بقلم : عبدالملك المخلافي
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1975 قرارها رقم 3379 الذي نصّ على أنّ “الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”. القرار الأممي طالب “جميع دول العالم مقاومة الأيدولوجية الصهيونية التي تُشكّل خطرًا على الأمن والسلم العالميين”، كان ذلك في ذروة الانتصار العربي في مواجهة المشروع الصهيوني وتوحّد الموقف العربي في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وقطع النفط العربي عن الدول الغربية الداعمة للعدوان، الذي لفت أنظار العالم للقضية الفلسطينية وقضية الصراع العربي الصهيوني.
كان يمكن لهذا القرار إن جرت متابعته ومتابعة مفاعيله أن يصل إلى أن يصبح الحلّ الديمقراطي وتفكيك الكيان العنصري الصهيوني هو الحلّ الصحيح للمشكلة الفلسطينية، كما حدث في جنوب أفريقيا بدلًا من الحلّ الذي يُكرّس العنصرية والذي عُرف بـ”حلّ الدولتين”، خاصة أنّ القرار استند إلى إعلان المكسيك عام 1975 الذي نصّ على أنّ “التعاون والسلم الدولیین یتطلبان تحقیق التحرّر والاستقلال القومیین، وإزالة الاستعمار والاستعمار الجدید، والاحتلال الأجنبي، والصهیونیة، والفصل العنصري والتمییز العنصري بجمیع أشكاله، وكذلك الاعتراف بكرامة الشعوب وحقها في تقریر مصیرها”.
واعتمد على ما صدر من دورة رؤساء دول وحكومات منظمة الوحدة الأفریقیة في أغسطس/آب 1975 والذي رأى أنّ “النظام العنصري الحاكم في فلسطین المحتلة والنظامین العنصریین الحاكمین في زیمبابوي وجنوب أفریقیا ترجع إلى أصل استعماري مشترك، وتُشكّل كیانًا كلیًا، ولها هیكل عنصري واحد وترتبط ارتباطًا عضویًا في سیاستها الرامیة إلى إهدار كرامة الإنسان وحرمته”.
وكذلك الإعلان السیاسي واستراتیجیة تدعیم السلم والأمن الدولیین وتدعیم التضامن والمساعدة المتبادلة فیما بین دول عدم الانحیاز اللذین تم اعتمادهما في مؤتمر وزراء خارجیة دول عدم الانحیاز في أغسطس/آب 1975 واللذین أدانا الصهیونیة بوصفها “تهديدًا للسلم والأمن العالمیین” وطلبا مقاومة هذه الأیدیولوجیة العنصریة الإمبریالیة.
إسرائيل أدركت خطورة هذا القرار وآثاره المستقبلية وربطه بين الصهيونية وبين إسرائيل ككيان صهيوني وتبيّن هذا في خطاب السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة أمام الجمعية العامة الذي حاول فيه أن ينفي عنصرية الكيان وتقديمه على أنه يعطي حقوقًا للعرب، مفتخرًا بأنّ هذه الحقوق المزعومة “صهيونية وليست عنصرية”.
ولهذا عملت تل أبيب جاهدة على إلغاء هذا القرار، حتى تمكنت من ذلك بموجب القرار 46/86 الصادر بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 1991 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث جاء قرار الإلغاء في سطر واحد ونصّ على الآتي: “تُقرّر الجمعية العامة نبذ الحكم الوارد في قرارها رقم 3379”.
وكان إلغاء القرار شرطًا من شروط إسرائيل من أجل أن تشارك في مؤتمر “مدريد”، وإدراكًا لخطورة القرار عاقبت الحركة الصهيونية وطاردت الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور كورت فالدهايم الذي صدر القرار في عهد ولايته الأممية لمحاولة منع ترشّحه للرئاسة في بلاده – النمسا – ثم تعرّضه للمقاطعة من الولايات المتحدة الأمريكية ومن الغرب أثناء رئاسته لبلده (1986- 1992) بحجة أنه عمل في الجيش الألماني “النازي” أثناء الحرب العالمية الثانية وأسهم في ترحيل “اليهود” رغم نفيه لذلك ورغم أنّ لجنة مؤرّخين دولية برّأته من ذلك عام 1988.
كانت إسرائيل تدرك خطورة ربطها بالعنصرية ومقارنتها بالنظام العنصري في جنوب أفريقيا، إذ ستستدعي هذه المقارنة الحل ذاته وهو تفكيك النظام العنصري بدلًا من تكريس الحل العنصري ولو تحت مسمى “حلّ الدولتين” الذي إن تحقق سيحشر الفلسطينيين في كانتونات ومعازل تحت السيطرة الصهيونية بمسمى دولة!.
وفي الوقت الذي كان مسار إسرائيل في التعامل مع القرار 3379 مدركًا لما يقود إليه، فإنّ المسار الرسمي العربي والفلسطيني كان عكس ذلك تمامًا، والمفارقة أنّ عام صدور هذا القرار 1975 هو العام ذاته الذي تم فيه إقرار البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي قاد لمسار وهم “حلّ الدولتين” والذهاب إلى مدريد الذي كان شرط مشاركة إسرائيل فيه إلغاء القرار 3379 والذي جاء إلغاؤه في ذروة الانقسام العربي بعد غزو العراق للكويت عام 1990 وفي وقت انهار فيه النظام الدولي ثنائي القطبية مع انهيار الاتحاد السوفيتي، واللافت أنّ دولًا عربية لم تصوّت ضد إلغاء قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية وامتنعت عن التصويت أبرزها مصر.
ومع ذهاب النظام الرسمي العربي إلى مسار الضعف والأوهام، ذهب الكيان الصهيوني نحو مسار تكريس كيانه كدولة عنصرية ذات طابع ديني، إذ جرى التصويت باعتبارها دولة يهودية وليس دولة مواطنة وهو ما كان يعني تكريس العنصرية في مواجهة فلسطينيي الداخل رغم حملهم للجنسية الإسرائيلية.
في الممارسات من قبل النظام الصهيوني كان يتم استدعاء ممارسات النظام العنصري في جنوب أفريقيا، ولكن إلى جانب ذلك بالنسبة لكل الجماعات الحقوقية والناشطين وجماعات الفكر المناهضين للصهيونية كان يتم استدعاء جذور النظامين العنصريين في جنوب أفريقيا سابقًا وفي فلسطين المحتلة لتأكيد التماثل، ورغم التعقيدات التي تضفيها السردية الصهيونية من خلال إعطاء بُعد ديني مصطنع للاحتلال والاستيطان والاستعمار الصهيوني في فلسطين، فإنّ الأساس في النظامين العنصريين أنّ كليهما حركة استيطان استعمارية أوروبية في الغالب، متعددة الأعراق كرّست العنصرية والفصل العنصري ضد السكان الأصليين للبلاد.
بدأ الاستيطان الأوروبي في جنوب أفريقيا من خلال الهولنديين والألمان والفرنسيين في القرن السابع عشر واستجلبت الحركة الصهيونية “اليهود” من أوروبا خاصة وجميع أنحاء العالم، وأسهمت بريطانيا التي احتلت جنوب أفريقيا في القرن التاسع في زرع العنصرية فيها من خلال مجموعة من القوانين من بداية احتلالها بتنظيم حركة السود أصحاب الأرض إلى المناطق التي يقطنها البيض والتي يحكمها البريطانيون إلا بتصريح مرور ومنع التواجد مساءً في شوارع المدن في هذه المناطق، بل ومنعهم من التحرّك من منطقة إلى أخرى وليس فقط إلى مناطق البيض، وهي التي زرعت بذور الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي بدأ عام 1948، كما أنّ بريطانيا نفسها هي التي منحت اليهود أرض فلسطين بـ”وعد بلفور” للحركة الصهيونية وكرّست الاستيطان فترة انتدابها الاستعماري على فلسطين والتمييز ضد العرب الفلسطينيين قبل أن تتواطأ مع الصهاينة لمنحهم دولتهم الصهيونية العنصرية في العام نفسه 1948 الذي بدأ فيه نظام “الأبارتايد” في جنوب أفريقيا، ليتكرّس نظام الفصل العنصري في فلسطين التاريخية كلّها بعد استكمال احتلال فلسطين عام 1967.
تأكدت الممارسة العنصرية للكيان الصهيوني تلك التي تُماثل نظام “الأبارتايد” المنحل في جنوب أفريقيا على مدى عقود، وهو ما تضمّنته تقارير المنظمات الحقوقية والدولية، ويمكن بهذا الصدد الاستناد إلى التقرير الهام والمطوّل لمنظمة العفو الدولية والذي جاء تحت عنوان نظام “الفصل العنصري (أبارتايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين” والصادر في 1/2/2022.
التقرير أشار إلى أنّ هناك تحقيقًا جديدًا لمنظمة العفو الدولية يُظهر أنّ “إسرائيل تفرض نظامًا من القمع والهيمنة ضد الفلسطينيين في جميع المناطق الخاضعة لسيطرتها في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك ضد اللاجئين الفلسطينيين، من أجل مصلحة اليهود الإسرائيليين. ويرقى هذا النظام إلى مستوى الفصل العنصري، الذي يحظره القانون الدولي”.
ويقول التقرير: “كان من شأن القوانين والسياسات والممارسات التي تهدف إلى إدامة نظام قاسٍ من السيطرة على الفلسطينيين أن تشتتهم جغرافيًا وسياسيًا، وتتركهم يعانون من الفقر في كثير من الأحيان، بالإضافة لجعلهم يعيشون في حالة دائمة من الخوف والقلق وانعدام الشعور بالأمان”.
ويؤكد التقرير أنّ معاناة وتهجير اللاجئين الفلسطينيين حقيقة مستمرة، و”يحق للفلسطينيين الذين فروا أو طُردوا من ديارهم في ما يُعرف الآن بإسرائيل وأبنائهم وأحفادهم العودة وفقًا القانون الدولي. ومع ذلك، ليس لديهم أي أمل في السماح لهم بالعودة إلى منازلهم – التي هدمت إسرائيل الكثير منها – أو القرى والمدن التي أتوا منها.. إسرائيل لم تعترف أبدًا بحقوقهم”.
ويشدد التقرير على أنّ حرمان الفلسطينيين من منازلهم هو أمر في صميم نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، لافتًا إلى أنّ نزع ملكيات الفلسطينيين لم يتوقف، و”أصبحت النكبة رمزًا للاضطهاد الذي يواجهه الفلسطينيون كل يوم منذ عقود. واليوم، لا يزال أكثر من 5.6 ملايين فلسطيني لاجئين وممنوعين من حقهم في العودة. هناك ما لا يقل عن 150 ألفًا آخرين معرّضين لخطر حقيقي بفقدان منازلهم من خلال ممارسة إسرائيل الوحشية في هدم المنازل أو الإخلاء القسري”.
كل هذا التاريخ والمقارنات والممارسات العنصرية الصهيونية دفع المنظمات الحقوقية والحكومية إلى السعي لإعادة قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية وإن كان هذه المرّة بعيدًا عن الأمم المتحدة، واللافت أنّ جنوب أفريقيا هي التي جرت فيها محاولة إعادة التوصيف للصهيونية كأحد أشكال العنصرية من خلال مؤتمر “دربن” ضد العنصرية المنعقد في جنوب أفريقيا عام 2000 من خلال المنظمات غير الحكومية التي اتفقت بما يُشبه الإجماع من خلال ما يقارب 5000 منظمة على هذا القرار، قبل أن يتم الضغط الرسمي لعدم اعتماده من خلال الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وعدد من الدول الغربية، وبإسناد من دول عربية ومن النظام الرسمي العربي ممثلًا بالجامعة العربية تحت ذريعة أنّ ذلك يُعطّل “حلّ الدولتين”، ولعل هذا الموقف للمؤتمر هو الذي جعل عددًا من الدول الغربية تقاطع مؤتمر “دربن” التالي عام 2006 باعتباره معاديًا للسامية.
ومع الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية في إلغاء القرار الأممي 3379 وتعطيل أي قرارات من مؤتمرات أخرى كما حدث في “دربن”، فإنّ ما أنتجته معركة “طوفان الأقصى” من انكشاف صورة الكيان الصهيوني على مستوى الرأي العام العالمي تقتضي من الدول والشعوب العمل على إعادة قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية، أكان من خلال المؤتمرات والمنظمات غير الحكومية أو من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن تتوحّد جهود الجميع من أجل ذلك بما في ذلك من يرون أنّ “حلّ الدولتين” هو حلّ واقعي، إذ عليهم العمل على استصدار مثل هذا القرار، فهو أيضًا طريق لقيام دولة فلسطينية حقيقية وليست سجونًا منعزلة تحت الهيمنة الصهيونية، كما أنه السبيل الوحيد لحلّ عادل لمشكلة اللاجئين، ناهيك عن كونه طريقًا لتفكيك النظام العنصري، كما جاء في تقرير منظمة العفو الدولية.
(خاص “عروبة 22”)