هل نحنُ بحاجةٍ إلى أعداء؟

د.ثابت الأحمدي

أكادُ أجزمُ أننا في حاجةٍ إلى الأعداءِ أحيانًا، كما نحنُ بحاجةٍ إلى الأصدقاء. العدو الذي يتتبع زلاتنا ويكشف عيوبنا حتى وإن بالغَ في ذلك؛ بل وإن افترى وتحاملَ وخَصَم وفَجَر، كنقيضٍ موضوعيٍّ ومغايرٍ للصّديق الذي يغضُّ الطرفَ عن زلاتنا ويربتُ على أكتافنا في كلِّ مرةٍ وحين.
نحتاجُ للعدو الذي يستثيرُ فينا العزائم، ويستنفرُ القوى، ويستجيشُ الإرادات، وهذا يقتضي منا أن نختارَ أعداءنا كما نختارُ أصدقاءنا، فليس كلُّ الناسِ صالحين للعداوة، مثلما ليس جميعُهم صالحين للصّداقة..!
في هذا العالمِ الذي يمورُ بالضّجيج ويعجُّ بالمتناقضاتِ نحنُ جزءٌ منه، بعضُ أخطائنا التي نقعُ فيها ليست أخطاءنا في الواقع، هي أخطاءٌ فُرضت علينا من خارج محيطنا، سلوكياتٌ أو ربما قناعات حُكِمْنا بها رغمًا عنا.
لسنا وحدنا في هذا الكوكب، فلدينا شركاء آخرون، هم همومُنا ونحن همومُهم. نمثل معا “أعدقاء” هذا الوجود. وما مِن خصمٍ إلا ويتطبعُ بطباعِ خصمه دون أن يدري..!
أخطاءُ الآخرين أيضًا ليس بالضّرورة أن تكونَ أخطاءهم وحدهم، قد تكون أيضًا أخطاءنا نحن، من طريقٍ غيرِ مباشرٍ، ومن حيثُ لا ندري..!
لا نستطيعُ صناعة قوانين خاصّةٍ بنا نُسيِّرُ بها الوجودَ من حولنا كما نرغب؛ لكننا نستطيع صناعة قوانين أخرى تجعلنا نتكيفُ مع محيطنا.
الفردُ ــ وفقا للفلسفة الماركسيّة ــ تُرسٌ في الآلةِ الكبيرة، حركتُه في محيطه ومجتمعه مرهونة بحركة بقية الأتراس التي تحركه ويحركها في نفس الوقت، وإنَّ توقفَ أيّ ترسٍ في الآلة الضّخمة يوقف بقية الأتراس؛ بل يوقف الآلة ذاتها.
أنت ــ من ثم، وبناء على هذه الفلسفة ــ مؤثرٌ ومتأثرٌ، حاكمٌ ومحكومُ، فِعْلُ غيرك واقع بك، كما فعلك واقعٌ بغيرك. لستَ وحدك في هذا الوجود، وإن حاولت أن تكونَ كذلك.
تفتح عينك وليدًا على محيطك البيتيّ الصّغير، وما تلبث سنواتٍ أن تتوسعَ دائرة حضورك على المستوى العائلي الأكبر، ثم يتسع هذا الحضور على المستوى المجتمعي، فمستوى المدينة، وصولا إلى المستوى العالمي، متأثرًا، وربما مؤثرًا.
من هذه الجدليّة تتناسلُ أخطاؤك كفرد، ما دمت تتحرك، وما دمت تسعى، ومن هذه الحتميّة الوجوديّة تكونُ أيضًا تصرفاتك الصّحيحة. وكم هي الأخطاء الكثيرة التي تسبقُ الإنجازَ الصّحيح؟ وكم هي الخطوة الناجحة التي تسبقُها عشراتُ الخطى المتعثرة؟
حتمًا.. لن تنجحَ في خطوةٍ واحدةٍ حتى تتعثرَ في عشر.
أنت سلسلةُ أخطاءٍ ممتدةٍ من سلسلةِ نجاحاتٍ في نفس الوقت، والعكسُ أيضًا صحيح. يأتي النجاحُ من الفشل، ويأتي الفشلُ من النجاح في متواليةٍ جدليّةٍ لا تنفك عن بعضها. ومن هنا كانت نظرية ثورنديك في علم النفس التربوي، نظرية “المحاولة والخطأ”. حتى التجريبيّة الإمبريقيّة لم تبتعد عن هذا.
الحياةُ قائمة على الفعلِ وردِّ الفعل.. على الشّيءِ ونقيضِه معًا، وفقا للديالكتيك الهيجلي. على أساسِ الفعل المنعكس؛ أي فكرة المثير والاستجابة للمثير، إذا ما استعرنا مصطلح عالم النفس السُّلوكي الشهير “واطسون”، زعيم المدرسة السُّلوكيّة، مع عدم إهمال النظريّة الأخرى في تفسير السلوك، وهي نظرية الغرائز؛ حيث يراها البعضُ الدافعَ الأساس للسلوك.
وعودًا على بدء.. نحتاجُ للعدو الذي يتتبعُ نواقصَنا ويرصدُ أخطاءنا؛ لأنّ النقدَ جزءٌ من العمل، وجزءٌ من مسيرةِ النجاح أيضا، أيًا كان هذا النقد، وأيًا كان غرضُه. هذا أمرٌ مهمٌ في حياتنا حتى لا نتوه في غمرةِ الصّمت عن أخطائنا، ونغرق في وهمِ ما نراه صوابًا. نحتاجُ من يفتشُ عن سيئاتنا، ويظهرها لنا بأبشع صُورها. وصدق المسيح حين قال: “أحبُّوا أَعداءَكم. بَارِكُوا لاعِنِيكم. أَحسِنُوا إِلَى مُبغِضِيكم، وَصَلُّوا لأجلِ الَّذينَ يُسِيئُونَ إليكم وَيطردونَكم”.
لعلّ يسوع أولُ من أدرك أهميّة الأعداءِ قبلَ الأصدقاءِ في حياة الناس..!
أعداؤُنا جزءٌ من نجاحنا أحيانًا، وهاتوا لي عظيمًا واحدًا من عُظماءِ الإنسانيّة قاطبة نجحَ واجتازَ القمّة بلا عدو. قطعًا لا يُوجد.
إنها تحدياتُ الطبيعةِ والحياة..
تحديات العقل مع الأخطار المحدقة به من حوله. “إنّ كلَّ رغبةٍ لا يمكنُ إشباعها فورًا تجلبُ رغبة القدرة على إشباعها”. كما يقول برتراندراسل.
الخيلُ الذلولُ لا يجعلُ منك فارسًا بارعًا؛ بل الخيل الحرون الجموح، والطريق السّالك لا يجعل منك عَدّاءً ناجحا؛ بل الطريق المُنحني المتعرج. نحتاجُ من يرمي بجلامدِ الصّخر في طريقنا، لنجعل منها صروحًا نحو المجد، لنجعل من الجبالِ الشوامخِ درجاتٍ للترقي في الوصول إلى معارج الكمال. نحتاج من عدونا أن يرميَ بأخشابِ حقده في طريقنا لنجعلَ منها سلالم نحو القمّة.
لا أريدُ طريقًا سالكا أمضي عليه، فالكسول يستطيع فعل ذلك ولستُ بالكسول. لا أريدُ متنًا ناعمًا أطيرُ عليه، المُعاق أيضًا يفعل ذلك ولستُ بالمُعاق. لا أريدُ الوصولَ إلى القمّةِ محمولا على ظهر أحد، الأعرج يستطيع الوصول إلى القمّةِ هكذا ولستُ بالأعرج. أريدُ أن أجتازَ كلّ عقباتِ التحدي بثقةٍ واقتدار. لا أستسيغُ الفوزَ هَينا لينا.
أحبذُ النجاحَ جمرة لا خمرة، أفضّله لفحة لا نفحة، أستلذُّه بحبّات العَرَقِ المتقاطرِ، لا ببراعمِ الوردِ المتناثر. بقيظِ حُزيران، لا بِقرِّ كانون.
لا أحبُّ العيشَ إلا قمة إن تفت فالموتُ أعلى القمم
لله درُّ أعدائنا فلكم ساعدونا على النجاح..! ولا درَّ درُّ أصدقائنا الذين زهَّدونا بما نحن فيه. عدوي هو صديقي أحيانا؛ بل في أحايين كثيرة. فكم لفَتَ انتباهي إلى ثلمةٍ في جهدي الناقص؟! كم استفزني بطيش عباراته التي هدتني لمعارج الكمال في حده الإنساني؟! وكم ألقى أمامي من جلامدِ الصّخر، ليعيقَ مسيري، فحولتُها إلى درجاتٍ للترقي؟! لولا أعداؤنا ما نجحنا. لولا أعداؤنا ما تقدمنا خطوة واحدة. أعداؤنا هم شركاءُ النجاح، فهلمُّوا يا أعداء..!
ومضة بردونية:
سأمضي ولو لاقيتُ في كُلِّ خطـــــوةٍ
حُســـــامَ “يـــزيدٍ” أو وَعيدَ “زيــَــادِ”
ألا هكذا أمضي وأمضي ومسلـكـــي
رؤوسُ شياطــــينٍ وشـــــوك قتـــادِ
ولو أخّــــرت رجلي خُطاها قطعتُها
وألقيتُ في كـــفِّ الريـــاحِ قيــــادي
فلا مهجتي منّي إذا راعَــها الشّــــقا
ولا الرأسُ منّــي إن حَنته عـَــوادي
ولا الروحُ منّي إن تباكت، وإن شكا
فـؤادي أسـَــــاه فهو ليس فــــــؤادي
هو العمرُ ميدانُ الصّراع، وهل ترى
فتىً شــقّ ميـدانًا بغـير جهــــــــادِ؟

تعليقات الفيس بوك
Exit mobile version