عادل الأحمدي
يوم الأحد ال7 من أبريل 2024، الموافق 28 من رمضان 1445 تحل الذكرى الثانية لتشكيل مجلس القيادة الرئاسي، وهي مناسبة تستحق تقييماً جاداً بلا تحامل ولا محاباة. وتأتي المناسبة متزامنة مع ذكرى تحرير عدن، ورأس السنة الحميرية وليلة القدر.
وفي البداية نقول لشعبنا اليمني خواتم مباركة ونبارك لرئيس وأعضاء المجلس مرور عامين صمدت خلالهما إرادة المضي وفشلت كل مراهنات التفكك والخلاف. ونحن إذ نضع بين أيديهم هذه البرقيات فلا يعني ذلك أننا أكثر فهماً ولا أكثر حرصاً ولا أوسع إلماماُ منهم، ولكنها رؤية حريصة من داخل أوساط الشعب، وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
لقد كنت أحد شهود ولادة هذا المكون القيادي قبل عامين في عاصمة القرار العربي كعضو في مشاورات الرياض، وفور الإعلان عن تشكيل المجلس استضافتني قناة “العربية الحدث” للتعليق على الإعلان ساعة ونصف تقريباً، وكتبت بعدها مقالاً مقتضباً بعنوان “مجلس القيادة اليمني.. أعمدة أوام الثمانية”. يومها أشفق علي البعض ونصحوني بعدم الاستعجال بالتفاؤل؛ إذ ربما تحترق سطور مقالي بعد شهور قليلة عندما يحترب أعضاء المجلس الذين وصفهم البعض بأنهم شركاء متشاكسون. والحمدلله أنني بعد مرور عامين مازلت بنفس القناعة، والحمد لله أنهم صمدوا في وجه العواصف العاتية.
لقد كان الوضع قبل تشكيل مجلس القيادة الرئاسي وصل تقريباً إلى طريق مسدود على كافة المستويات، وكان التمزق والتآكل سيد الموقف بعد أن استنفدت القيادة السابقة كل ما لديها، (ولا نقلل من جهود تلك القيادة). ليأتي تشكيل المجلس حلاً عبقرياً عمل على تجديد الشرعية وتوسيع مظلتها ورص صفوفها. وتواكب ذلك الإعلان مع هدنةٍ أحدثت مفعولها بنجاح رغم الخروقات المتكررة.
بعد عامين، نستطيع القول إن هناك تقدماً بسيطاً هنا وتعثراً بسيطاً هناك، لكن الأكيد هو أن وتيرة الأخطاء الفادحة توقفت؛ وبالتالي نحن ننظر إلى تماسك المجلس كإنجاز يستحق الاحتفاء، ولعل هذا التماسك يعود لعوامل عدة من بينها مرونة رئيس وأعضاء المجلس وكذلك ضخامة التحديات الماثلة أمامهم، بالإضافة إلى جهود التقريب التي يبذلها الأشقاء في الملفات محل الخلاف وتحديداً جهود الأمير خالد بن سلمان التي يقوم بها بين الحين والآخر بتوجيهات من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
قبل أكثر من عام كان ثمة خلافات ونستطيع اليوم الزعم إنه لم يعد ثمة ما يمكن وصفه خلافات، بل تباينات واردة في وجهات النظر. ليس ثمة تمترس ولا تربص ولا حملات مضادة. مع بطء في إنجاز بعض النجاحات جراء اشتراط التوافق التام، وكذلك هبوب المستجدات المتسارعة، بالإضافة إلى شحة حادة في الإمكانيات، لكن رغم كل ذلك فإن شخصية الرئيس الدكتور رشاد محمد العليمي كانت صمام الأمان ومحور الاستمرار، وإلى جانبه بقية أعضاء المجلس؛ اللواء عيدروس الزبيدي بجسارته وصراحته، والعميد طارق صالح بعقلتيه الإدارية التنموية والعسكرية المرتبة وخطابه الموزون، واللواء سلطان العرادة بشهامته وطيبته ومواقفه الحازمة، واللواء عثمان مجلي بذكائه الحاد ووعيه السبتمبري أباً عن جد، والدكتور عبدالله العليمي بخبرته الإدارية وأخلاقه العالية وذهنه المتوقد، واللواء أبو زرعة المحرمي بحنكته وشجاعته وهدوئه. واللواء فرج البحسني بحكمته ونشاطه وحرصه على نكران الذات.
ثمانيتُهم كلٌّ متكاملٌ من القدرات والسجايا والمهارات، تجعل منهم قوة يكمّل بعضها بعضاً، وقد وضعتهم الأقدار في قمة المسؤولية بمرحلة بالغة الخطورة والتعقيد وظرف شديد الحساسية، في مواجهة عصابة شديدة المكر عريقة الحقد. ومن المهم أن يبقى التوافق أولوية والأهم أن يبقى رئيس الدولة رمز القيادة.
ثمانية من قادة اليمن برئاسة الدكتور رشاد بن محمد العليمي مدعومين من شعب صابر وجوار نبيل ومسنودين باعتراف دولي واسع. وبمناسبة مرور عامين نشد على أيديهم ونجدد لهم الولاء ونقول لهم إن مرحلة تثبيت التوافق وتفويت المؤامرات مضت بنجاح وتم خلالها إيقاف التدهور، لتبدأ اليوم مرحلة الانجازات التي يهفو إليها شعبكم الكريم.
تحرير عدن ومطار المخا
تأتي هذه المناسبة فيما رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي في عدن، بالتزامن مع الذكرى التاسعة لتحرير عدن وتطهيرها من مليشيات الحوثي. تحية لعدن والخلود لشهدائها وكل شهداء اليمن، وينبغي أن تكون هذه المناسبة سبباً في مضاعفة الاهتمام بعدن وإكرامها بجملة من المشاريع التي تستحقها كعاصمة مؤقتة يتمنى كل يمني أن تصبح اليوم أفضل من كل مناطق اليمن. وكما قلت لرئيس الوزراء أحمد عوض بن مبارك مطلع رمضان خلال لقائه بالأدباء، هناك مدينة إذا أكرمتها فكأنك أكرمت وطناً بأكمله.. وفي اليمن فإن هذه المدينة هي عدن.
تزدان عدن بذكرى بطولتها الملحمية بجملة من المشاريع بدعم سعودي وإماراتي بالتزامن مع إنجاز كبير ونوعي تشهده مدينة المخا بإشراف من العميد طارق صالح عضو مجلس القيادة رئيس المكتب السياسي للمقاومة الوطنية، وهو افتتاح مطارها الدولي ودخوله في الخدمة. فألف شكر للأشقاء في الإمارات ولأبناء زايد أحفاد مكاربة سبأ، والعرفان الكبير موصول للبرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، وكذلك الدعم الكويتي السخي. وإن كان ثمة من دلالة في هذا الجانب فهي أن العالم كله مستعد للإسهام في إعادة بناء اليمن حينما يجد الوعاء المناسب والوضع المستقر.
في المقابل تشهد المناطق الخاضعة بالقوة لسيطرة مليشيات الحوثي انحساراً وانكساراً في كل المجالات وما تزال أنات شهداء التفجير الإرهابي الحوثي في رداع تتردد في أرجاء السماء. ويأتي الشهر الكريم ليرفع الغطاء عن كثير من آلام الشعب الصابر، حيث عشرات الآلاف من الأسر المستورة تحولت إلى مستحقي صدقات والأرصفة تمتلئ بطوابير الأمهات الباحثات عن صدقة، وجوانح الليل تمتلئ بآهات الآباء الذين لا يستطيعون توفير كسوة لأبنائهم.
كل الطرق تؤدي إلى صنعاء
نحتفل بمرور الذكرى الثانية على تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في ظل حديث متصاعد عن خارطة طريق يتم التحضير لها بحيث تغدو مدخلاً لحل سياسي يرعاه الأشقاء الذين وقفوا إلى جانب اليمن منذ سيطرت مليشيات الحوثي على صنعاء، وهذا الموضوع يثير لغطاً وتساؤلات وإن بصوت منخفض، بسبب الخوف الوجيه من أن يؤدي أي اتفاق إلى تثبيت الحوثي أو إعطائه بعض المشروعية.
وفي تقديري أنه ينبغي التفريق بين المستجد السياسي والمتطلب الاستراتيجي، وبالتالي ينبغي النظر إلى تلك الخارطة كمستجد سياسي ننظر إليه كأحد تنويعات المعركة وكلنا يقين أن الحوثية جماعة عنفية يتصادم تكوينها العقدي والنفسي مع السلام. إذ أن معتقداتها تحرّم عليها التوافق تماماً مثلما أن جرائمها تحرِمها التوفيق. وبالتالي فإن مصير أية خطوات أو خرائط لا تحقق الحل الحقيقي والنهائي فإن مصيرها التعثر. وبالنسبة لي كباحث مختص بدراسة هذه الجماعة منذ الأسبوع الأول لتمردها في صعدة صيف 2004؛ فلا أرى أي قلق من أية خارطة طالما الوعي في تنامٍ، ويقيني أن الحوثية أخذت بأسباب السقوط وأن “كل الطرق تؤدي إلى صنعاء” سلماً أو حرباً.
هناك من يتساءل عن مغزى حرص الأشقاء على تمرير الخارطة، والحقيقة أننا مثلما نثق بقيادتنا نثق أيضاً بالتحالف وأنهم يدركون مثلنا خطورة هذا المشروع، ولكن يبدو أن مستجدات طرأت ارتأوا خلالها تغيير شكل المعركة بعد أن تبدى لهم أن الحوثي بات بمثابة قفاز تستخدمه بعض القوى لإلحاق الضرر بمصالح حيوية في المملكة. وليس صحيحاً أن دفع الرياض للخارطة دليل على الشعور بالتعب أو الملل، فالمملكة حققت خلال سنوات الحرب أعلى قفزة سياسية وتنموية واقتصادية ودبلوماسية. علاوة على أن هناك استحقاقات لازمة من أجل استكمال الانتقالة في المملكة تجاه مئوية سعودية جديدة يعمل محمد بن سلمان على إرساء مداميكها بكل دأب. والواقع يقول إن السعودية لها تجارب طويلة مع الازمات اليمنية ومن يعتقد أنهم يبحثون عن الهروب من أزمة اليمن واهم؛ فالمسالة قصية أمن قوي لبلد كبير يقود محور العرب، في مرحلة غاية التعقيد والحساسية.
وأياً كانت المبررات والتفسيرات والتحضيرات، فالمهم أننا عرفنا طريقنا وخارطتنا في اليمن وأنه لا سلام إلا بإزالة مسببات الحرب والحوثي السلالي هو المسبب الوحيد، بمعنى أن الخارطة الناجعة تقضي بنزع الشوكة من يد الحوثي. والقيادة والشعب ماضون في ذلك، وهناك بمشيئة الله عمل ميداني يتبلور وسيعبر عن نفسه بشكل يعزز الدولة ويحقق النصر.
ويقيننا أن أية خطوة تعمل على تخفيف معاناة المواطنين سواء في صرف المرتبات أو فتح الطرقات، فإنها لن تكون في صالح الحوثي أبداً، إذ يعتاش الحوثي على تعميق معاناة الناس وفرض القيود على حركتهم. لكنه اليوم في وضع لا يستطيع فيه رفض الخارطة ولا الالتزام بها، وبالتالي لن نحرق أعصابنا على شيء معلوم النتائج، إذ أن الحوثي أخذ بأسباب السقوط وسقوطه حتمية نراها كفلق الصبح، وكل الذي يهمنا حاليا هو تقريب المسافة ليوم النصر الكبير. ولقد رأينا كيف ان كل العنتريات التي أحدثها الحوثي على هامش جراح غزة، كانت بالونة تفرقعت بدبوس جريمة في رداع وتبخرت بآلام الجوعى في الشهر الكريم.
والآن، لقد أصبح العالم يعرف أية بلوى ابتلي بها هذا البلد الجميل، وفشل الحوثي في تقديم نفسه كبلطجي مأجور يمارس القرصنة لمحاولة الاعتياش على صراع الأقطاب.
وعلى كل حال، لقد بذل الأشقاء الكثير ولم يقصروا وهم مشكورون وسيظلون السند والظهر، واللائق بهم في هذه المناسبة (مرور عامين على تشكيل المجلس الرئاسي) رفد المجلس بمنحة سخية تعزز من قدرته على حل الإشكالات، وإن كان ولابد من خارطة فليتم قبلها تقوية الدولة بالمال والسلاح لتعزيز دفاعاتها وتمكينها من تقديم الخدمات ومواجهة غوائل الحوثي. ولا أكاد أبالغ إن قلت إن هذا المجلس لو حصل على ذات الدعم الذي توفر في السنوات التي سبقت تشكيله لكان أقدر على تحقيق النصر، وقد رأينا كيف أن الحوثي طيلة العامين الماضيين لم يجرؤ على تفجير مواجهة شاملة مع قوة لم يختبر بأسها بعد، وكل خروقاته كانت أشبه بجس نبض.
الخارطة مستجد سياسي قابل للنقاش والمهم هو مواصلة العمل الاستراتيجي إذ ينبغي دعم التحصين الفكري مثلما ينبغي التحصين الأمني والعسكري. ومن الواجب في هذا السياق مباركة الجهود التي يقوم بها حراك الأقيال لتعرية المشروع الكهنوتي. علما أن الأقيال ليسوا تنظيماً ولا منظمة، بل ثقافة وطنية حضارية سبتمبرية تنتشر كالنار في الهشيم وتعيد تأهيل الشخصية اليمنية بما يبعث مفاخرها وانتماءها العربي والإسلامي ويفند خرافات الدجل ويعزز فيها مشاعر الرفض للوثنية والكهانة.
وفي السياق تتزامن الذكرى الثانية لتشكيل مجلس القيادة الرئاسي مع احتفاء الأقيال ببداية السنة الحميرية الجديدة التي تعد ميقاتاً لبدء هطول الأمطار، ودلالة إحياء هذه المناسبة تكمن في الإعلاء من ثقافة العمل والإنتاج، تلك الثقافة التي صنع بها اليمني حضارته الأولى وجاءت الإمامة لتحارب هذه الثقافة محاولةً تحويل اليمني الى عكفي بليد لا يؤمن بغير الخرافة.
لا يقتصر اهتمام حراك الأقيال على فترة الحضارات القديمة بل يتلمس كل مناطق ومحطات ورموز القوة من قحطان بن هود إلى أسعد الكامل إلى سعد بن معاذ والغافقي والهمداني ونشوان الحميري وسعيد بن ياسين وصولا إلى المحلوي والقردعي والسلال والزبيري والنعمان والشدادي وأحمد سيف اليافعي وشعلان وخالد الدعيس. ثمة انبعاثة فتية ينبغي اسنادها وتسديد خطاها.
مع ليلة القدر
تذكرنا ليلة القدر بالارتباط الوثيق بذي القدرة قيوم السموات والأرض الذي عليه نتوكل وإليه ننيب.. ونرفض كل وثنية تتوشح بالدين وتكذب على الله ورسوله. ومع لفظ “القدر” يأتي الحديث عن العزيمة والإرادة والتوكل. إذ نحن نخوض معركة إرادة ينتصر فيها من صبر، ولسوف يكون قريباً ذلك اليوم الذي فيه نحتقل بسقوط هذا المشروع. وكلنا أمل أن يكون هؤلاء الثمانية يومها في منصة السبعين بصنعاء، ذلك أن الحوثية كما أسلفنا أخذت بأسباب السقوط ولسوف تسقط بذات السهولة التي وصلت بها إلى النهدين. وهذا ليس كلام الحالم بل هو نتيجة تأمل طويل في دورات العبث الكهنوتي المتكرر على شعبنا، حيث يبدع المشروع السلالي في الوصول إلى الحكم ولكنه يفشل في إدارته. وها نحن نرى كيف ان تضييقهم للخناق وصل الى اسر هاشمية عريقة مهدت لهم الطريق.
والحقيقة كما يقول جراح الأورام السرطانية د. عادل مانع أننا لا نعادي ارباب المشروع بسبب شعورهم بالتمير بل لانحطاطهم وشعورهم بالدونية والضعة والتقزم تجاه الشخصية اليمنية، وما ممارساتهم العنصرية الا دليل دامغ على ذلك الشعور الحاد بالنقص.. لهذا نجدهم يحرقون ويدمرون وينهبن ويقتلون بدم بارد.
إن الدارس المتأمل للحوثية بوصفها مخلفات الإمامة يدرك انها لا تستطيع إنقاذ نفسها بتقديم شيء للناس، ذلك أنها ليست مشروعاً منبثقاً من تربة هذا الشعب، بل تبدو وكأنها مشروع حاقد عليه. والمؤكد أنه أياً كانت حجم الفرص التي أضاعتها الشرعية، فإنها لا تقاس أبداً بحجم الفرص التي اضاعها الحوثي.
في ليلة القدر، نسأله تعالى أن يرفع الغمة عن شعبنا ويسدد خطى قادتنا وأن يلطف بأهلنا في فلسطين. والحديث عن فلسطين يقودنا إلى ملاحظة مهمة وهي أن التحدي الذي تجابهه بلادنا ينبغي أن نأخذه على محمل الجد، إذ أن ثمة أوطاناً تسرق وشعوباً يراد أن تُمحى بجرة قلم كما حدث في فلسطين. وعليه فإن أكبر عون نقدمه لفلسطين هو أن نستعيد صنعاء ممن يزايد بجراح فلسطين ويعبث بالأهمية الجيوسياسية لليمن بشكل مقصود عن طريق البلطجة والقرصنة في مياهنا الإقليمية بدعوى نصرة أهلنا في غزة!
خلل في الثقافة السياسية
نقاط عديدة تتبادر للذهن في هذه المناسبة قمت باختصار الكثير منها تجنباً للاطالة ولكن هناك نقطة أحسب أنها توافق مقام المقام وهي أن ثمة خللاً في ثقافتنا السياسية، وأن عاصمتنا لم تسقط امام عيون كل القوى الوطنية على قبيل الصدفة، بل بفعل عاملين: كيد سلالي مخطط ومدروس ومتواصل منذ سقوطهم في الـ26 من سبتمبر 1962، وأخطاء يمنية متوارثة وخصوصاً في ثقافتنا السياسية.
مطلوب أن نعالج الخلل في ثقافتنا السياسية التي أوصلتنا هذا الموصل. لقد أسهم عدونا في جعلنا نتعرف عليه جيداً، وعرفنا حجم المجهود الذي قام به لكي يعزلنا عن ذاكرتنا، ورأينا ما الذي يبذله اليوم لبعثرة مكتسباتنا وطمس هويتنا. لقد عرفنا عدونا ويتبقى أن نعرف نقاط ضعفنا وأن نعالجها بشجاعة، وأبرز نقاط ضعفنا ثقافة سياسية تعمل على إضعاف فكرة الدولة. وأزعم أنني تنبهت إلى ذلك منذ العام 2008، ودفعني ذلك لإصدار كتاب “الخيوط المنسية” الذي يقيم 30 عاماً من حكم علي عبدالله صالح بأسلوب بناء ومنصف.
أجزم أن أغلبنا لم يدرك حجم الخلل في ثقافتنا السياسية إلا عندما بعثرتنا الدروب في مطارات وموانئ الدول المستقرة ورأينا كيف يعيش الناس وكيف تستقر الدول.
إن تسديد خطى القيادة والوقوف إلى جانبها مطلب محوري لتجاوز اللحظة الصفرية. مطلوب أن نسدد خطى القيادة بلا رياء ولا تزلف.
ومطلوب من كل متطلع للزعامة أن يجعل سلم صعوده مبنياً على رصيد الإنجاز والإسهام في إنجاح القيادة الحالية، وليس على المكائد والتفشيل.
ذات يوم في ندوة بصنعاء سمعت من الكاتب السعودي خالد الدخيل أن الحرية بحاجة إلى تأهيل للمجتمع، وفعلاً لقد وجدت في المملكة قيادة تقوم بواجبها تجاه المجتمع ومجتمعاً يقوم بواجبه تجاه القيادة، والمقصود هنا أنه أياً كانت عبقرية القيادة بدون وعي المجتمع بواجباته، فإن الناتج سيكون ضعيفاً.
معركتنا مع الإمامة هي معركة تدور في الأساس حول فكرة الدولة والمواطنة، وعلينا كيمنيين، سيما في هذا الظرف، أن نعمل على تعزيز فكرة الدولة وتقوية موقع القيادة.
وعطفا على ما سبق، بمستطاع أيٍّ أن يستعرض عضلاته في صفحات التواصل ويشتم أعلى القيادات ولن يناله أذى، بل إن البعض سيقول عنه إنه بطل وشجاع، لكن الصواب أن ليس في ذلك أي شجاعة ولا بطولة، فما أسهل القدح وما أصعب البناء. ولعل جزءاً من ثقافتنا السياسية الخاطئة يكمن في استخدامنا الخاطئ للغة.. لغة التناصح ولغة الاختلاف ولغة الاتفاق. في حين أن الاستخدام الدقيق للغة وخصوصا أثناء مناقشة الشأن العام، هو مقياس رقي أية أمة. ولقد كنا كيمنيين سباقين لمثل هذا الرقي ولنا أن نتأمل الحوار الراقي بين ملكة سبأ وكبار معاونيها حينما جاءها خطاب كريم مكتوب فيه إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم.
كان رأي كبار معاونيها الحرب (نحن أولو قوة وأولو بأس شديد)، قدموا مقترحهم بأسلوب غاية في الرقي، وكان رد الملكة أن مقترحهم مرفوض ولكنها رفضته بأسلوب غاية في الاحترام (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)..
خمسة ملفات
أسلفنا أن مرحلة تثبيت التوافق بين رئيس وأعضاء المجلس الرئاسي تمت بنجاح، وينبغي الآن إحراز تقدم في ملفات ذات أولوية.. وفي تقديرنا أن تعزيز القدرات الدفاعية على رأس هذه الملفات وكذا تقوية الأجهزة الأمنية ولقد كان من أهم نقاط ضعفنا في السنوات التي أعقبت سقوط صنعاء وجود جيش متحمس غير مسنود بعمل أمني دقيق. ولعل من الأهمية بمكان أن يكون هناك غرفة عملية مشتركة لكل تشكيلات الأمن والجيش، كمسألة لا تقبل التأجيل.
الاقتصاد يأتي في المرتبة ذاتها من حيث الأهمية، لأن شحة الإمكانيات باتت تسبب الكثير من العوائق، وبالتالي فإن ضبط الإيرادات وتحسين وعاء المساعدات وضبط النفقات أمر غاية في الأهمية.
الملف الثالث هو التعليم، إذ يتوجب تحديث المناهج الدراسية بحيث تستوعب جميع المستجدات الجديدة في مواجهة التجريف الذي يقوم به الحوثي.
الملف الرابع هو ملف الخارجية الذي ينبغي الآن أن يسير بوتيرة أسرع لحشد العالم مع قضيتنا العادلة بعد أن صار جليا للشرق والغرب حجم البلوى التي بلي بها اليمن. ولقد صارت هذه المهمة أقرب للتحقق على الوجه الأمثل بعد تعيين دبلوماسي وطني محنك وعريق على رأس الخارجية وهو الدكتور شائع الزنداني.
أما الملف الخامس، فيتعلق بالسلطة المحلية، إذ أن ثمة محافظات تستحق بذل اهتمام مضاعف في هذه المرحلة كمحافظة إب، (بالإضافة إلى عدن كما أسلفنا). ومحافظات أخرى تحتاج إلى تقوية ودعم سلطاتها المحلية كما هو حال محافظة الجوف. بالإضافة إلى إعطاء تعز اهتماماً خاصاً بوصفها منجم الكوادر ومصنع التحولات، وكذلك محافظة البيضاء بتركيبتها الجمهورية الخالصة وموقعها الحيوي بين عدة محافظات.
إلى ذلك ينبغي عدم إغفال التدمير الممنهج الذي يمارسه الحوثي في مناطق الطوق إذ ينبغي أن تعطى قبائل الطوق أهمية كبيرة حتى لا تكون لقمة سائغة يعسكرها الحوثي كيفما أراد، الأمر نفسه ينسحب على القبائل أينما كانت، بحيث يجب ألا تُهمش فيستغلها الحوثي.
يقترف الحوثي الكثير من الأخطاء، لكن علينا ألا نعول فقط على أخطائه، صحيح أن أقنعته تتقشر وشعاراته تتساقط وقبضته ترتخي، ولكن علينا أن نبذل جهداً يجعلنا نستحق اختصار المسافة إلى يوم الاحتفال الكبير.
خواتم مباركة وكل عام واليمن بألف خير.