عبدالملك المخلافي
تمنّى إسحاق رابين عام 1992 أن “ينام ويستيقظ وقد غرقت غزّة في البحر”، كان هذا ما نقله الكاتب الصحفي ﻣﺤﻤد حسنين هيكل عن الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، ثم جرى تداول “حلم رابين” من مصادر متعدّدة، فقد عبّر عن حلمه هذا في اجتماع لمجلس الوزراء الصهيوني، كان ذلك في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي كانت غزّة موطنها الأول، وبعد أن استخدم العدو كل أنواع القتل والقمع والتنكيل لإخمادها.
وفي حقيقة الأمر، فما حدث لم يكن مجرد رغبة أو إرادة فلسطينية في المقاومة، فهذه الرغبة والإرادة لم تتوقف منذ وعد بلفور والانتداب البريطاني وفيما بعد منذ قيام الكيان الصهيوني، ما حدث كان أكبر من ذلك، كان تعبيرًا عن معادلة جديدة في الصراع هي المعادلة الديمغرافية والإرادة المستقلة لفلسطينيي الداخل في الأراضي المحتلة عام 1967.
قام الكيان الصهيوني تحت كذبة كبرى روّج لها الصهاينة والغرب، تقول إنّ أرض فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض هو “الشعب اليهودي”، وتولّت سياسة القتل والقمع والإبادة والتهجير القسري – التي تمّت في غفلة من الزمن وبعيدًا عن تأثير الصورة والإعلام وتدفّق الأخبار- تحويل هذه الكذبة إلى حقيقة عندما تمّ إحلال مهاجرين يهود من أصقاع الأرض محل الشعب العربي الفلسطيني الذي جرى تهجيره إلى أماكن اللجوء.
إضافةً لذلك، فقد غادر الفلسطيني أرضه مسنودًا بثقة في الجيوش والأنظمة العربية أنها عن قريب ستعيد اللاجئين إلى ديارهم، كان بعض هؤلاء اللاجئين قد توجّهوا إلى غزّة والضفة الغربية التي كانت على التوالي تحت الحكم المصري والأردني، وفي أعقاب نكسة حزيران/يونيو أصبحت ما تُعرف بالأراضي الفلسطينية عام 67 تحت الاحتلال “الإسرائيلي” بموجب القانون الدولي والتزام الدول الغربية، التي سهّلت قيام “إسرائيل” على أراضي 1948 في فلسطين، مقاومة الاحتلال التي اتّخذت بعد 67 طابعًا أكثر تنظيمًا وزخمًا، والتي اعتبرها عبد الناصر “أنبل ظاهرة بعد النكسة”، واتّخذت من دول اللجوء العربية (الأردن، لبنان، سوريا) مركزًا لها، وقامت بالعديد من العمليات خارج فلسطين أو عبر تسلّل من الحدود، وبقيت إسرائيل في مأمن إلا من بعض العمليات البطولية رغم حجم الاستبسال والتضحيات الفلسطينية.
وقد أدى عمل المقاومة الفلسطينية من أراضي دول عربية مجاورة إلى صدامات مع أنظمة هذه الدول مما هو معروف ولا مجال لذكره، وصولًا إلى إخراج هذه المقاومة أو الوجود المسلّح الفلسطيني بصورة شبه نهائية في آخر عمليات هذه التصفية في أعقاب حرب يونيو/تموز 1982 والغزو الصهيوني للبنان التي اعتقد العدو الإسرائيلي بعدها أنه قد صفّى الكفاح الفلسطيني وأصبح في مأمن بعد أن تمّ تشريد قوات ووجود المقاومة إلى تونس واليمن وأماكن أخرى بعيدة عن حدود العدو، قبل أن تنتقل المقاومة إلى داخل الأراضي المحتلة بقيام الانتفاضة الأولى عام 1988 التي جعلت “رابين” وهو من القادة الصهاينة الكبار يتمنّى غرق غزّة في البحر.
في استشراف للمستقبل ولصورة المقاومة الفلسطينية كحركة تحرّر وطني من داخل الأراضي المحتلة، قال جمال عبد الناصر لياسر عرفات وقادة المقاومة الفلسطينية، “أعطوني طلقة واحدة كل يوم داخل الأراضي المحتلة واتركوا الباقي عليّ”.
احتاج هذا العمل إلى سنوات طويلة قبل نقل المقاومة للداخل كما أسلفنا، ولكن عبد الناصر كان قد رحل عن دنيانا وجرى الانقلاب على نظامه ونهجه، ورغم أنّ الجيشين المصري والسوري حققا، مدعومَين بإسناد عربي عسكري وسياسي ونفطي، انتصار أكتوبر/تشرين الأول 1973 على إسرائيل، إلا أنّ ما جرى بعد هذا الانتصار مثّل انحرافًا عن خط المواجهة مع العدو الإسرائيلي، بل وعُقدت اتفاقات صلح وسلام وتطبيع معه، بل وتخلّي عن القضية الفلسطينية من قبل الأنظمة العربية الواحد تلو الآخر والنظام الرسمي العربي الذي أصبح التزامه بها شكليًا فقط، وهو ما جعل الشعار الفلسطيني اليائس (يا وحدنا) يبدو شبه واقعي رغم بقاء القضية الفلسطينية هي قضية الشعوب العربية الأولى والمركزية.
كانت الانتفاضة الأولى، والعامل الديمغرافي والاستبسال الفلسطيني الذي أفشل العنف الصهيوني، وما تلاها، تمثّل ضغطًا واضحًا على الكيان الصهيوني للبحث عن حل، وعلى مدى ثلاثة عقود حتى الآن، تكرّست صورة الكيان الصهيوني حتى في ذهن الشعوب الغربية، صاحبه كذبه “أرض بلا شعب” و”الواحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، تكرست بصورة بدأت تؤرق الضمير الغربي.
إسرائيل في أراضي 1948 دولة عنصرية، فهي تحرم مواطنيها العرب الفلسطيين الذين أصبح عددهم يقترب من ربع السكان من كثير من الحقوق وتولي المناصب، وتُكرّس نفسها يومًا وراء آخر كدولة “يهودية” عنصرية، وليست دولة مواطنة ديمقراطية، وهي في أراضي 1967 دولة احتلال تُمارس القمع والعنف والإبادة كلّ يوم، بل وكل ساعة، وتعقبها بحروب كاملة كعدوانها المستمر على غزّة، أو مجزّأة في مخالفة وقحة للقانون الدولي والمعايير “الغربية” لحقوق الإنسان. وهي نظام فصل عنصري “أبارتايد” في فلسطين التاريخية بشقّيها 48-67 والذين يتساوى فيها عدد السكان الفلسطينيين بعدد اليهود رغم كل سياسة جلب المهاجرين.
كل السنوات والسياسات التي اتّبعتها إسرائيل للتخلّص من عبء الديمغرافيا الفلسطينية وتطوّر الصراع، والتي لم يكن من ضمنها الموافقة على دولة فلسطينية مستقلّة والانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلّة إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967، ورغم “أوسلو” التي أوجدت سلطة فلسطينية “وظيفية”، فشلت وأوصلت على العكس من المتوقع إلى معركة “طوفان الأقصى” بكلّ دلالاته على العدوّ منذ قيام الكيان، المعركة التي كشفت عن فشل كل سياسات الاحتواء بالقمع والحصار، والاحتواء بتجاهل القضية الفلسطينية وتجاوزها إلى التطبيع، وفشل نموذج “شارون”، “نتنياهو” وقبلهما نموذج “رابين”، “بيريز”.
ومع غياب الفوارق المدّعاة بين اليمين واليسار، وفشل “أوسلو” و”الشرق الأوسط الجديد”، بدا أنّ تطور الصراع بما في ذلك العامل الديموجرافي، يتطلّب الانتقال إلى التهجير الفلسطيني مجددًا الذي قام عليه الكيان الصهيوني ابتداءً، وكان التنفيذ بالعدوان علّى غزّة الذي استدعى استخراج خطة قديمة يماثل تمامًا تحقيق أمنية رابين في غرق غزّة في البحر، وكان تنفيذ هذه الخطة يقتضي غطاءً شاملًا غير مسبوق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الأساسية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، ورخصة مفتوحة بالقتل والإبادة والحصار الشامل ومنع الغذاء والدواء لسكّان غزّة، وتهجير قسري من خلال الضغط على الدول العربية وفي مقدّمتها مصر، وأصبحت إسرائيل أمام تهديد وجودي، يمكن أن يؤدّي إلى زوالها، يقتضي التهجير، وتهديد وجودي إن فشلت في التهجير.
فما هي خطة التهجير وما هو المآل؟ نكمل في الجزء الثاني من المقال.
(خاص “عروبة 22”)