فهمي محمد
عندما توفي محمد بن اسماعيل العمراني لم يثار مثل هذا الجدل الذي حدث مع رحيل عبدالمجيد الزنداني ، فقد ترحم اليمنيون جميعا وحزنوا على الأول وتم توديعه بما يليق بوداع عالم الدين الذي نال ثقة الشعب اليمني ، برغم حلوزونية الصراعات اليمنية المكثفة التي أقحمت الجميع فيها .
لم يرد العمراني لنفسه هذه المكانة ، بالمعنى الذي يعني أنه كان حريصا على أن يجتمع الناس في وداعه الأخير ، لكنه أراد أن يكون في حياته عالم دين ، أدرك بسعة علمه وفقهه أن اليمنيين جميعا مسلمين بالفطرة والعقيدة وموحدين لله تعالى ، حتى من قبل أن يدخلوا في دين الإسلام.
فقد كانوا أهل كتاب كما قال رسول الله عنهم لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن يعلم الناس شريعة الإسلام . لهذا لم يكن العمراني عالم الدين معني بأن تخضع عقيدة الأفراد والمكونات السياسية في اليمن لمحاكم التفتيش كما أراد شيخ الإسلام السياسي.
ولكون العمراني كان يدرك ذاته ودوره كعالم دين للمسلمين ، فقد رفض أن يكون منتميا إلى عضوية الأحزاب السياسية ، إلا أنه في المقابل كان يدرك أن تحزب اليمنيين بين يمين ويسار وقوميين هو تمذهب سياسي مباح كما هو حال تمذهب العلماء في مجال الفقة الاسلامي بين شافعي ومالكي وحنبلي و حنفي وزيدي.
فإذا كان التمذهب والتعدد الفقهي في دين التوحيد جائز شرعا ، فإن التحزب والتعدد داخل المجال السياسي يكون جائز من باب أولى.
العمراني كعالم دين ظل متجردا طول حياته من أي طموح شخصي أو سياسي ، ناهيك عن كونه كان يدرك أن الحروب والصراعات التي خاضها اليمنيون هي حروب سياسية على مقاليد السلطة والثروة ، ولا يجوز توظيف الدين الاسلامي في هذه الصراعات السياسية أو تحويل الإسلام إلى حصان طروادة لمصلحة طرف في القتال. لهذا فشلت مغريات السلطة ومحاولاتها المتكررة مثلما فشلت محاولة الحركة الحوثية مؤخرا في دفع هذا العالم الجليل إلى ممارسة الاصطفاف السياسي أو الفتاوى الدينية التي تكفر وتبيح الدماء .
في وداع محمد بن إسماعيل العمراني وجد اليمنيون أنفسهم تلقائيا أمام العمل بمقولة لحم العلماء مسموم ، فقد عرفوه عالم دين وزاهد متجرد من أطماع الدنيا ومن فجور السياسة وغنائم السلطة وخدمة الحاكم المتسلط على رقاب شعبه، عالم دين وجدوا فيه ثقتهم بالعلماء الحريصين “قولاً وعملاً” على وحدة صفهم، كما هو الحال في وداع المصريين للعالم الجليل محمد متولي الشعراوي الذي أراد لنفسه بأن يكون عالم دين فقط ، فقد رفض هو الآخر مسألة الإنتماء إلى عضوية الأحزاب والحركات السياسية، وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين التي عرضت عليه الإنضمام إلى عضويتها.
مع رحيل الشيخ عبد المجيد الزنداني، لم يجتمع حزن اليمنيون، ولم يتم الاستحضار التلقائي للعمل بمقولة لحم العلماء مسموم في وداع هذا الشيخ الذي ظل عقود يكفر العلمانيين اليمنيين والدولة العلمانية، ثم ذهب للعيش والمقام الكريم في دولة علمانية انتصرت ديمقراطياً لسلطة الإسلاميين على حساب العلمانيين الذين سقطوا ديمقراطياً ثلاث مرات أمام حزب العدالة والتنمية، حتى بدى لأحزاب وعلماء الاسلام السياسي العربي مع هكذا حال، أن أردوغان هو خليفة المسلمين وحامي عرين الدين والشريعة الإسلامية،
ومع أن الحريات الشخصية التي يمارسها الأتراك في ظل حكم الإسلاميين هي أقل بكثير من تلك التي كانت تمارس في جنوب اليمن ، إلا أن شيخ الإسلام السياسي ذهب لتكفير الحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب ، بل استمر في تكفيره وقيادته بعد أن تم الانتقال إلى دولة الوحدة اليمنية التي نص دستورها بشكل صريح على أن الإسلام دين الدولة، وأن الدين الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع في اليمن.
في حين أن الدستور في تركيا ينص صراحة على أن تركيا دولة علمانية والقوانين فيها وضعية لا يشكل الاسلام مصدر رئيسي أو وحيد لها ومع ذلك ظل اسلام حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا يزداد يوم بعد يوم في نظر شيخ الإسلام السياسي!
ومع أن الدولة العلمانية الديمقراطية ليست في حقيقة الأمر هي عدوة للدين الإسلامي أو للمسلمين، بل هي الدولة الضامنة للتداول السلمي للسلطة بين الناس مسلمين وغير مسلمين، ناهيك عن كونها ضامنة حتى لانتصار سلطة الإسلاميين ومشروعهم السياسي على العلمانيين دون قتال، كما هو الحال مع الدولة العلمانية في تركيا، إلا أن مثل هذه الحقيقة قد اعيت شيخ الإسلام السياسي عن فهمها وادراك أبعادها في صالح المسلمين، برغم إدعائه الإحاطة بما عجز عن علاجه الطب والعلم وكذلك إحاطته الجازمة بعلم الغيب كما هو حديثه عن قيام الخلافة الإسلامية في عام 2022م وعن مساحة باب الجنة التي قدرها جازماً ب1273 كليو متر.
أستطيع القول بأن الكثير من المتعصبين للشيخ عبد المجيد، لم يتجرؤا على الاحتجاج بمقولة لحم العلماء مسموم على طاولة السجالات التي دارت مع خبر وفاته، وهذا في اعتقادي شيء طبيعي لأن الزنداني لم يرد لنفسه بأن يكون عالم دين للمسلمين على شاكلة العمراني أو الشعراوي، بل أراد أن يكون شيخاً للإسلام السياسي وهذا حق مشروع له كما هو حق للآخرين بأن يقيموه على هذا الأساس.
عندما يفتش الإنسان عن فقهاء الشريعة أو علماء الدين الذين ينتزع الإسلام بموتهم ، لا يجد حضور ملفت للشيخ عبدالمجيد الزنداني، حتى مؤلفاته في التوحيد والإعجاز وسبق القرآن للعلوم الحديثة ، لا يوجد فيها ما يدهش القارئ الرصين، ولكن عندما يفتش عن شيخ الإسلام السياسي الذي لا يشق له غبار يجد حضوراً مكثفاً لهذا الرجل بلا حدود، وبلا منازع.
فهو العضو البارز والمؤسس والخطيب في جماعة الإخوان المسلمين منذ الستينيات، وهو الشيخ الطامح سياسياً والحالم بعودة الخلافة الإسلامية التي سوف تمنحه مقاليد السلطة السياسية.
لهذا لم يجد حرجا حين ذهب بكل ثقة لتبشير المعتصمين في صنعاء بقدوم دولة الخلافة الإسلامية مع أن هؤلاء المعتصمين كانوا يطالبون بقيام دولة مدنية ديمقراطية وهو هنا كان يدرك أن الغوغائية داخل ساحة الاعتصام سوف يسعدها ذلك وقد حدث فعلاً أن هؤلاء الغوغائين قد صدحوا بالتهليل والتكبير لقدوم الخلافة الإسلامية مع انهم في نفس اليوم قبل أن يصعد شيخ الإسلام السياسي على المنبر كانوا يصرخون بشعارات الدولة المدنية !.
ولكونه شيخ الإسلام السياسي الطامح في تولي مقاليد السلطة السياسية فقد وصل إلى عضوية مجلس الرئاسة المكون من خمسة أعضاء في دولة الوحدة اليمنية، بعد أن كان معارض للوحدة ، ومن ثم مكفرا لدستورها الذي ينص على أن الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع، ولم ينص بحسب رأيه على أن يكون الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع، مع أنه بعد إخراج الحزب الاشتراكي من السلطة لم ينص الدستور المعدل عام 1994 على أن الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع.
فقط تم تبييض وجه شيخ الإسلام السياسي أمام اتباعه الذين كانوا يهللون ويكبرون في كل خطاباته وتصريحاته الإسلامية ضد الدستور الكافر، بمادة تقول، الإسلام مصدر جميع التشريعات، في حين أن معنى ومدلول المادة القائلة بأن الإسلام المصدر الرئيسي والمادة التي تقول الاسلام مصدر جميع التشريعات هو معنى ومدلول واحد، يعني في كل الأحوال جواز الإستعانة بمصادر ثانوية اخرى للتشريع في اليمن.
وحدها التي تمنع الاستعانة بمصادر ثانويه أخرى للتشريع إلى جانب الإسلام، هي المادة التي كان يرفعها شيخ الإسلام السياسي في وجه الاشتراكي والتي يجب أن تنص برأيه على أن يكون الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع، وهي ما لم ينص عليها الدستور المعدل بعد حرب عام 1994م.
غير أن هذا الدستور المعدل أصبح يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في نظر شيخ الإسلام السياسي، لأن المطلوب يومها في حسابات شيخ الإسلام السياسي، هي سلطة الحزب الاشتراكي اليمني بعد تحقيق الوحدة اليمنية وليس إسلام الدستور بعد الفتح !
مع حدث الوحدة والديمقراطية وصراع السلطة الحاكمة مع فكرة الدولة عام 1990 تجسدت بالنسبة لمعظم اليمنيين شخصية شيخ الإسلام السياسي ولم تتجسد بالنسبة لهم شخصية عالم الدين الإسلامي الذي يرى في إراقة دماء المسلمين كبيرة وجريمة أكبر عند الله من هدم بيته المكرم،
لهذا وذاك صمت العمراني ومن على شاكلته وتجنبوا الخوض في الدماء ونطق الزنداني ومن على شاكلته في استباحتها في حرب سياسية لم تنتصر للإسلام بل قسمت ظهر بعير المستقبل السياسي والاجتماعي، الوطني والديمقراطي في اليمن حتى اليوم فلولاء حرب 1994 لكانت اليمن دوله ووطن.
في حرب 94 كان شيخ الإسلام السياسي هو فارس كلمة التعبئة العامة وكلمة التحريض والجهاد والفتوى التي كفرت الاشتراكيين وشرعنت دينياً قتالهم واتهامهم بأنهم يريدون أن يحولوا الكعبة الاسلامية إلى مرقص للمجون وشرب الخمر.
وعلى منوال شيخ الإسلام السياسي اقدم الشيخ عبدالوهاب الديلمي لنفس الأسباب على الإفتاء بجواز قتل الجنوبيين، لهذا تم اجتياح الجنوب دون ضوابط تحت عنوان محاربة الرده والانفصال.
فإذا كان الإنفصال هو المبرر السياسي للحرب فإن الرده هي المبرر الديني الذي قدمها شيوخ الاسلام السياسي ليس للقتال السياسي ضد الاشتراكيين، بل للجهاد الإسلامي ضد الاشتراكي والجنوب اليمني.
ما يعني في النتيجة النهائية أنه مع وداع عالم الدين الإسلامي ستظل الكلمة تلقائيا لمقولة لحم العلماء مسموم وفي وداع شيخ الإسلام السياسي تظل الكلمة للحديث عن دماء المسلمين المهدورة في دورات الصراع السياسي في ظل توظيف الدين الإسلامي لصالح السلطة السياسية، وهذا ما حدث تلقائيا ووجدانيا مع معظم اليمنيين في وداع العمراني والزنداني.