تتنوع رسائل الكتب وأهدافها، غير أن هناك من الكتب ما يتميز بخدمة قضايا الشعوب في مرحلة فاصلة في تاريخها، ويكون لها دور محوري في المواجهة والانتصار لحقوق المجتمعات المقهورة والمظلومة، وهذا النوع من الكتب تُخلد ويخلد كتّابها. ومع تأثير ومكانة هذه الكتب في لحظتها، فإن أهميتها تزداد عند انتصار القضية وعند الحصاد النهائي للمواجهة وأدواتها وأبطالها.
وبالنسبة للشعب اليمني الذي خاض مواجهات عديدة مع الإمامة والعنصرية التي لوثت تاريخه، واستبدت بإنسانه، وحطمت حضارته، وأعاقت مستقبله، فقد خلد سفر التاريخ اليمني العديد من الكتب التي واجهت الإمامة، وكشفت جرائمها، وبيّنت بشاعة أفكارها. وفي الموجة ما قبل الأخيرة من المواجهة مع الفكر الإمامي العنصري المتستر بالدين، وهي الموجة التي بدأت في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي أشعلت جذوة النضال الوطني والشعبي، وأدت الى انتفاضات وثورات عديدة، أبرزها حركة 1948، وحركة 1955، وثورة 26 سبتمبر 1962 المجيدة الخالدة، برزت كتب خُلدت وخُلد أصحابها وكانت سفرًا من أسفار نضالهم في سبيل إنقاذ وانعتاق شعبهم، مثل كتب وكتابات الزبيري، والنعمان الأب والابن، والقاضي الإرياني، والأستاذ قاسم غالب أحمد، وغيرهم العشرات.
وفي هذه المرحلة، وفي مواجهة الإمامة الجديدة، التي عبرت عنها ما يطلق عليها «الحوثية»، سيخلد تاريخ شعبنا العديد من الكتب والكتاب الذين كانت كتبهم جزءًا من حركة نضالهم ونضال الشعب اليمني في مواجهة الإمامة بطبعتها الحوثية. ومن هذه الكتب ـ لاشك – سيكون الكتاب الذي بين أيدينا الذي أعدُّه في مقدمة الكتب التي تخدم قضية المواجهة الإنسانية ضد العنصرية، بل إن هذا الكتاب بمثابة سلاح ثقيل نوعي في قضية المواجهة، ويزيد من أهميته أن الكاتب همدان العليي هو أحد أبرز المهمومين والمشتغلين في هذه المواجهة، وليس مجرد كاتب معزول عن خوض ٌغمار الاشتباك مع الحركة الحوثية العنصرية الإرهابية.
عرفت الكاتب في هذا الميدان فارسًا مشغولًا بالهم اليومي في ميدان الاشتباك الفكري والثقافي مع العنصرية، من خلال جهده الدؤوب في مجال حقوق الإنسان، ونشاطه دون كلل في وسائل الإعلام المختلفة، ومع ما يمثله الانشغال في هذين المجالين من جهد ووقت، ولم أكن أتصور أن لديه الوقت والجهد الكافي لينتج مثل هذا النتاج الكبير في الكتاب الذي بين أيدينا، والذي سيلقي بثقله في ميدان المواجهة الممتدة مع العنصرية التي تمارسها الإمامة الحوثية اليوم، والذي -في اعتقادي- سيسجل باعتباره واحدًا من أهم الكتب التي أنتجتها هذه المرحلة، أو هذه الجولة من المواجهة المتجددة، بين الشعب اليمني والعنصرية التي تسببت تاريخيًا بعدم الاستقرار في اليمن.
ولطالما اعتبرت الكاتب همدان العليي من خلال متابعتي نشاطه الإعلامي والحقوقي، وإعجابي بإخلاصه لقضية وحقوق الشعب اليمني، أحد أبرز الذين سيخلدهم تاريخ شعبنا عند انتهاء هذه المرحلة السوداء من تاريخنا، وهزيمة الإمامة وانتصار إرادة الشعب.
ولقد اخبرته بيني وبينه مرات عديدة بذلك معجبًا بموقف في محطة ما، ومشجعًا، غير أني أعتقد بأنه حان الوقت لقول هذا علنًا، وأجد تقديم هذا الكتاب فرصة لأن أفعل ذلك، ولأن أسجله للقارئ، ولأبناء شعبنا، ليس فقط دعمًا وتشجيعًا للكاتب همدان العليي، ولكن مناديًا ومشجعًا لكل الذين يعملون في هذا الميدان، أو الذين سيبرزون مستقبلاً في معركة طويلة يجب ألا تتوقف، حتى ولو تم القضاء على هذه الطبعة الأسوأ من الإمامة العنصرية، المتمثلة بالحركة الحوثية.
لقد استهان شعبنا ومفكروه بعد الانتصار المجيد في 26 سبتمبر 1962 على الإمامة الأولى، وترك الأمر للسلطات الحاكمة لتقوم بدورها في تدوين التاريخ ومواجهة الإمامة، تحت ظن -خاطئ- أن المعركة مع هذا الكيان العنصري قد انتهت، وأن انتصار 26 سبتمبر حاسم ونهائي، ومن المؤسف أن هذه السلطات في معظمها حولت المواجهة إما للتوظيف السياسي لما يخدمها، أو إلى ذكرى احتفالية رسمية، وبضعة أسطر في المناهج، بهتت وتراجعت مع الزمن، ما سمح بعودة الإمامة مجددًا بعد خمسة عقود، لتطل بقرونها الشيطانية، ولترتكب أبشع الجرائم في حق شعبنا.
أوضح الكتاب، بإتقان وجهد مقدّر، جريمة من جرائم الإمامة الكثيرة، وهي عملية «التجويع»، ولازال هناك أوجه أخرى عديدة، ما احوجنا للكتابة عنها، ومنها ما يتصل بالتجهيل، والطائفية، وانتهاك حقوق النساء والطفولة، والاعتقال، والخطف… الخ.
استطاع المؤلف من خلال كتابه «الجريمة المركبة» كشف سياسة التجويع الممنهجة، التي تمارسها جماعة الحوثي بدوافع عنصرية، ولتحقيق أهداف عنصرية، وكجزء من سياسة العنف والإبادة الجماعية، التي لطالما مارستها الإمامة ضد اليمنيين في تاريخها الأسود، بدءًا من يحيى الرسي، إلى بيت حميد الدين، والتي أوجدت واقعًا مركبًا من الظلم والممارسات الإجرامية البشعة. ولا يوجد أدق من بيت أبي الأحرار محمد محمود الزبيري، في وصفه لفترة حكم الأئمة سابقًا، وكأنه يتحدث عن الحوثيين اليوم:
جهلٌ وأمراضٌ وظلمٌ فادحٌ ومخافــــــــــــــــةٌ، ومجاعـــــةٌ، وإمــــــــامُ
يتناول هذا الكتاب ممارسات جماعة الحوثي الإرهابية، التي انقلبت على المؤسسات الشرعية المنتخبة، في اليوم المشؤوم 21 سبتمبر 2014، وهو في أغلبه -هذا الكتاب- يسلط الضوء على تفاصيل هامة من جرائم التجويع العنصرية، من منظور إنساني حقوقي، بناء على رصد وبحث علمي دقيق، قابل للاعتماد عليه، والاستناد إلى حقائقه، لكشف بشاعة الإمامة عند المعنيين برفض العنصرية، والمدافعين عن حقوق الإنسان في العالم.
لم يغرق المؤلف في تفاصيل التاريخ البشع للعنصرية الإمامية، لكنه كان موفقًا في الذهاب إلى الجذور التي تكشف أصل الشجرة السامة، التي وإن جرى قطعها في 26 سبتمبر 1962، لكنها للأسف لم تُقتلع من جذورها كإجراء إجباري لإنهاء العنصرية والحروب والمآسي الطويلة في اليمن، ولهذا نبتت هذه الشجرة مجددًا وأثمرت الحركة الحوثية، التي سخّر الكاتب الجزء الأكبر من جهده لمواجهة جرائمها في المضمار الفكري والثقافي.
هو كتاب في الحاضر وليس في التاريخ، وما أحوجنا لكتاب في حاضر الحركة العنصرية الإمامية، فهو مليء بشواهد وأدلة لا تقل بشاعة عن الجرائم المُركّبة التي مورست في الماضي.
وفي تقديري أن هذا الكتاب يعتبر سلاحًا ثقيلًا في المواجهة المصيرية بين اليمنيين والإمامة، وهو بمثابة دعوة لتجريم العنصرية الإمامية. كما أن هذه الدعوة لا يجب أن تقتصر على اليمن، بل يجب أن تطلق عالميًا، وأن تدخل العنصرية الإمامية -القائمة على عنصرية العرق والاصطفاء الديني والحق الإلهي- ضمن الوثائق العالمية، كأحد أشكال العنصرية والفاشية، مثلها مثل النازية، والفاشية، والأبارتيد، والصهيونية، وجرائم الإبادة الجماعية، حتى وإن بدا خطرها على الشعب اليمني فقط، فإنها جريمة ضد الإنسانية. كما أنها في طبعتها الحوثية المرتبطة بإيران، وتشابك المصالح العالمية، وتطور السلاح، أصبحت خطرًا على المنطقة، وعلى السلام العالمي كله، وهذا ما يؤكد على ضرورة تجريم نظرية الاصطفاء العرقي، ويمكن القول بأن هذا الكتاب أحد السبل الممهدة لذلك.
في نهاية القول، أدعو إلى ترجمة هذا الكتاب للعديد من اللغات، ونشره على مستوى واسع في بلدان العالم، والتنسيق مع كل المنظمات والتكتلات المناهضة للعنصرية للعمل ليس فقط لتجريم الحوثية كجماعة يعرف العالم بأنها إرهابية، ولكن لتجريم الإمامة كحركة عنصرية، كي لا يمتد خطرها إلى مستقبل اليمنيين، بعد أن لوثت ماضيهم وحاضرهم، وبما يساعد اليمنيين على بناء السلام العادل والدائم، بعد أن قدموا مئات الآلاف من الشهداء، في سبيل تحقيق المساواة والحرية والعدالة وحقوق الإنسان، والمشاركة في ركب التقدم والحضارة الإنسانية.
*عبدالملك المخلافي*
نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأسبق