مقالات رأي

الحزب الإشتراكي .. والقضية الجنوبية

بقلم: د. محمد عوض هرورة

عند ما قررت بريطانيا الدولة المحتلة للركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية, منح الإستقلال وحق تقرير المصير لدولة اتحاد الجنوب العربي, بموجب وثيقة الإستقلال الموقعة في جنيف في30 نوفمبر1967 م .

 اعترض الوفد المفاوض للجبهة القومية , على اسم دولة الجنوب العربي,وطالب بتغيير الإسم إلى جمهورية اليمن الجنوبيه الشعبية, الذي تم تعديله فيما بعد إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية,وهو الإسم الذي بقى معترفآ به, في جميع المحافل الدولية حتى عام1990 م  ولم يزعج هذا التغيير دولة الإحتلال مادامت قد قررت الرحيل .

وإذا كانت بداية التأسيس لدولة الملة في الإسلام,  قد بدأت في أية(الرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وأية(وما كان لمؤمن أو مؤمنة الأمر  فيما اختاره الله ورسوله) وأية (لا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجآ مما قضيت) ولم يعترض أحدآ على التأسيس لهذا النظام من ألحكم,فإن القضية الجنوبية تم وضع حجر الأساس لها يوم ولادة الدولة, وتغيير إسمها في وثيقة الإستقلال .

عندما قررت بريطانيا الرحيل, وتسليم الدولة الجنوبية, إلى الجبهة القومية, فقد سلمت دولة بكل ما تعنيه كلمة الدولة في القاموس السياسي من حيث(الإقليم ,والوحدة الترابية, وشعب , وحدود معترف بها دوليآ) وطالبت من جميع الدول الإعتراف بالدولة الوليدة .

 كانت الدولة الجديدة تمتلك مقومات الدولة الحديثة في ذلك الوقت,وتعتبر نموذج معياري حيث تركت بريطانيا جهاز إداري حديث متطور ومنظمات مجتمع مدني, وأحزاب سياسية, وصحافة حرة, وفصل بين السلطات, وبنية تحتية, فقد كانت ميناء عدن هي الأولى في الشرق الأوسط, ومطار عدن هو الأول, وتلفزيون وإذاعة عدن هما أول مؤسستين إعلاميتين على مستوى الجزيرة والخليج .

اتخذت سلطات الدولة الجديدة إجراءات ثورية سريعة, وعاجلة في تهديم بقايا مخلفات الإستعمار, وأدواته, فأغلقت الصحف الأهلية والحزبية, ولم تبقي إلا على صحيفة وحيدة14 أكتوبر متخصصة في نشر صور الأمين العام للجبهة القومية, ونقل أخبار نشاطاته الإبداعية في الأدب, والفن, والعلوم الفلسفية, وعلوم الإجتماع, وعلم النفس, والإقتصاد السياسي, وعلوم الفضاء, وعلوم الدين, وقامت الجبهة بحل الأحزاب السياسية وحظرت نشاطها, كما جرمت أي نشاط سياسي, أو نقابي , أو ثقافي لا يتوافق ويتطابق مع نهج الجبهة القومية, جسر العبور إلى الحزب الإشتراكي .

ولتأكيد الجبهة القومية على النهج التقدمي,  الإستقلالي لها, وحرية القرار السياسي حلت المجلس التشريعي باعتباره رمز من رموز,وبقايا  الاستعمار البغيض, ونكاية به تم تحويل مبناه إلى قلعة ثورية من قلاع جهاز أمن الثورة, ومؤسسة عقابية للعملاء, وأعداء الثورة المعادين لبناء اليمن الديمقراطي الموحد, حلم الحركة الوطنية اليمنية من(صحافيين, وكتاب, وفنانين وسياسيون, ورجال أعمال”””’الخ ) , وكل هذه الإجراءات قد تم اتخاذها من أجل : تثبيت الفكر الواحد, للعقل الواحد , للرجل الواحد, الحاكم الواحد, الشخص الواحد, الأمين العام الواحد .

لم تمنع عملية تهديم مخلفات الإستعمار البغيضة, النظام التقدمي الجديد من الإستفادة من بعض تلك المخلفات بعد عملية تطويرها, بما يتوافق مع ثوابت الثورة في الوظيفة, والمهام حيث تم تحويل ميناء عدن من ميناء تقتصر وظيفته على تقديم خدمات التزود بالوقود للسفن التجارية للشركات الإحتكارية العالمية, وكذلك نقطة إعادة للتصدير لتلك الشركات إلى إفريقيا, فقد تم إغلاق الميناء في وجه حركة التجارة العالمية الأمبريالية,وتحويله إلى ميناء وطني يقدم خدماته  للسفن التي تحمل المساعدات الغذائية المقدمة من الدول الإشتراكية مثل : الأرز والعدس من الصين , والقمح من روسيا أو الإتحاد السوفيتي السابق .

كما تم التحوير في وظيفة مطار عدن من مطار عالمي يستقبل مئات الطائرات يوميا من  أصقاع الأرض, إلى مطار وطني بحت بأربع طائرات تنقل وزراء الوحدة , ولجان حوار إعادة وحدة الشطرين أرضآ وإنسانآ,  بين صنعاء, وعدن ,كما تنقل قيادات حركات التحرر الوطني المتواجدة في عدن, إلى مؤتمرات الأحزاب الشيوعية, بالإضافة إلى نقل الطلاب المبتعثين من أبناء تعز والمناطق المجاورة لعدن إلى دول المنظومة الإشتراكية كتعبير عن مصير ووحدة الشطرين .

أما ما يخص مؤسسة الإذاعة, والتلفزة, وهما الجهازين اللذان اعتمد عليهما الإستعمار في الترويج لثقافته البرجوازية, وتقاليد, وأخلاق الرأسمالية, والإستعمار, وماينشره في الجهازين من قيم التفسخ البرجوازي, فقد تم تحويل وظيفتهما من جهازين هدم للقيم إلى أداة فاعلة بيد الثورة, لتكريس الثقافة الثورية, والتقدمية , فقد تحولت الإذاعة من تقديم موسيقى (بيتهوفن, وموزارت) إلى تقديم الأغاني الوطنية , ذات الرسالة الأيديولوجية مثل أغنية (مخلف صعيب ) , وأغاني(الحزب هو القائد وطليعة كل الشعب , والحزب وحدنا التزاما)( كما تحولت من نشر الإعلانات التجارية المكرسة لثقافة الإستهلاك, إلى نشر الشعارات الثورية من مثل( الحزب صمام أمان الثورة, لا صوت يعلو فوق صوت الحزب, لنناضل من أجل انتصار الثورة اليمنية, وتحقيق الوحدة اليمنية, وبناء الحزب الطليعي من طراز جديد, ستضل وحدة الشعب اليمني وتقدمه الإجتماعي هدف الأقلام الشريفة, و ستضل الكلمة ركيكة الحرف مجزاءة المعنى إذا لم تكن من أجل الشعب ) وهناك ألاف الشعارات التي لا يتسع وقت القارئ لتذكرها .
     
وما أحدثته الثورة من تغيير في مهام ووظائف الإذاعة, وما جرى من تحول في نوع وشكل المواد, والقضايا التي تتناولها, فقد امتد إلى مؤسسة التلفزة, حيث تم إحداث نقلة ثورية على هذا الجهاز , فبدلآ من عرضه المسرحيات الهابطة لشكسبير أيام الإحتلال, وتقديمه لبرامج وأفكار الرأسمالية, والترويج لها, والمتمثلة بأفكار (ستيوارت مل, لوك, وبراتدرسل, وجون ديوي, ومونتسكيو, وشوبنهاور, وبياجية, وجانيه, وهيدجر,ومورلو بونتي, وجورج أويل,) وغيرهم من مفكري الرأسمالية, فقد تحول إلى جهاز وعي طبقي يناقش قضايا الوطن والندوات الخاصة بالثقافة الوطنية, ومجالات الإبداع الفني, والأدبي في ديوان(نجمة تقود البحر) كما يقدم الإحتفالات, التي يقوم بها الشعب في أعياده الوطنية التي زادت على700 عيد, أي بمعدل عيدين في اليوم الواحد , بالإضافة إلى نقله للفعاليات , والمهرجانات التي تقوم بها حركات التحرر الوطني , والتي لها تمثيل في عدن مثل (الجبهة الوطنيه الديمقراطية في الشطر الشمالي من الوطن, وجبهة تحرير عمان, وجبهة تحرير البحرين,وجبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب, والجبهة الشعبية لتحرير نجد والحجاز) وغيرها من حركات التحرر .

ان عدن في عهد النظام الجديد(حكم الجبهة القومية) قد تحولت من مركز تجاري, وقلعة من قلاع الرأسمالية, إلى قلعة من قلاع الثورة العالمية, وتحولت من مركز لثقافة الإستهلاك البرجوازي, إلى مركز وعي ثوري, وقبلة للثوار, والحالمين بالثورة الإشتراكية , بعد تحولها قاعدة من قواعد الثورة العالمية المتمثلة ب (المنظومة الإشتراكية وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي, حركة التحرر الوطني في أسيا, وأفريقيا, الحركة العمالية العالمية في البلدان الرأسمالية ) , وهكذا استمرت الإنتصارات بقيادة الجبهة القومية, على الإستعمار ومخلفاته, إلى أن توجت الإنتصار العظيم قيام حزب طليعي من طراز جديد في14 أكتوبر78 م هو الحزب الإشتراكي اليمني , وقيام الحزب بهذا الوقت مثل صمام أمان الثورة.

سار الحزب على نفس الطريق الذي سلكته الجبهة القومية مع اختلاف بسيط, أن المهام التي أمامه كانت الجبهة قد حددت معالم الطريق إليها, ولم يبقي أمامه إلا عقبة واحدة, هي تمزيق الحدود بين شطري الوطن التي رسمها الإحتلال, في30 نوفمبر67 م في وثيقة الإستقلال , حاول الحزب منذ اليوم الأول لإشهار وجوده التأكيد على أن الجنوب جزء لا يتجزء من اليمن ,وأن من أول إهتماماته النضالية النضال في سبيل وحدة الشعب اليمني, وأنه لا بد من عودة الفرع إلى الأصل, والجزء إلى الكل, وأن الكل هو اليمن.

للوصول إلى الهدف قدم الحزب الدعم المالي, والعسكري للجبهة الوطنية من أجل إسقاط النظام الحاكم في صنعا, بل ودخلت دولة الجنوب الحرب مباشرة, والتي عرفت بحرب 79 م من أجل تحقيق الوحدة, وعند ما تدخلت الجامعة العربية لوضع حد للعمليات العسكرية, وعقد لقاء قمة بين رئيسي الدولتين, في دولة الكويت, تمخضت القمة بخروج الرئيسان بإتفاق لإعادة الوحدة بين الشطرين , حيث كان مطلب إعادة الوحدة اليمنية لقيادة الحزب الحاكم في الجنوب شرط أساسي لإنهاء الأعمال العدائية بين الدولتين, وفي عام82 تم إقرار دستور دولة الوحدة من قبل قيادة الحزب , وتوالت عمليات الركض نحو الوحدة من قبل قيادة الحزب الإشتراكي , إلى أن بلغ مداه في30 نوفمبر1989 م بتوقيع الأمين العام للحزب على وثيقة الوحدة الإندماجية, التي تنازل فيها الحزب عن اسم الدولة وحدودها وعلمها, وعن الإعتراف الدولي, وعن تاريخه.

وفي22 مايو عام90 م تم تنفيذ إتفاق 30 نوفمبر, ودمج الدولتين في دولة واحدة, كان الخاسر الأكبر في عملية الدمج تلك, هو الجنوب, والشعب الجنوبي وبعد خروج الحزب من اللعبة السياسية يقول أن رؤيته للقضية الجنوبية التي قدمها إلى مؤتمر حوار موفنبيك عام2013 م هي الأصوب, فهل يعقل أن من مهد ورتب وسبب في وجود القضية يكون هو من بيده الحل ؟ .. أم أن الحزب يريد الذهاب بالجنوب إلى نكبة جديدة؟!.

ن من تسبب في نشوؤ القضية هو الحزب الإشتراكي, وما حصل في94 م وما تلاه من تداعيات هي نتيجة , وليست سبب .

تعليقات الفيس بوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى