فهمي محمد
إن سؤال: كيف اختفى الجيش والأمن مع انقلاب الـ21 من سبتمبر 2014م، وسلم بزته وسلاحه العسكري لجماعة استولت على السلطة من خارج تشكيلاته القتالية؟ سيظل محل بحوثات معمقة، لاسيما وأن هذه الجماعة هي من قاتلت الجيش في سبع حروب سابقة!
وإذا ما وضعنا الإجابة التفصيلية عن كيف ولماذا بين قوسين للحديث عنها في بحث معمق، فإن قصة الاختفاء والتسليم في 2014م، بقدر ما تؤكد من جهة أولى بأن اليمن مع فكرة التغيير تحتاج إلى جيش
وطني يتأسس على ثقافة العقيدة القتالية الوطنية، ومن جهة ثانية تؤكد أن الجيش والأمن منذ انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وما تلاه من تصفيات ممنهجة سياسياً لقيادة الجيش في أحداث اغسطس 1968م، كل ذلك مكن العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن من بناء الجيش والأمن على أساس الجهوية السياسية ومركزيتها الاجتماعية، مع تقليص مساحة الانتماء الوجداني الولائي للقيادة المركزية للجيش والأمن من وقت لآخر، داخل فضاء الجهوية السياسية، التي ظلت تشكّل ثقافة انتماء، وولولاءات عصبوية، ونفوذ سياسي فاعل، وحتى إطار عام يحدد ملامح وهوية الجيش والأمن خلال العقود الماضية.
على هذا الأساس نجد قيادة الجيش والأمن، منذ انقلاب نوفمبر وأحداث أغسطس، كانت قيادة جهوية من داخل فضاء الجيوسياسية الزيدية بالمفهوم الجهوي، ثم نجدها مع تولي الرئيس صالح تركزت ولائياً في القبيلة السياسية (حاشد) مع الحفاظ على فاعلية الجهوية السياسية وحتى الاجتماعية المؤطرة لملامح وهوية الجيش والأمن حتى عام 1990م.
صحيح أن الوحدة اليمنية قد وفرت فرصة سانحة لإحداث تغييرات جذرية في المركزية السياسية والاجتماعية للجيش والأمن، إلا أن انقلاب وحرب صيف 1994م، وما تلا ذلك من تصفية وتسريح للقيادات العسكرية ولوحدات الجيش والأمن الجنوبي، قد أدى إلى تضخم “أنآ” الجهوية السياسية داخل قيادات ووحدة وبنية الجيش، الذي أصبح يحكم اليمن الموحّد بعقلية وثقافة المنتصر في الحرب تجاه المهزوم فيها،
وهي عقلية تغلب وتسلط تجاوزت حدود الانتصار على الحزب الاشتراكي اليمني، وتعاملت بثقافة التغلب والتسلط على جنوب اليمن كمكون إنساني، يجب أن يظل على الدوام حاضرا في السلطة السياسية، وشريكا في دولة الوحدة اليمنية، بغض النظر عن خروج الاشتراكي كحزب سياسي من الشراكة في السلطة الحاكمة، التي كانت معنية في الأساس ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية في يمن الوحدة، وهو ما كان يعني أن يتحول شمال اليمن وجنوبه مع هذه الأخيرة إلى وطن لجميع اليمنيين، وليس إلى طرفي معادلة سياسية وعسكرية نقيضة، جسدت موضوعيا ثقافة الشخصية العسكرية المنتصرة في الحرب «مرتبطة بالشمال» على حساب الشخصية العسكرية المهزومة المرتبطة بالجنوب.
ومع تجسيد هذه الشخصية العسكرية المنتصرة في حرب 1994م تضخم “أنآ” الجهوية السياسية، ومركزيتها الاجتماعية داخل الجيش والأمن بشكل أكبر منذ قبل، على حساب مستقبل المكون الإنساني في الشمال والجنوب، لأن الذي حدث في حقيقة الأمر ليس انتصار الشماليين على الجنوبيين، ولا انتصار للمؤتمر والإصلاح
كأحزاب سياسية حاكمة على حساب الحزب الاشتراكي اليمني، بقدر ما هو انتصار للسلطة السياسية وفكرتها التسلطية التي كانت حاكمة في الشمال (مشروع العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن)، والتي ظلت منذ ما بعد انقلاب 5 نوفمبر وأحداث أغسطس متكئة على الجهوية السياسية للجيش والأمن في شمال اليمن.
والدليل على ذلك يكمن، من جهة أولى، في حقيقة أن سلطة صنعاء المنتصرة في حرب 94، بناءً على فكرتها السياسية، تعاملت مع الجنوب كطرف مهزوم، وتعاملت مع الوحدة اليمنية ومرجعياتها السياسية كطرف مهزوم، ومع العقل السياسي الحزبي كطرف مهزوم،
ومن جهةثانية يكمن في حقيقة أن اليمن لم تذهب مع السلطة المنتصرة نحو تحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية، التي تمكن المكونات السياسية اليمنية من التداول السلمي للسلطة، بل ذهبت نحو توريث السلطة انسجاماً مع فكرتها، مشروع العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن، الذي يكرس بحد ذاته الجهوية السياسية للجيش والسلطة على حد سواء، ما يعني في النتيجة النهائية أن السلطة المنتصرة في حرب 94 تعاملت مع حزب المؤتمر والإصلاح كحلفا سياسيين لمشروعها القادم بعد الحرب، وليس شركاء فاعلين ومقررين في توجهها، الأمر الذي استدعى لأجله خلق ولاءات جديد في قيادة الجيش والأمن على حساب القبيلة السياسية، وحضورها في قيادة الجيش والأمن.
ومع ترسخ فكرة توريث السلطة الحاكمة في نجل الرئيس صالح، بدأ هذا الأخير في استخدام سلطته وصلاحياته ونفوذه كرئيس للجمهورية، وقائد عام للقوات المسلحة، في تقليص مساحة الانتماء والولاء على مستوى القيادة المركزية للجيش والأمن، حيث تم تعيين نجله وأفراد من عائلته في قيادة الجيش والأمن.
ومع أن الجهوية السياسية للجيش لم تكن تسمح لصالح بتحقيق القيادة المركزية للجيش في عائلته عن طريق تغيير كل القيادات العسكرية المحسوبة على القبيلة
السياسية، لاسيما تلك القيادات التي كان لها الفضل في دعم وتكريس سلطة الرئيس صالح، فإن هذا الأخير قد لجأ إلى تحقيق طموحه العائلي عن طريق تأسيس تشكيلات عسكرية وألوية عديدة، تحت مظلة الحرس الجمهوري والأمن المركزي، وتشكيلات عسكرية أخرى، بحيث تحول الحرس والأمن تدريجياً، من بعد حرب عام 94، إلى قوات عسكرية ضاربة بفضل جودة التدريب والسلاح النوعي، والكادر البشري، خصوصاً وقد أصبحت هذه القوات معنية بتحقيق انتقال آمن للسلطة السياسية من الأب إلى الابن.
غير أن هذا التوجه العائلي، في ظل اعتراض القيادات العسكرية للقبيلةالسياسية «الضباط الكبار الذين تزاملوا مع صالح»، أدى إلى خلق ثنائية في التركيبة العسكرية للجيش وقيادته على أساس الولاء الشخصي داخل إطار الجهوية السياسية للجيش، بحيث أصبحت الفرقة الأولى مدرع وألويتها العسكرية تحت قيادة رجل القبيلة السياسية الأول داخل الجيش اليمني {علي محسن الأحمر}، في حين أصبحت ألوية الحرس الجمهوري والأمن المركزي، وتشكيلات عسكرية أخرى تم إنشاؤها تحت قيادة صالح وعائلته.
الأمر الذي يعني أن هذا الانقسام العسكري، الذي نشأ بدوافع سياسية تتعلق بسؤال السيطرة المستقبلية على مفاصل السلطة الحاكمة في اليمن، ={بين القبيلة والعائلة} قد خلق تحالفات سياسية داخل بنية السلطة السياسية وداخل المجال السياسي العام، انعكس أثرها على فكرة الدولة بشكل سلبي وليس إيجابي.
ففي الوقت الذي بدأ فيه حزب المؤتمر الشعبي العام يشكل غطاء سياسيا لتوجه صالح وعائلته بشكل يكرس دوره كحزب سياسي في خدمة السلطة الحاكمة، على حساب سلطته السياسية كحزب حاكم يجب أن يكرس فكرة الدولة، وجد حزب التجمع اليمني للإصلاح نفسه في المقابل متحالفا مع القبيلة السياسية، وفي نفس الوقت يوفر غطاء سياسيا لتوجه ضباط القبيلة السياسية بقيادة علي محسن، لاسيما مع انتماء شيخ القبيلة السياسية وعدد من ضباطها الكبار للحزب.
مع الفارق أن هذا الدور الذي لعبه الإصلاح لم يكن على حساب مستقبله كحزب ساسي يسعى للسيطرة على السلطة، مقارنة بالمؤتمر الشعبي العام، بل كان في سبيل تكريس وجوده ونفوذه داخل أجهزة السلطة الحاكمة حتى بعد أن انتقل رسميا إلى صفوف أحزاب المعارضة.
ومع هذا وذاك، ظلت الجهوية السياسية المركزية حالة وجدانية تلعب دوراً في احتواء هذا الانقسام العسكري، وتضبط إيقاعه وأبعاده السياسية والاجتماعية بين القبيلة السياسية من جهة أولى والعائلة الحاكمة من جهة ثانية، طالما وأن هذا الانقسام العسكري لم ولن يكن على حسابها، أي على حساب الجهوية السياسية كهوية للسلطة ومركزبتها السياسية والعسكرية.
ناهيك عن أن وجود شخصية ذي تجربة سياسية وثقل اجتماعي على رأس القبيلة السياسية الجهوية، وعلى رأس الحزب السياسي المتحالف معها، وحتى على رأس مجلس النواب = {بحجم الشيخ عبد الله الأحمر}، كانت قادرة من موقعها وتجربتها التاريخية على أن تجعل الرئيس صالح معنيا برغم طموحاته العائلية بمسألة الالتزام بمعادلة “شيخ الرئيس ورئيس الشيخ ومخرجاتها”، الأمر الذي كان يعزز حضور الجهوية كهوية مكثفة للسلطة الحاكمة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية بشكل أساسي، وهو ما كان يعزز دائما من فرص انتصارات السلطة ومركزيتها المهيمنة على حساب فكرة الدولة الوطنية
الديمقراطية، برغم النضالات السياسية المتواصلة والانتخابات الديمقراطية التي كانت تجري بين السلطة والمعارضة.
لهذا كان التغيير الثوري في عام 2011 هو البديل التاريخي الذي لا مناص منه والمعني بقلب المعادلة السياسية، أي من أجل انتصار فكرة الدولة الوطنية على مركزية السلطة التاريخية الجهوية في اليمن.
وإذا كان الجيش الوطني هو مدماك الدولة الوطنية الديمقراطية، فإن مخرجات الحوار الوطني -من هذا المنطلق- عملت على هيكلة الجيش والأمن، وإعادة تركيباته على أسس وطنية في ظل دولة اتحادية ديمقراطية، الأمر الذي كان يعني إلغاء الجهوية السياسية ومركزيتها المهيمنة داخل مؤسسة الجيش والأمن، وقد بدأ هذا التوجه يجري على مستوى القيادة المركزية في ظل سلطة الرئيس عبدربه منصور هادي.
حيث تم إزاحة ضباط القبيلة السياسية والعائلة الحاكمة من قيادة الفرقة الأولى مدرع والحرس الجمهوري، والأمن المركزي والقوات الجوية.
غير أن مسألة تفكيك الجهوية السياسية ومركزيتها التاريخية اللاوطنية كحالة بنيوية وعقيده قتالية، وحتى هوية انتماء فاعلة داخل مؤسسات الجيش والأمن، كانت محتاجة كثيرا من الوقت والجهود المبذولة على المستوى الكمي والنوعي من أجل تغيير ثقافة الولاء والانتماء الفردي والجمعي داخل مكونات ومفاصل وتشكيلات وضباط الجيش والأمن، لاسيما فيما يتعلق بخلق ثقافة الولاء الوطني لفكرة الدولة الوطنية التي يجب أن تحكم في اليمن.
غير أن انقلاب الـ21 من سبتمبر، وثورته المضادة التي تحركت من داخل الجيوسياسية الجهوية، بدوافع الاستحقاق التاريخي في تولي مقاليد السلطة، لم يسمح بحدوث عملية التغيير الكمي والنوعي في وقت كانت فيه الجهود الوطنية تبذل في سبيل إتمام هيكلية الجيش والأمن على أسس وطنية.
وإذا كانت هيكلية الجيش والأمن هي مسألة وطنية مؤسسية مرتبطة جذرياً بفكرة الدولة الوطنية الديمقراطية الاتحادية بناءً على الأبعاد السياسية والاجتماعية لمخرجات الحوار الوطني، التي تعد أهم المكتسبات الوطنية لثورة 11 فبراير، فإن تنفيذها عمليا في واقع الحال كان يعني إلغاء عصبية الجهوية السياسية، وتركتها التاريخية داخل البنية والقيادة العسكرية للجيش والأمن هذا من جهة أولى.
ومن جهة ثانية إذا كان انقلاب الـ21 من سبتمبر 2014 قد شكّل عملية استباقية في طريق عملية الهيكلة، التي كانت ستنتصر حتماً لفكرة الدولة، فإن الجهوية السياسية، التي لم يتسنَّ تفكيكها بفعل تدخل الانقلاب، كانت هي اليد الخفية وراء تسليم سلاح الجيش والأمن لمليشيات مسلحة تحولت إلى سلطة حاكمة في صنعاء.
وإن كانت هذه المليشيات المسلحة قد أتت إلى السلطة من خارج تشكيلات الجيش والأمن، بشكل يجعل الجميع أمام سؤال كيف ولماذا اختفى وسلم الجيش والأمن، إلا أنها ={وهذا مربط الفرس} قد أتت من قلب الجيوسياسية الجهوية المنتجة للعقل السياسي التاريخي الذ كان وراء تأسس الجيش والأمن على شاكلاته اللاوطنية بحيث يظل في خدمة السلطة، ناهيك عن كونها -أي الجيوسياسية الجهوية- معنية منذ عقود بخوض معركة الانتصارات اللاوطنية على الدولة وحضورها كفرة سياسية وقانونية فوق السلطة.
لهذا سيطرت مليشيات الحركة الحوثية على السلطة في صنعاء بدون مقاومة عسكرية من قبل جيش وطني وقيادة عسكرية تمثل هذا الجيش على المستوى الوطني، لأن هذا الأخير لم يكن موجودا في الأساس على المستوى الكمي والنوعي داخل بنية وتركيبة القوات المسلحة اليمنية، حتى يعول عليه في مسألة القيام بهذا الدور المقاوم ، ولكي يظل غير موجود في المستقبل يحرص الحاكمون بعقلية السلطة الممانعة للدولة على إسقاط مخرجات الحوار الوطني الشامل من المرجعيات السياسية التي يجب أن تشكل إطار سياسي لأي سلام أو تسويات قادمة في اليمن.