فهمي محمد
في بداية السبعينيات نشر الكاتب والصحفي المخضرم محمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام المصرية مقال بعنوان « كيسنجر وأنا مجموعة أوراق » الأمر الذي أدى يومها إلى خلاف بين كاتب المقال والرئيس أنور السادات الذي اعتقد في نفسه أن المقال المنشور يعطل خططاً سياسية تتعلق بالإعداد لحرب أكتوبر 1973م ، لا سيما وأن الرئيس قبل نشر هذا المقال كان قد طلب من هيكل المشاركة في إعداد هذه “الخطط السياسية” لكن هذا الأخير اعتذر .
وعلى خلاف المعهود تم إبلاغ هيكل – أن مقالاته من الآن فصاعدا لابد أن تخضع للرقابة – ولكن هيل الكاتب الذي يحترم قلمه امتنع عن الكاتبة تماما تحت مبرر – أنه لا يستطيع أن يكتب وهو يشعر أن مسئولا في الدولة مهما كان قدره يمكن أن يمد قلما أحمر إلى ما يكتبه و يحذف منه على هواه – ومع امتناع هيكل عن الكتابة نظم رحلة مقابلات صحفية إلى آسيا مصطحبا معه مجموعة من الصحفيين ، حيث كان من ضمن جدول هذه الرحلة مقابلة مع الزعيم شواين لاي رئيس وزراء الصين ، الذي قال في لقائه مع هيكل – عندما قامت دولة إسرائيل لم تكن الثورة في الصين قد انتصرت ولو كان ممثل حكومة الثورة الصينية مندوب في الأمم المتحدة لما اعترفت الصين بدولة إسرائيل ، وعقب بالقول أن الأمم المتحدة ليست لها حسنات كثيرة وقيام إسرائيل أكبر سيئاتها.
لكن الأكثر مدعاة للإعجاب والوقوف على فلسفة الفكر السياسي الحر عند شواين لاي نجدها في مقولته الشهيرة في هذا اللقاء الثنائي الذي لم يكن خالياً من مركزية الحديث عن نكبة الشعب الفلسطيني وحق كفاحه في سبيل الحرية والاستقلال ضد الصهاينة المحتلين ، حيث قال { إن إسرائيل دولة لم تصنعها أحكام الطبيعة ولكنها دولة صنعتها حماقة الإنسان } بالطبع كان الزعيم الصيني الذي خبر الساسة الغربيين وكًيل سياستهم الدولية بمكيالين ، يقصد في كلامه حماقة السياسيين الغربيين بدرجة أساسية.
مثل هذا التوصيف المكثف ={ إسرائيل دولة صنعتها حماقة الإنسان } كان ولا يزال حتى اليوم أصدق وأدق تعبير سياسي و جغرافي وإنساني وحتى قانوني يقال في توصيف الكارثة الإنسانية ، التي ترافق أجيال الشعب الفلسطيني ، بسبب قيام وبقاء دولة الكيان الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين العربية ، لهذا ظل هذا التوصيف عالق في ذاكرتي منذ عشر سنوات مضت على زمن قراتي لكتاب « أحاديث في آسيا » الذي جُمعت فيه مقابلات هيكل الصحفية مع الزعماء الاسيويين في سبعينيات القرن الماضي.
تداعيات حماقة الإنسان في “صنع” دولة إسرائيل لا تصيب الإنسان الفلسطيني فقط بل تصيب قيم ومبادئ وأخلاقيات وكفاح الإنسانية العالمية في مقتل ، خصوصاً وأن تلك القيم والمبادئ وحق الشعوب في الحرية والاستقلال قد تحولت إلى نصوص أممية ملزمة تحت مسمى القانون الدولي الإنساني ، الذي يتم التفريط به كل يوم منذ 1948 ( بمنطق الحماقة الغربية ) من أجل سيادة الكيان الصهيوني على أرض مقدسة تقول أحكام التاريخ ومعالم الجغرافيا فيها ، أن السيادة والسلطة هي للعربي الفلسطيني دون سواه ، وأن القادمين إليها من الصهاينة المحتلين ما يزالون حتى اليوم يحملون جنسية دول الحماقة الغربية التي صنعت إسرائيل على حساب شعب « يتم تهجيره » منذ ثمانية عقود بعد أن وجد نفسه منذ فجر التاريخ سيدا على أرضه في فلسطين.
ما نفهمه من كلام الزعيم الصيني المتعلق بشرعية قيام جميع الدول في العالم ={ أن كل الدول تصنعها أحكام الطبيعية} أي أن الإنسان قد وجد نفسه على أرض يملكها جيل بعد جيل ، ثم نشأت علاقة سياسية واقتصادية وحتى ثقافة انتماء وهوية بين الأرض والإنسان ، أدت بمجملها في سياقات تاريخية وسياسية واجتماعية إلى قيام دولة.
وهذه الدولة بقدر ما تعكس مسألة الوجود السياسي للمكون الإنساني والجغرافي في الزمان والمكان ، بقدر ما تعبر بمنطق الشرائع السماوية والوضعية أن الشعب أو المكون الإنساني في هذه الدولة أو تلك ( كما هو حال الفلسطينيين ) هو الذي يملك تاريخياً تراب الجغرافيا ، كما أن الجغرافيا في هذه الدولة ستظل دائما تعكس بصمات سيدها الحقيقي ، بل تقاسيم وجه الإنسان الذي توارث ترابها وفلاحتها كما يتوارث الجينات من جيل إلى آخر.
على سبيل المثال شجرة الزيتون على أرض فلسطين قادرة على سرد قصتها التاريخية « وربما الأزلية » مع العربي الفلسطيني الذي زرعها وعصر زيتها منذ قرون ، وفي المقابل تحكي لنا قصة اقتلاعها وطمس هويتها ومعالم جغرافيتها العربية والفلسطينية من قبل الصهاينة المحتلين القادمين من خارج سياق التاريخ العربي ومن خارج تراب وفضاء الجغرافيا الفلسطينية.
نعم صهاينة غرباء وقتلة محتلون في نفس الوقت، ولكنهم لا يمكلون شيئاً شرعياً يربطهم بأرض وشعب فلسطين سوى حماقة السياسيين الغربيين وسيئات الأمم المتحدة على حد وصف زعيم الصين شواين لاي الثائر اليساري قبل خمسين سنة ، خصوصاً ونحن بعد رحيله نشاهد حماقة الدول الغربية وسيئات الأمم المتحدة تتجلى اليوم ليس في قيام دولة غاصبة لم تصنعها أحكام الطبيعة العربية فقط ، بل في جرائم هذه الدولة التي نشاهدها في أجساد الأطفال والنساء والشيوخ في قطاع غزة على وجه الخصوص وفي حق شعب فلسطين المحتلة على وجه العموم منذ نكبة 1948م.
إذا ما وقفنا على دلالة هذا التوصيف الصيني بخصوص قيام دولة إسرائيل ، بل ووسعنا دائرة الرؤية السياسية والتاريخية من خلال هذا التوصيف ، فإننا بدون شك لن نستغرب من وقوف كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة الى جانب دولة الكيان الصهيوني وهي تقدم على ممارسة أبشع صور القتل والاحتلال في حق الشعب الفلسطيني ، بل لن نستغرب كيف يستطيع الرئيس الأمريكي بايدن أن يلقي خطابا يقول فيه متفخارا أن الولايات المتحدة الأمريكية اعترفت بدولة إسرائيل بعد 13 ساعة من قيامها وملتزمه دائما بحمايتها وتفوقها العسكري في المنطقة، ومع ذلك يشاهد في نفس الوقت جرائمها في قصف المدنيين والمستشفيات والبيوت والاستيطان والتهجير وانتهاك حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
بمعنى آخر لو وسعنا دائرة الرؤية بالمنظار الصيني نكون قادرين على القول – كل الدول صنعتها أحكام الطبيعة إلا دولة أمريكا وإسرائيل صنعتهما حماقة الإنسان – وهي حماقة بكل ما تعني هذه الكلمات من معنى إنساني وسياسي واجتماعي وثقافي وجغرافي وتاريخي.
فالولايات المتحدة الأمريكية قامت في الأساس على حماقة الأمريكيين القادمين من أوروبا الذين احتلوا أرض الهنود الحمر في أمريكا ، و بايدن وكل رؤساء الإدارات الأمريكية السابقين هم في الأساس قادمون غرباء وقتلة محتلون لأرض الهنود الحمر ، بل أكثر من ذلك أن دولة الولايات المتحدة الأمريكية لم تتأسس على جرائم التهجير فقط ، بل على جرائم الإبادة الجماعية لمالك الأرض وسيدها منذ فجر التاريخ ، وإلا ماذا يعني أنه من أصل خمسين مليون من الهنود الحمر تم قتل ثمانية وأربعين مليون تحت المقولة البراغماتية الساذجة التي تقول أن قتل الهندي ارخص بكثير من ترويضه، وعلى هذا الأساس كانت جرائم الإبادة الجماعية لهذا المكون الإنساني عمل مشروع من أجل قيام دولة أمريكا وسيادة القادمين البيض على أرض تم اغتصابها بقوة السلاح هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية فإن الصهاينة المحتلين لو أقدموا على قتل كامل الشعب الفلسطيني المقدر عددهم بثمانية مليون تقريباً لن يتغير الموقف الأمريكي والبريطاني ولن يكون ذلك جرائم اباده جماعية في نظرهم، لأن الأمريكيين والبريطانيين من خلفهم هم من قتلوا ثمانية وأربعين مليون من أجل قيام دولة الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع ذلك كان الهندي صاحب الأرض وسيدها المقاوم في وجه الغزاة قبل ظهور مصطلح الإرهاب يوصف بكونه إنسان غير مروض ، ولكي يسقط هذه التهمة عن نفسه كان عليه أن يقبل باحتلال أرضه من قبل القادمين الغرباء من غرب أوروبا ، وعلى نفس المنوال يوصف اليوم كفاح المقاوم الفلسطيني بالإرهاب ولكي يسقط المقاوم الفلسطيني هذه التهمة عن نفسه عليه أن يقبل بالاحتلال الصهيوني الذي منحته الولايات المتحدة الأمريكية الحق في قتل النساء والأطفال وكل شي يتحرك في فلسطين ، بل أكثر من ذلك تهجير الشعب الفلسطيني بتهمة الإرهاب من أجل أن يتحول القادمون الغرباء إلى دولة حاكمة على أرض فلسطين كما تحول القادمون من غرب أوروبا إلى دولة حاكمة على أرض الهنود الحمر الذين تم استئصالهم بجرائم الإبادة الجماعية.
على هذا الأساس تجد دولة أمريكا في اسرائيل صورتها الصغرى التي يجب الحفاظ على وجودها خارج فضائها الأمريكي ، وفي نفس الوقت تجد دولة إسرائيل في امريكا صورتها الكبرى التي ستظل مصدر إلهام وقوه لها في المنطقة العربية، في حين ستظل حماقة الإنسان الغربي وسيئات الأمم المتحدة هما القاسم المشترك بين دولتين لم تتأسس على أحكام الطبيعة بل على جرائم حقوق الإنسان وعلى انتهاك أحكام القانون الدولي الإنساني.