الرؤية السياسية والمنهج العلمي وقفة مع مؤلفات الإمام الشوكاني
د. ثابت الأحمدي
لم يكن الإمامُ محمد بن علي الشوكاني 1173ــ 1250هـ فقيهًا ومجددًا دينيًا فحسب؛ بل كان صاحبَ نظر عميقٍ في الفكر والسّياسة والتاريخ أيضًا.
كانت مؤلفاتُه في أغلبها ــ والتي تزيد عن 120 مؤلفًا ــ ردًا على رُكامات الزيفِ الكهنوتي خلال مئاتِ السنين قبله، في تلك البيئة التي تفرّخ فيها هذا الفكر كثيرًا، داحضًا أباطيلها وكهنوتها بأدواته العلمية الراسخة، وقد فاقَ فقهاء الكيان الإمامي علما وفقهًا وثقافة، فكان موضع احترام وتقدير الخاصة والعامة، ولهذا تولى منصب “قاضي القضاة” لثلاثة آئمة متتالين، المنصور علي بن المهدي عباس، والمتوكل أحمد بن علي، والإمام المهدي عبدالله بن أحمد.
وعودة إلى أشهر مؤلفاته التي كانت ردا مباشرا على ما ساد من معارف فقهية وثقافية في وعي الناس آنذاك، من نتاج فقهاء الإمامة وأئمتها الذين سوّقوا للناس ثقافة مغلوطة وفكرا مزيفا، توارثوه عن أسلافهم، فانبرى الإمامُ الشوكاني مفندا أباطيلَ وخرافات هذا الكيان، كالتالي:
ــ ألّفَ موسوعته الفقهية “السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار” ردًا على كتاب “متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار” لأحمد بن يحيى المرتضى، والكتاب الأخير يعتبره الأئمة منذ القرن الثامن الهجري وحتى اليوم المرجعية الدستورية لهم، فألف الإمام الشوكاني موسوعته الفقهية المذكورة مُفندًا دعاوى ومسائل المرتضى التي ناقشها ودحضها، ومنها مسألة “الخُمس” التي أبطلها بالأدلة العقليّة والنقليّة، إلى جانب مسائل أخرى؛ الأمر الذي جعل فقيها جاروديا متعصبا كابن حريوة السماوي يفقد صوابه، محاولا الرد على الإمام الشوكاني في كتابه “الغطمطم الزخار المطهر لحدائق الأزهار من آثار السيل الجرار” ويقصد بحدائق الأزهار هنا كتاب المرتضى، من آثار “السيل الجرار”، كتاب الشوكاني، وقد ملأ كتابه المذكور بأقذع الألفاظ التي لا تليقُ بإنسان، ناهيك عن شخص يدعي العلم والفضيلة والفقه، وجميعها تنال من الإمام الشوكاني..!
ولم يقتنع ابن حريوة السماوي بذلك، بل هجا الشوكاني بقصيدة شعرية خاصة، كما فعل الشاعر “الحسن بن علي بن جابر الهَبَل” مع الإمام المقبلي من قبل.
وحين كان كتاب “الكشاف” للزمخشري في التفسير هو السّائد في عهده، والمعتمد لدى الأئمة فقد ألف الإمام الشوكاني موسوعته العلمية في التفسير المسماة “فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير” وتعمد الإمام الشوكاني أن يتبع فيه نهج الزمخشري الذي ركز فيه على اللغة من نحو وصرف وبيان، ولكن مصححًا بعض المفاهيم التي تتفق مع رأي الجمهور، والتي شذ فيها الزمخشري، ذو الفكر المعتزليّ. فحلّ كتاب فتح القدير محل كتاب الزمخشري بعد ذلك. علما أن للمقبلي أيضا كتاب بعنوان “الإتحاف في الرد على الكشاف”.
وفيما يتعلقُ بعلم أصول الفقه كان الكتاب السائد حتى عهد الشوكاني في الأصول هو الكتاب المعروف بـ “كافل الطبري” للقاضي علي بن صلاح الطبري، وهو في أساسه شرح لمتن محمد بن يحيى بهران. وكلاهما فقيهان جاروديان متعصبان. فألف الإمام الشوكاني كتابه المعروف: “إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول”. ومن يومها ساد هذا الكتاب وتسيّد على ما عداه من كتب الأصول.
من ناحية ثانية أيضا وخلال تاريخ الأئمة من قبله، وحتى تلك الفترة تعمد الأئمة وفقهاؤهم أن يقتصروا في تدويناتهم التاريخية على تاريخ أئمتهم فقط دون غيرهم من اليمنيين، فحيث فتحت أي كتاب من كتبهم لا تكاد تجد إلا الفقيه الفلاني من آل البيت والإمام الفلاني من آل الرسي، وهكذا. فألف الإمام الشوكاني موسوعته التاريخية في علم التراجم: “البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع”. وعدد فيه العلماء والفقهاء من مختلف الطبقات والفئات، من قحطانية وعدنانية، غير متعصب لفئة دون أخرى، كما يفعل الأئمة وفقهاؤهم، بدون الإشارة إلى سياسته هذه، ولسان حاله: هذا هو اليمن الكبير، وليس من يسمون أنفسهم آل البيت فقط.
وحين كان كهنة الإمامة لا يأخذون من الأحاديث النبوية إلا ما وافقَ هواهم فقط مما يسمونها أحاديث آل البيت، وأغلبها ــ إن لم تكن كلها ــ مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألّفَ الإمامُ الشوكاني موسوعته الحديثية “الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة”. حيث فنّد دعاواهم وردّ ما يسمونها أحاديث تمجدهم وتُعلي من شأنهم.
وحين بالغ الأئمة وفقهاؤهم في تقديس قبور وأضرحة أسلافهم وجعلوا منها مزارات، كما جعلوا لها قبابا وعتبات يكادون يقدسونها، ألّفَ ” شرح الصدور بتحريم رفع القبور”.
هذا هو الإمام الشوكاني شخصية علمية تجديدية وسياسية، مناوئة للكهانة والزيف المتسربل زُورًا بالدين. شكلت معارفه ونتاجاته ثقافة جديدة للجيل الذي تلاه وإلى اليوم، وقد كان الناس قبله غارقين في وحل ثقافة الكهانة الإمامية الزائفة بتعصبها المقيت. فهل “سيتشوكن” فقهاؤنا اليوم، متبعين نهجه وموقفه؟! “اللهم “شَوْكنْ” فقهاءنا.