلى اليوم. ونستعرض هنا طرفا من هذا الصراع في القديم والحديث، وما ينبغي أن يكون في الوقت الحالي، حفاظا على دول المنطقة، وعلى مصالح العالم من “الأشرار الجدد”، وفي الواقع فإن بعضهم قدماء جدد.

الأطماع اليونانية
لعلَّ أولَ صراعٍ دولي في منطقة البحر الأحمر كان في عهد الاسكندر المقدوني “الاسكندر الأكبر” بعد أن سمع عن الرفاه الاجتماعي والحياة الهنيئة التي يعيشُها شعبُ جنوب الجزيرة العربية؛ فأرسل بعثة استطلاعية في عشرينيات القرن الرابع قبل الميلاد، طافت حول الجزيرة العربية والبحر الأحمر، ليقرر الاسكندر بعد ذلك قراره، إلا أنَّ الأجل وافاه وهو شاب في الثلاثينيات، بصورةٍ مفاجئة قبل أن يصل إليها، ومن ثم فشل المشروع. وكان ينوي السيطرة على جنوب الجزيرة العربية، ليسيطر على طرق التجارة العالمية، وعلى الهند أيضا، ليضم الشرق إلى مملكته، ويسيطر على المحيط الهندي وتجارة آسيا وأفريقيا معا.
ولا شك أن تركيزه على محاولة الوصول إلى جنوب الجزيرة العربية عن طريق البحر ناتجة عن علمه بطبيعة الصحراء القاسية التي يصعب على جيوشه تجاوزها بسهولة، ثم إن الصحراء بحد ذاتها ليست مطمعًا له، بقدر ما كان يفكر في الموانئ والأسواق الرئيسية القريبة منها.
فقد وضع خطة السيطرة على المياه الدافئة بالسيطرة على سواحل جزيرة العرب، وذلك بالاستيلاء عليها، ويكون بذلك ملك أكبر امبراطورية عُرفت حتى ذلك اليوم، تمتد من الهند إلى مصر وما وراء مصر من أرضين. وقد كلف قُوّادَه بالالتفاف حول جزيرة العرب، وباشروا بتنفيذ الأمر بالفعل، وقد رأينا قائده نيرخوس على رأس أسطول ضخم، لعله أعظم أسطول شاهده الخليج والبحر العربي حتى ذلك العهد. انظر: “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، 267.

الأطماع الرومانية
في العام 24 قبل الميلاد، أي في عهدِ الامبراطور “أغسطس” كانت الحملة الرومانية المعروفة، نحو اليمن للاستيلاء على طرق التجارة الدولية؛ نظرا لما يسمعه عن هذه البلاد من حكايات تشبه الأساطير، فوجه حاكمه على مصر “يوليوس جاليوس” بالاستيلاء على طرق التجارة الدولية في جنوب الجزيرة العربية، وتجهزت حملة عسكرية كبيرة، عبرت البحر الأحمر باتجاه الشرق، حتى وصلوا الجزيرة العربية، ومن ثم توجهوا جنوبا باتجاه “أرض سبأ”، إلا أن الحملة باءت بالفشل حين كانت الصحارى بسمومها وتعاريجها أقوى من احتمالاتهم وجَلَدهم، ولم يصلوا على أبواب مارب إلا وقد أنهكهم السفر والتعب، فهُزموا في أول مواجهة، وعادوا فارين بجلودهم دون تحقيق أي نصر يُذكر. والحقيقة أن هذه الحملة التي فشلت في السيطرة على الطرق البرية لم تفشل في السيطرة على الطرق البحرية، إذ تركز اهتمامهم بعد هذه الفترة على السيطرة على البحار، للوصول إلى الهند، وجلب البضائع الهندية إلى الأسواق الأوروبية مباشرة دون منافسة تجار المملكة الحميرية في الجنوب، أو الأنباط في الشمال. انظر: البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية، د. سيد مصطفى سالم، ص: 12.
ومع مطلع القرن السادس الميلادي كانت المنطقة العربية تمر بحالة ضعف شديد، وكان الصراع الفارسي البيزنطي قد بلغ أوجه، خاصة بعد أن أصبحت القسطنطينية هي عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية، بدلا من روما، وفيها كنيستها الشرقية التي يدين بها الملايينُ من المسيحيين العرب وغير العرب، فكان لا بدّ من التنافس الحميم بين الامبراطوريتين الكبيرتين آنذاك، وتقاسم بلاد العرب وما جاورها من البلدان، للسيطرة على طرق التجارة، وعلى البحار، وأيضا على بلاد الهند، فكانت الإمبراطورية الرومانية أكثر حظا من فارس في السيطرة على طرق التجارة، ليس بالاحتلال العسكري المباشر، ولكن بعد أن وطدت علاقتها مع الحبشة التي اعتنقت الديانة المسيحية، ودعمتها بما يكفي لمحاولة السيطرة على شعب جنوب الجزيرة العربية العَصِي على الاحتلال، والممانع للغزو، وقبل ذلك بمحاولة تنصير هذا الشعب وتأسيس العديد من الكنائس على نفقتها، طمعًا في توحيد العقيدة الدينية لكل من الحبشة وجنوب الجزيرة، مع عقيدة القسطنطينية، وهي عقيدة المسيح..
وظل الأمر على هذه الحال، كما بقيت العلاقة بين الطرفين بين مد وجزر حتى كان العام 525م فكانت الحملة العسكرية الكبيرة على جنوب الجزيرة العربية، بقيادة “أرياط” ومعه أبرهة، ونزلت على السواحل لتبدأ أولى معاركها العسكرية مع اليمنيين الذين كانوا قد بدؤوا بالتفرق والشتات، ولم يستطع الملك الحميري مقاومتهم أو التصدي لهم؛ مواصلين السيطرة ابتداء من الساحل الجنوبي الغربي، فبلاد ظفار، ثم صنعاء ومارب التي دخلوها من الغرب بعد أن عجز أجدادهم قبل ما يزيد عن أربعمئة عام من دخولها من جهة الشمال أو الشرق، وانكسروا على أطرافها.
وتذكرُ بعضُ المصادرِ أنّ الملك اليمني سميفع أشوع ذو الكلاع الذي ــ أعقب “ذو نواس” ــ قد اعتنق المسيحيّة بعد الغزو الحبشي، وتحسنت علاقته مع ملك الروم “جستنيان” الذي أوفد إليه وفدًا في العام 529م برئاسةِ البطريرك يوليانوس؛ لكن هذه العلاقة لم تدم طويلا فقد ساءت بينهما في العام 532م حين قرر الملك الحميري فرض ضرائب ورسوم على السفن الرومانية التي تمر من البحر الأحمر، فرفضت السفن الرومانية ذلك، وتم قطع الطريق عليها، الأمر الذي جعل جستينان ملك الروم يوجه ملك الحبشة بغزو جنوب الجزيرة العربية عن طريق البحر الأحمر، والسيطرة عليها نهائيا سنة 533م، ولم يملك الملك سميفع إلا أن يغرق مع فرسه في البحر كما فعل سلفه ذو نواس من قبله في أولى المعارك الساحلية التي تمت بين الطرفين. انظر: الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبأ وحمير، محمد حسين الفرح، ص: 1091/2.

الأطماع البرتغالية
مع بداية التاريخ الحديث والمعاصر استجد صراع جديد، يشاكلُ ماضيه من بعض الوجوه كما يخالفه من وجوه أخرى. فمن بين وجوه الشبه أنه الصراع الغربي/ الشرقي، القائم على أساس اقتصادي سياسي كما كان عليه سابقا إبان تصارع الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، صراع على النفوذ والربح والسيطرة؛ ومن بين وجوه الاختلاف أن الطامعين الجدد متعددين أكثر، ابتداء بالبرتغاليين، فالبريطانيين، فالفرنسيين، وصولا إلى الأطماع المتعددة الحالية.
أطلت الأطماع البرتغالية بقرونها نحو البحر الأحمر في القرن الخامس عشر الميلادي؛ حيث كان الأمير هنري الملاح قد وصل إلى غرب أفريقيا في رحلة استكشافية عام 1415م، ووصل “بيرو دي كوفلهام” إلى البحر الأحمر عن طريق مصر عام 1487م، ومنها اتجه إلى عدن، ثم إلى الهند ثم شرق أفريقيا، جامعا لكل المعلومات المتصلة بالبيئة البحرية والشواطئية وحالة الطقس وحركة التجارة من أجل السيطرة عليها بصورة نهائية. ومثلت هذه الرحلات مقدمات تمهيدية لرحلات فاسكو دي جاما عام 1497م حول رأس الرجاء الصالح، مارًا بشرق أفريقيا فالهند، وتبعتها رحلة أخرى، مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وتحديدا عام 1503م.
وخلال عشر سنوات من الاستكشافات والدراسات الجغرافية، ومعرفتهم بخارطة البحر الأحمر جمعوا معلومات مهولة عنه وعن الهند وشرق أفريقيا وميناء عدن وكذا مصر، الأمر الذي أفضى إلى استخدامهم القوة العسكرية بعد ذلك للسيطرة عليه، مستغلين تفوقهم العسكري الذي لم تكن تمتلكه لا الهند ولا الجزيرة العربية، ولا مماليك مصر أيضا حينها؛ بل لقد عملوا على تحويل طريق التجارة الدولي الذي يمر باليمن إلى رأس الرجاء الصالح الذي اكتشفه فاسكو دي جاما، وهو ما أثر سلبا على الجزيرة العربية؛ إذ تراجعت وارداتها، وتراجعت ضرائب الدخل من الرسوم الجمركية على البضائع الهندية، وشُلت حركة التجارة بشكل عام.

الأطماع العثمانية
كغيرهم من ذوي المصالح الكبرى والامبراطوريات التوسعية، لم يستسغ العثمانيون تواجد البرتغاليين في جنوب الجزيرة العربية، مسيطرة على مداخلها البحرية الاستراتيجية، خاصة وقد تحالف البرتغاليون مع إيران الصفوية يومها، ضد العرب والمسلمين، وكان العثمانيون يرون أنفسهم أمام مسؤولية كبرى تجاه البلدان الإسلامية، كون العثمانيين امبراطورية إسلامية، تُعنى بشؤون الإسلام والمسلمين وحماية أراضيهم ومقدساتهم. وزاد شعورُهم هذا أكثر حين كان البرتغاليون يعمدون إلى التنصير في البلدان التي يسيطرون عليها. ثم إن من يسيطر على مضيق باب المندب والبحرين: العربي والأحمر فقد تحكم بطريق التجارة العالمية، وهو امتياز كبير للإمبراطورية العثمانية، كما أنه ضرورة في نفس الوقت، فالمصالح العثمانية القائمة مهددة من قبل البرتغاليين.
ووصلت قواتٌ عثمانية بحرية هائلة إلى عدن في أغسطس 1538م، لطرد القوات البرتغالية من الهند وسواحل عدن والبحر الأحمر، بقيادة سليمان باشا، فقتلت حاكم عدن عامر بن داود الطاهري غدرًا، بعد أن استقبلهم وفتح لهم الأبواب، وسيطرت على عدن؛ بل وعدُّوا ذلك فتحا. كما عين أحد قادة الحملة نائبا له على عدن، وتوجه إلى الهند للقضاء على البرتغاليين هناك، وبسط نفوذه عليها، إلا أنه فشل في ذلك، وعاد إلى عدن بحملته، مكتفيا بها وبالسواحل الجنوبية دون الهند، وبهذا يكون قد حصن باب المندب وسواحل البحر الأحمر من أي مرور للسفن البرتغالية، كما سيطر على جزيرة كمران وميناء جيزان وميناء جدة..
ولم ينقض النصف الأول من القرن السادس عشر إلا وكان العثمانيون قد طردوا البرتغاليين من البحر الأحمر، واستولوا على الموانئ الهامة على شاطئيه الأفريقي والأسيوي، وهي سواكن وعقيق ومصوع ودوهونو على الساحل الأفريقي. كما استولوا على عدن، وحصنوا جدة على الساحل الأسيوي، وجعلوا من البحرِ الأحمر بُحيرة عثمانية، أغلقوها في وجه السفن البرتغاليّة المسيحيّة. وفي منتصف هذا القرن أيضا عين العثمانيون حاكمًا تركيًا على مصوع وآخر على سواكن، ووضعوا هذين الحاكمين تحت إشراف والي جدة، وهو حاكم الحجاز. انظر: عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر، د. فاروق عثمان أباظة، 54.

الأطماع الهولندية
برزت هولندا قوة اقتصادية كبيرة مع بداية القرن السادس عشر، فضمت البرتغال إليها، وتوسعت شرقا في البحار، بغرض السيطرة عليها، وإحكام طرق التجارة، فعمدت أولا إلى تأسيس شركة الهند الشرقية الهولندية عام 1594م، وفي العام 1614م أرسلت أول أسطول لها إلى البحر الأحمر، لاستطلاع حركة التجارة في سواحله، فنزل أولا في عدن، ثم ذهب إلى الشحر، ثم إلى “مخا”، ثم زار الوالي العثماني إلى صنعاء، لغرض استصدار تصريح له بتأسيس وكالة هولندية تجارية في “مخا”، إلا أن الوالي أوضح له أن ذلك من اختصاصات الباب العالي، وليس من اختصاصه هو، كوالي، فترك الرحالة الهولندي “بيتر مان” اليمن، وذهب إلى الهند.
وبهذا تكون هولندا قد وصلت إلى البحر الأحمر لأول مرة في تاريخها؛ لكنه وصول خاطف، لم يدم كثيرا، ولم يأخذ من الصراع كثيرا كالبرتغاليين أو العثمانيين.

الأطماع البريطانية
لا توجد دولة في الغرب أو الشرق لها أطماع اقتصادية وسياسية مثل بريطانيا في بداية العصر الحديث. وكانت بريطانيا من أوائل دول أوروبا ـ إن لم تكن أولها جميعا ـ التي سعت لتوسيع تجارتها الخارجية، وتأسيس المستعمرات التي تضمن مصالحها؛ بل لقد كان الطابع العام للاستعمار البريطاني طابعًا اقتصاديًا خالصًا. وكانت في القرن الثامن عشر وما بعده تمتلك أكبر وأقوى أسطول بحري عالمي، ساعدها في السيطرة على البحار وعلى طرق التجارة، وعلى الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، فتحالفت من وقت مبكر مع الاسبانيين والفرنسيين وكسرت احتكار البرتغاليين، ووصلت إلى رأس الرجاء الصالح، ومنه إلى الهند، واحتلت مضيق جبل طارق وجزيرة مالطة..
ما تنبغي الإشارة إليه هنا هو تلك المحاولة الأولى للبريطانيين السيطرة على ميناء عدن، إلا أن العثمانيين كانوا لها بالمرصاد؛ إذ اعتقلوا قائد أول سفينة بريطانية وصلت عدن، وصادروا حمولة السفينة، ثم رحلوه عبر ميناء المخا. وتكررت المحاولة الثانية عام 1610م بثلاث سفن حربية بريطانية إلا أن العثمانيين احتالوا عليها باستقبال قباطنتها استقبالا حسنا، ثم التفوا عليها، ووقعت مناوشات حربية لم تفلح في مصادرتها بين الجنود البريطانيين والعثمانيين، أسفرت عن رحيل البريطانيين، وتبعتها محاولة أخرى عام 1612م، ومحاولة أخرى أيضا عام 1618م، وكلها بغرض التعرف والسيطرة؛ ولذا كان البريطانيون داعمين لأئمة صنعاء المناوئين للعثمانيين، حتى يجدوا لهم نصيرا داخل اليمن، يمكن أن يسهم في تسهيل عمليات التبادل التجاري، وخاصة ما كان يتعلق منها بتجارة البن اليمني في ميناء مخا. وقد استمرت هذه العلاقات الودية لمدة قرنين من الزمان على النحو الذي يؤكده هارولد انجرامز، موضحا أن البريطانيين في عدن مدينون بالكثير لأسلافهم الذين سعوا لإيجاد علاقات طيبة مع الأئمة. انظر: عدن والسياسة البريطانية في البحر الأحمر، د. فاروق عثمان أباظة، ص: 68.
في يوم 19 يناير من العام 1839م احتل الكابتن “هنس” عدن، بعد سنواتٍ طويلة من التخطيط والدراسة، وبعد التمهيد لذلك بكل الأساليب من أجل السيطرة عليها، لأهمية هذا الميناء وموقعه الاستراتيجي، ولما يمكن أن يمثله لهم من ضمانةٍ اقتصاديةٍ كبيرة للحفاظ على مصالحهم في الهند القريبة من عدن، وفي طرق التجارة الدولية المرتبطة بعدن والهند وشرق أفريقيا، خاصة وقد كانوا مسيطرين على مضيق جبل طارق الذي يمثل لهم أيضا قوة اقتصادية وسياسية كبيرة، وظلت بريطانيا مسيطرة على عدن حتى العام 1963م، كما سيطرت أيضا خلال هذه الفترة على جزيرة كمران في البحر الأحمر؛ لأهمية هذه الجزيرة، والتي قضت فيها الملكة اليزابيت شهر العسل مع زوجها ومرافقيها مطلع خمسينيات القرن الماضي.

الأطماع الفرنسية
كان ميناءا جدة الإسلامي وميناء مخا، وكلاهما على الضفة الشرقية للبحر الأحمر من أشهر موانئ البحر الأحمر، منذ القرن السادس عشر، فما بعده. ولذا كانا مطمع كثير من القوى الدولية التي بدأت بالتعملق خلال هذه المرحلة.
لما ازدادت شهرة ميناء “مخا” ــ وشهرتها آنذاك من شُهرة سلعة البُن بدرجة رئيسية ــ طمعت فرنسا كغيرها من القوى الطامعة والطامحة بأهمية المكان، وسلعه التجارية، ونافست الهولنديين والبريطانيين والعثمانيين هناك، حيث وصلت أول سفينة تجارية سنة 1709م إلى مخا، وقابلوا عامل الإمام هناك، ومن مخا انتقلوا إلى صنعاء، وقابلوا الإمام المهدي محمد بن المهدي أحمد، صاحب المواهب، واتفقوا على العمل في الميناء اليمني نهارا، والعودة إلى سفنهم في البحر ليلا، ورفع علم بلادهم على وكالتهم التجارية، والسماح لهم بممارسة طقوسهم الدينية، وقد حددت الضرائب الجمركية بـ3% على البضائع المباعة، مما أدى إلى زيادة الطلب على البن وارتفاع سعره.

الأطماع الإيطالية
التواجدُ الإيطالي الحديث والمعاصر في البحر الأحمر امتدادٌ للتواجد الروماني القديم الذي ذكرناه آنفًا، وهو وإن انقطع عن جنوب الجزيرة العربية بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، إلا أنه لم ينقطع عن المنطقة بشكل عام، فقد ظلت العلاقات التجارية قائمة بين شرق أفريقيا ومدن التجارة الإيطالية كالبندقية وجنوة، المشهورتين بالتفوق التجاري.
وصل الإيطاليون إلى جنوب الجزيرة العربية لأول مرة مع بداية القرن التاسع عشر؛ فقبل الحضور الإيطالي المباشر سياسيا وعسكريا في المنطقة حضرت أولا استخباراتيًا مع بداية القرن التاسع عشر؛ حيث تمكن أربعة إيطاليين من الدخول إلى اليمن، بوصفهم أطباء في الجيش الذي أرسله محمد علي باشا 1805ــ1849م، لحرب الدولة السعودية الأولى، وكانت تلك البداية لدخول الإيطاليين إلى المنطقة. واستطاع هؤلاء التعرف على البيئة البحرية والشواطئية للبحر الأحمر، ثم غادروا إلى إيطاليا.
بعد الحرب العالمية الأولى عزمت إيطاليا على غزو اليمن، لكي تقوي مواقعها في أرتيريا، وبهدف تسهيل تغلغلها اللاحق في أثيوبيا. وطمعت في السيطرة على كل من ميناء الحديدة في اليمن، ومصوع في ارتيريا، الواقعين على ساحل البحر الأحمر، فيكون لديهم بذلك أهم المواقع الاستراتيجية المؤدية إلى المحيط الهندي، وطمع الإيطاليون بجزرِ فرسان السعودية، لربطها بجزيرة مصوع تجاريا.

الأطماع الألمانية
تعود الأطماع الألمانية في اليمن إلى ما قبل 400 سنة، وتحديدا إلى العام 1606م، عندما زار “هانس فيلد” من مدينة “نورن بيرغ” الألمانية سواحل البحر الأحمر، مستطلعًا طبيعته وخصائصه؛ لينشر في 1613م كتابًا تضمن انطباعاته عن الزيارة؛ علما أنه في العام 1608م كان قد ظهر بمدينة “لايبريغ” الألمانية كتابٌ آخر باللغة الألمانية سجل انطباعات أحد الرحالة الاستكشافيين الايطاليين للأوضاع الداخلية اليمنية، وقد كان لهذين الكتابين دور كبير في عكس صورة واضحة عن اليمن وأهميتها، حتى تتالت بعدها الزيارات والرحلات الاستكشافية للجغرافيين الألمان الذين كان لهم الأثر الكبير في التعريف بالحضارة اليمنية.
وكان الرحالة الألماني كارستن نيبور قد زار قبله جدة وسواحل البحر الأحمر بشكل عام، حتى وصل إلى اليمن، ضمن رحلة غربية شرقية دون فيها تفاصيل رحلته في كتابه المعروف “من كوبنهاجن إلى صنعاء”.
وكغيرهم كان للألمان أطماعهم في أرخبيل “فرسان” والذي يبعد حوالي خمسين كيلو مترا عن مدينة جيزان السعودية، وكان هذا الأرخبيل واقعا تحت سلطة الدولة العثمانية.
وقد تقدمت ألمانيا بطلب إلى الدولة العثمانية في سبتمبر/ أيلول عام 1890م، فحواه تأجير مكان لها في جزيرة فرسان، الواقع ضمن ولاية اليمن آنذاك، يكون مستودعا للفحم الحجري، بغية توفير الوقود لحاجات السفن الألمانية الحربية المتوجهة إلى الصين، مشيرة إلى أنها سوف تدفع الرسوم المقررة عليها، وأنها ستتقيد بأنظمة الدولة العثمانية. وعلى الرغم من العلاقة الحميمية والقوية بين الدولة العثمانية وألمانيا حينها إلا أن الدولة العثمانية اعتذرت عن هذا الطلب، عارضة بدائل أخرى للألمان، حيث أفاد وزير الخارجية العثماني أنهم مستعدون لتزويد السفن الألمانية بالوقود من جزيرة كمران، القريبة ــ نسبيا ــ من جزيرة فرسان، أو من ميناء بور سعيد، الواقع على البحر الأبيض المتوسط؛ حيث يوجد به مستودعات للفحم الحجري، ومن الممكن أيضا أن تقدم الوقود للسفن الألمانية بسعر دون السعر الحقيقي، تقديرا للصداقة بينهما. وتكرر الإلحاح الألماني مرة ثانية على العثمانيين، إلا أن العثمانيين تصلبوا تجاه الطلب، على الرغم من تلويح السفير الألماني للعثمانيين بأن هذا الرفض سوف يسيء للعلاقة الحسنة بين البلدين. ومع هذا أصر العثمانيون على موقفهم، مبدين رغبتهم باستمرار الصداقة بين البلدين..
ومع هذا التصلب إلا أن الألمان عمدوا إلى تجاوزه، متخذين عدة خطوات عملية لاستغلال جزر فرسان، وواضعين العثمانيين أمام الأمر الواقع
وقدد أبرق العثمانيون إلى الألمان، منددين بهذا التجاوز، وفي نفس الوقت عملوا على توجيه القيادة العسكرية باليمن بتوفير قوات عسكرية في الجزيرة عبر ميناء اللحية، ليس ذلك فحسب؛ بل أرسلت الدولة العثمانية الأوامر اللازمة إلى قيادة الجيش السابع في اليمن بإرسال عدة مدافع، لوضع الاستحكامات اللازمة في الجزيرة، بناء على أهميتها الاستراتيجية البالغة. وقامت القواتُ العثمانية بإزالة كافة العلامات التي وضعها الألمان. كما بدأت السلطات المحلية العثمانية في البحر الأحمر بمراقبة سائر تحركات السفن الألمانية القادمة إلى المنطقة، وليس إلى فرسان فقط.

الأطماع السوفيتيّة
يرجع اهتمامُ السوفيت بموانئِ المياه الدافئة على البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي إلى أيام القيصر بطرس الأكبر 1682ــ 1725م، ففي وصيته المنشورة عام 1775م كتب بطرس يحض خليفته على التحرك جنوبا إلى القسطنطينية “البوسفور” والخليج العربي والهند، معلنا أن من يسيطر على تلك المناطق يحكم العالم. هكذا عمل الروس، ومنهم الزعماء السوفيات الذين حكموا بعد ثورة 1917م الشيوعية، على مواصلة سياسة الامتداد جنوبا، وقد أوضحت كتابات الأميرال سيرجي غورشكوف مدى حاجة السوفيات إلى تسهيلات البحر الأحمر في الخمسينيات والستينيات، وبخاصة بعد إدخال الولايات المتحدة الأمريكية الغواصات النووية إلى المنطقة.
وكغيره من القوى العظمى حينها استطاع الاتحاد السوفيتي السيطرة على بعض المفاصل المهمة على ضفتي البحر، كعدن وسقطرى وقاعدة التواهي في اليمن الجنوبي سابقا، وعصب ومصوع على الساحل الارتيري، وأيضا في أرخبيل جزر دهلك، ضَمِنَ له هذا التواجد حرية الحركة وانسيابها عبر أهم المضايق المائية، كمضيق البوسفور والدردنيل التي تربط البحر الأسود بالبحر الأبيض، وقناة السويس التي تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، وباب المندب الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي.. انظر صراع القوى العظمى حول القرن الأفريقي، صلاح الدين حافظ، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 49، يناير، 1982م، 174.

الأطماع الأمريكية
تعود أول علاقة للأمريكيين بالبحر الأحمر إلى العام 1785م، حيث وصلت أول سفينة تجارية أمريكية إلى السواحل اليمنية، لتجارة البن، وأيضا لنقل التجارة من الشرق إلى الغرب، منافسة بذلك بريطانيا “فقد افتتح هؤلاء التجار الأمريكيون لأول مرة خطا تجاريا مباشرا بين البحر الأحمر وشرق أفريقيا، ويمتد هذا الخط حتى يصل إلى أمريكا، وقد شكل ذلك منافسة خطيرة للبريطانيين، خاصة بعد أن سيطر الأمريكيون على تجارة البن اليمني بوجه خاص في مطلع القرن التاسع عشر”، وفقا للدكتور فاروق أباظة، ومن يومها تواصل حضورهم ولا يزال إلى اليوم؛ حيث تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية هي المسيطر الأول تقريبا على البحر من خلال قواعدها العسكرية هناك، ومن منطلق الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، وأيضا البحر العربي، وحجم التجارة العالمية المرتبطة بهذين البحرين، والأمريكية منها على وجه الخصوص.
كما أن من ضمن اهتمامات الولايات المتحدة ــ في إطار جهودها للتأثير على منطقة البحر الأحمر ــ قيامها بتزويد بعض دول البحر الأحمر بالأسلحة منذ الخمسينيات، وإذا كان تقديم المعدات العسكرية الأمريكية إلى أثيوبيا قد انتهى في العام 1977م إلا أنه ظل متواصلا إلى دول أخرى، وبعد 1977م قدمت الولايات المتحدة أيضا أسلحة إلى السودان ومصر واليمن الشمالي، مع ذلك بقي الميزان دائما في صالح إسرائيل. هكذا ظلت الأسلحة الأمريكية المقدمة إلى الأقطار العربية محدودة في الكم وفي النوعية. انظر: البحر الأحمر والصراع العربي الإسرائيلي، 139.
ولم يكن مبدأ كارتر “التدخل السريع” الذي أعلنه الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في يناير 1980م إلا في هذا الإطار، والذي يأتي في سياق حماية المصالح الأمريكية بالتدخل العسكري والمباشر. خاصة بعد أن برزت أهمية البحر الأحمر من منظور الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، في أعقاب حرب 1973م، حين استُخدم النفط العربي كسلاح سياسي، وهو ما أكد للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان أهمية منطقة النفط في الشرق الأوسط، وخطر الطرق والممرات البحرية في البحر الأحمر، الأمر الذي وضع المنطقة في دائرة التنافس بين القوى الدولية.

الأطمَـــــــــاع الجـــــــديـدة
في الواقع الأطماع الجديدة هي امتدادٌ للأطماع القديمة، وإن من جديد ففي الآليات والوسائل والتكتيك فقط، وربما ازدادت هذه الأطماع تكاثرا، مع تكاثر اللاعبين الكبار، ومع تقاطع المصالح، وهذان متزامنان مع الاضطرابات الجديدة.
ثمة لاعبون جدد اليوم على المسرح الدولي، من مختلف الاتجاهات والتيارات، وهو ما يجعل من المناطق السائبة ساحات حرب جديدة، وأخطر هذه الحروب الحرب بالوكالة، إذ لم تعد القوى الكبرى تحارب تقليديا بأسلحتها وجنودها اليوم؛ بل تحارب الشعوب ببعضها البعض، عكس الحروب التي عُرفت في القرن العشرين، وما قبل القرن العشرين. وتجارب العشرين عاما الماضية من القرن الجديد تؤكد ما نقرره هنا. وهو ما يسمى بحروب “الجيل الخامس”.
وتمثلُ إيران عبر مخالبها الناشبة في المنطقة خطرا جديدا على منطقة البحر الأحمر، وتهديدا للملاحة الدولية وللتجارة الداخلية والخارجية.
التوصيات
بناء على ما سبق، ووفقا لما تقتضيه مصالح الدول المطلة على البحر الأحمر، وعددها ثماني، إضافة إلى مصالح الدول الأخرى نرى التالي:
1ــ إعلان استراتيجية “بحرأحمرية” من قبل الدول المطلة على البحر الأحمر، مستفيدة من الدراسات السابقة، ومما استجد مؤخرا.
2ــ الإعلان عن تأسيس هيئة بحرية خاصة بذلك تعمل على متابعة المستجدات البحرية والشواطئية لضفتي البحر الأحمر، ثم تقديم الدراسات والتوصيات للجهات ذات العلاقة.
3ــ إعادة مدينة الحديدة في غرب اليمن إلى وضعها الطبيعي كما كانت، وتخليصها من يد مليشيا الحوثي الإيرانية، فقد أصحبت عامل تهديد لمصالح اليمن والإقليم؛ بل والعالم.
4ــ تعزيز الموانئ البحرية والمراسي والشواطئ بخفر سواحل جديدة، لمزيد من إحكام السيطرة، ومراقبة الأنشطة البحرية غير القانونية، وأيضا التهريب والاتجار بالبشر والتلوث المائي والصيد البحري الجائر والصيد غير الموسمي وجرف الثروات البحرية بطريقة غير صحيحة.
5ــ تأسيس مركز بحث علمي مستقل يُعنى بشؤون البحر الأحمر وخليج عدن.

تعليقات الفيس بوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى