مصطفى محمود
أن الزعامة الوطنية حالة تاريخية، اي ليست مطلقة وليس لها نموذج ثابت واحد، إلا أن مقياسها العام يقوم في محاولة الحفاظ على وحدة الدولة واستقلالها وتوحيد صفوفها بمعايير الفكرة العامة التي تذلل نفسية وذهنية الانتماء الجزئي والعابر. وقد كان ذلك الأمر سهلا بعد قيام الثورتين المباركتيين 26سبتمبر و14اكتوبر بالنسبه للرئيسين عبدالله السلال وقحطان الشعبي.. بسبب توحد المقدمات الوطنية آنذاك، والصعود الاجتماعي واليساري، والحالة القومية العربية والعالمية الداعمة لفكرة التحرر والاستقلال… بينما تختلف الحالة أمام الرئيس رشاد العليمي اختلافا هائلا من حيث مقدماتها وتعقيدها. بل لا معنى للمقارنة بينهم بهذا الصدد. فقد جاء العليمي إلى الحكم في ظل تلازم الانهيار السياسي والمدني وانهيار شامل للدولة والفكرة الوطنية، وخراب اقتصادي شبه تام، وتحلل اجتماعي وانحطاط معنوي وأخلاقي مريع، وحرب اهليه طاحنه لمايقارب عقد من الزمن وتكالب دولي و إقليمي غيرمعلن ، واحتلال إيراني غير مباشر وتحكم تام بكل المفاصل الأساسية “لإعادة بناء الدوله اليمنيه..
كما أن وصوله عبر قرار نقل السلطة جرى بعد تثبيت أسس نظام التوافق السياسي (نظام محاصصة) وتصنيع النخبة السياسية الفاسدة، وتوطين ثقافة الخيانة للمصالح الوطنية، وظهور وتوسع وتجذر التجزئة الطائفية والمناطقيه والجهوية والحزبيه والعرقية الهاشميه ، واشتداد قوة وبأس الميليشيات والعصابات، وتفجير الصراع داخل الصف الجمهوري نفسه إذ تحولت القوى المقاومه للحوثي في مواجهة الشرعيه تاره ومواجهة بعضها البعض تاره اخرى . وكل ذلك على خلفية مجتمع متهرئ وإدارة بالية هي عصب الفساد والتحلل، وفقر مدقع، وانعدام شبه تام لمنظومة الصحة والتربية والتعليم، وضمور مطلق للعلم والصناعة والثقافة، وزراعة بدائية. باختصار، بلد بنيته التحتية أشبه بقنوات صرف صحي المياه الثقيلة والآسنة…. وبالتالي، فان المهمات التي واجهها الرئيس رشاد العليمي كانت (وما تزال) من الصعوبة التي لا تستطيع تنفيذها على وجه السرعه وبأفضل درجه ، أية شخصية بمفردها، حتى في حال افتراض نواياها النبيلة وإرادتها القوية ورؤيتها الإستراتيجية الواقعية والعقلانية. دع عنك انعدام هذا النوع من الشخصيات السياسية. وينطبق هذا على الأحزاب والتيارات والمطونات والفصائل الحالية الموجودة في هرم السلطة. والأسباب العامة معروفة ألا وهي انعدام تقاليد النظام السياسي العقلاني، وضعف الشرعية والقانون وحكم الدستور، وتلاشي فكرة المواطنة الفعلية، والانهيار شبه الشامل للبنية الاجتماعية الاقتصادية الحديثة والعلم والصناعة والتكنولوجيا والثقافة.
إلا أن الرئيس رشاد العليمي يواجه هذا الواقع من خلال نمو وتهذب رؤيته السياسية المبنية على أساس إدراك الإمكانية وتحديد معالم الرؤية المستقبلية للدولة والنظام السياسي والوطن والمجتمع.
فقد نمت خياراته الإستراتيجية في السياسة الداخلية صوب إدراك أهمية وجوهرية الفكرة الوطنية، ووحدة الدولة ومركزيتها، وإعادة تأهيل البنية التحتية في المناطق المحرره ، والعمل على بناء جيش يمني من الصفر متسلح بعقيده وطنيه خالصه ، والسعي الى إعادة كتابة دستور وطني جديد يابيطموحات الشعب اليمني ويستوعب كافه المتناقضات الحاليه ويحقق العداله في السلطه والثروه.. و أخيرا إدارة الصراع السياسي عبر فكرةالمجتمع مباشره وقد واجهت القوى المشار إليها أعلاه وعملت ومازالت بعضها تعمل المستحيل من اجل عرقلة هذه الخيارات… كما نمت خياراته الإستراتجية في السياسة الخارجية من خلال البحث عن علاقة معتدله للقوى المؤثرة في السياسة اليمنيه (دول التحالف العربي والولايات المتحدة) مع التركيز على البعد العميق والضروري للعلاقة العربيه اليمنيه . والسعي نحو توحيد المصالح والسلوك العملي مع السعوديه . وكلاهما خياران استراتجيان يصبان في خدمة المصالح اليمنيه الجوهرية ويسيران صوب المثلث اليمني الخليجي والعربي بوصفه ضمانة الاستقرار والازدهار اللاحق. بمعنى الجمع بين العامل الخليجي والعربي والإسلامي بالشكل الأمثل. إضافة إلى توسيع وتنويع مصادر القوة الإضافية لليمن من خلال تمتين العلاقة الاقتصادية والعسكرية بروسيا والصين .. كل ذلك يشير إلى أن الرئيس رشاد العليمي هو الشخصية الوطنية الكبرى ليس بين النخبة السياسية اليمنيه الحالية وحسب بل ايضا بين كافة نخب القرن العشرين كاملا. إذ استطاع أن يجسد فكرة الزعيم الوطني، الذي يحاول اصلاح ماافسدتة النخب اليمنيه منذ بدايه القرن العشرين جتى اليوم اء يخوض هذا التجدي في اصعب مراحل اليمن على امتداد تاريخها البشري المعلوم..
إن القائد السياسي العظيم هو الذي يجيد الانتصار ولو بعيد حين، وليس الذي ينتحر بمعايير “البطولة” الفردية… وعلى العموم، أن بطئ استعادةالوطن وبناء الدوله اليمنيه الحديثه واستكمال تحرير اليمن عبر السياسه االعمليه التي ينتهجها الرئيس العليمي أمر طبيعي وملازم لكل تجربة معقدة وحالة مزرية كما هي حالة اليمن ما بعد اجتياح المليشيا الحوثيه وتشظي البلاد على كافةالمستويات… وبالتالي، فان “النقائص” التي يجري إلصاقها به، تبقى أفضل من “كمائل ” من يسعون تقزيم وتشويه إنجازاته الوطنيه العظيمه الغير منظورة امام الرآي من خلال مهاجمته وطمس الحقائق وتزييفها
إذ يكفيه انه نزع التعاطف الدولي عن المليشيا الحوثيه – رمز الدم والدمار والخراب والارهاب . واوشك على اسقاطها شعبيا في نطاق سيطرتها، عندما وضعها وجها لوجه مع المجتمع اليمني فينطاقسيط تها في انتفاضه مطالبته بأستحقاقاته المشروعه . و لولا حرب اسرائيل على اهلنا في غزه التي استغلتها المليشيا الحوثيه وجعلتها طزق نجاةىها من مشنقةالرئيس العليمي. لكانت اليوم تصارع النهايه الوشيكه
ظل يتلازم كل من الانهيارين السياسي والمدني في اليمن تلازماً عضوياً، فمع اجتياح المليشيا الحوثية العاصمة صنعاء واسقاط الدولة.
و احتلال الملشنة لواجهة الأحداث، ومع تحول الحرب إلى أداة السياسة شبه الوحيدة والفاعلة في موازين القوى لدى كل من المليشيا الحوثية والفصائل اليمنية المقاومة
وبعد انهيار الإطار الوطني اليمني ، أصبحت السياسة مثقوبة بالعمالة المتعددة، ومرهونة كلياً للقوى الإقليمية والدولية المتنافسة والمتنازعة، مثلما أصبح المجتمع المدني الضعيف أصلاً، عبارة عن تجمعات أهلية؛ مناطقية وطائفية ومذهبية وحزبية ، متقوقعة على ذاتها، ولكن مفتوحة على كل أنواع العنف الممكنة والإرهاب الذاتي أولاً، والموجه للخارج، خارجها ثانياً.
الانهيار السياسي اغلق الآفاق القريبة أي حل سياسي ، حتى لو كان “الحل السحري” صناعة أمريكية أو “رعاية” اوروبية . والانهيار المدني اغلق آفاق المرحلة الانتقالية و”المصالحة الوطنية” والعيش المشترك، حيث تحول المجتمع اليمني مجبراً إلى مجتمع “هوبزي” من الذئاب التي تأكل بعضها عندما لا تجد ما تأكله في غيرها، ولا تجد مؤسسة مدنية أو سياسية تحميها من طغيان السلاح والميليشيات.
تولى الرئيس رشاد العليمي قيادة البلاد والمحنة اليمنية تكثف وتجمع في صُلبها محنة العراقيين في نظامهم، ثم احتلال الأمريكيين لبلادهم وتمزيقها، ومحنة اللبنانيين في حربهم الأهلية وأمرائها الطائفيين، ثم محاصصاتهم الطائفية في “اللادولة”، ثم دولة حزب الله الإيرانية المسلحة فوق رؤوسهم، والأخطر من ذلك أنها تجمع أيضاً محنة الفلسطينيين في احتلالهم الإسرائيلي، ثم شتاتهم وحقهم المنتهك وغير المعترف به واقعياً بالعودة لأرضهم، ثم محنة تمزقهم على أرض الوهم الفتحاوي والإسلام الحمساوي.
اليمن تُسلَّم مثل العراق إلى إيران الخمينية، وتتقسم هوياتياً وطائفياً وميليشيوياً مثل لبنان، وتعاني اصطفاف العالم “الأول” ضد قضية شعبها العادلة مثل فلسطين. واليمنيون يموتون بمئات الآلاف وبمجانية تبز موت العراقيين قبلهم، وينقسمون وجودياً ومذهبياً في اللادولة مثل اللبنانيين قبلهم، ولا يجدون حيلة في الشتات أو الداخل، في أراضيهم “المحررة” أو “المحتلة”، مثل الفلسطينيين قبلهم.
الانهيار السياسي ليس انهياراً للسياسة بوصفها أداة غيبتها الحرب فحسب، ولا انهياراً للبنية والبناء السياسي الذي صنعته الجمهوريه والوحده عبر عقودها الثلاثه الماضية فحسب، بل انهياراً للسياسة بوصفها إطاراً يجمع الشركاء في “الوطن”، المختلفين في كيفية إدارته، فالخلاف السياسي بين عُمَّال السياسة في اليمن لم يكن خلافاً سياسياً وظيفياً بقدر ما هو صدع وجودي غير قابل للرأب والجَسر السياسي بسهولة، و”التحزّب” الذي عجز النظام والمعارضة عن إيجاده في اليمن قبل 11فبراير 2011م بوصفه رغبة طوعية وإرادية في الانضمام إلى مكون اوحزب سياسي ، بات تحزباً “طبيعياً” إلى القوى الحربية العاملة في اليمن بناء على الوجود الهوياتي العمودي، لا على الخيار الفردي والإرادة الواعية بذاتها.
الانهيار المدني ليس انهياراً للعمران والمدنية والبنى التحتية فحسب، وليس انهياراً للمؤسسات المدنية التي لم تكن مدنيتها منفصلة عن السياسة بأي حال فحسب، بل هو انهيار كامل للمجتمع المدني بوصفه مجتمعاً وسيطاً بين المجتمع الأهلي وبناه القبائليه المنفلته والمجتمع السياسي وبناه التنظيمية والحزبية.
إذن كيف للرئيس الغليمي ان يبعث الضوء ؟ وكيف “يربي الأمل”؟ لقد ايقن انه لا أمل ممكناً خارج إرادة الشعب اليمني ذاته، فنتصب على ركيزتين: الأولى. كافح وناضل ومازال يكافح ويناضل من اجل [إيقاف هرولة تلازم الانهيار. السياسي والمدني والاقتصادي حتى تمكن من ايقافه في حدود معينه]
الركزيه الثانيه ، يتعامل مع الإرهاب والتطرف ؛ السلالي والديني والمناطقي انه قد وصل إلى حدوده القصوى، فلا “إسلام التوتر العالي ” قابل للاستمرار والحياة والاستقرار، ولا التطرف المليشاوي المناطقي والحزبي و االسلالي الحوثي التصفوي والعدميه قادرا على البقاء في ظل الاستنزاف الهائل لطاقات حاضنتها الموالية اختياراً أو إجباراً، لذا فإن الخيار الشمشوني بتصفية الآخر لم يعد ممكناً، والخيار الاضطراري بين قاتلين بات ممتنعاً محلياً واقليميا وحتى دولياً.
تلك الأسباب بمجملها دفعت اليمنيين إلى قدِّ الأمل من اليأس الكامل، واكتشاف الطريق من الشراكة في الجحيم الذي بات يحرق بناره جميع اليمنيين الأحياء اليوم، فربما أصاب الرئيس العليمي جزءاً من الحقيقة في احد خطاباته.. عندما قال : إنه “من اليأس المطلق تخرج الوطنيه المطلقة”