فهمي محمد
الحلقه الثالثة
الشيخ والإمام.. ثنائية المماثلة والمقابلة التاريخية
يقول الباحث قادري أحمد حيدر في كتابه الحضور التاريخي في اليمن «إن إمام المذهب وشيخ القبيلة رأي كل واحد منهما صورته لدى الآخر».
أو بهكذا معنى قال صاحبنا الباحث المقتدر، لكن هذه المماثلة البرجماتية التي حددت معالم وأفق سياسية واجتماعية يجب أن تتوقف اعتمالات الإمام والشيخ عند حدودها داخل فضاء الجيوسياسية الزيدية لم تكن خالية من التوجس والحذر تجاه بعضهما البعض.
فإذا كان ولا بد من أن تستمر القبيلة في ممارسة دورها التاريخي والوظيفي بشكل يمكنها من استغراق بنية المجال الاجتماعي للمكون الزيدي لكن ذلك يجب أن يكون بشرط عدم تحولها، أي القبيلة إلى مسمى “القبيلة السياسية”.
لهذا كانت سياسة الرهائن أحد الأدوات المعبرة عن الحذر والتوجس لدى إمام السلالة.
وفي المقابل إذا كان ولا بد أن تستمر السلطة السياسية بيد إمام السلالة السياسية، لكن ذلك يجب أن يكون بدون مشروع سياسي يعمل على تغيير بنية المجال الاجتماعي أو يحدث انقلاب على حالة التراتبية الاجتماعية داخل الجيوسياسية الزيدية.
ومع ذلك فإن هذه المماثلة البرجماتية التي وزعت سلطة النفوذ والتحكم داخل المجال الاجتماعي والسياسي بين شيخ القبيلة وإمام السلالة لم تضع حداً لمسألة الطموح والمشاريع الشخصية عند الطرفين انطلاقاً مما هو استراتيجي في المخيال السياسي لدى كل واحد منهما تجاه البعض بدوافع المصالح والتوجس والخوف من سلطة الآخر ونفوذه لا سيما وأن سلطة السلالة السياسية ظلت تفتقد دائما وابدأً في ظل خصوصية الجيوسياسية الزيدية لشرط جوهري استراتيجي في المعادلة السياسية الضامنة مع شيخ القبيلة.
أي عدم وجود إمكانية لتأسيس معادلة ثقة تتأسس على منطق “إمام الشيخ وشيخ الإمام” كما حدث بعد ذلك مع سلطة القبيلة السياسية التي حكمت بعد ثورة ال26 من سبتمبر 1962م وفق معادلة استراتيجية تعتمد على منطق سياسي اجتماعي داخل دولة الجيوسياسية الزيدية في ظل الجمهورية {شيخ الرئيس ورئيس الشيخ}.
ومرد ذلك يعود لافتقاد أمام السلالة السياسية للقاعدة الاجتماعية القبلية مقارنة بشيخ القبيلة الزيدية الذي تحول بعد ذلك مع هذه القاعدة الاجتماعية الصلبة والمسلحة للقبيلة إلى شيخ القبيلة السياسية في ظل الجمهورية.
انطلاقاً من أهمية دور المكون الاجتماعي ومفاعيله في تحديد هوية السلطة داخل الجيوسياسية الزيدية ظل إمام السلالة السياسية حريصا على تحويل المذهب الهادوي المخترعي إلى عقيدة سياسية ونظام ثقافي معرفي متجذر داخل الوجدان الشعبي {تثوير العاطفة الدينية المذهبية}.
وهنا تظهر أهمية الإحياء السياسي لممارسة الشعائر الدينية المتطرفة وخصوصية الثقافية المذهبية في وعي الجماعة المحكومة وفي سلوكها بالنسبة لإمام السلالة السياسية وهو ما يحدث الآن على يد الحركة الحوثية في مناطق سيطرتها.
فالعمل على أدلجة الوعي المجتمعي بالفكرة الدينية المذهبية سوف يخلق حالة انتماء وجداني لإمام السلالة السياسية داخل المجال الاجتماعي، بل سوف يجعل داعي المذهب هو المجاب والمحرك الأول للجماعة البشرية على حساب داعي القبيلة الذي يجسد سلطة ونفوذ شيخ القبيلة، الأمر الذي يعزز من سلطة السلالة السياسية، بحيث تتحول فيها سلطة الإمام/ الفرد/ السيد / إلى سلطة دينية مقدسة في الوجدان الشعبي، بالمعنى الذي يجعل الخروخ عليها خروجا عن الدين.
ومع أن المذهب الزيدي في أصل نشأته نجده قد تأسس بدرجة رئيسية على فكرة الخروج على الحاكم وجواز قتاله، اقتداء بالإمام زيد بن علي بن الحسين، الذي خرج ثائراً لقتال الحاكم هشام بن عبدالملك، وكذلك خروج ابنه يحيى بن زيد بعد عشرين سنة من مقتل أبيه، الأمر الذي دفع البعض من أصحاب المذهب الزيدي للقول إذا اجتمع أربعين فردا، في معارضة الحاكم جاز الخروج عليه وقتاله.
غير أن فكرة الخروج التي كانت حجر الأساس في تكوين المذهب الزيدي أصبحت أحد الأفكار المحرمة التي منع أئمة السلالة السياسية الهادوية أتباع المذهب الزيدي في اليمن من الاطلاع عليها والعمل بها، ناهيك عن كون هذا التوجه الذي كان بدوافع سياسية سلالية يتعارض مع عقلانية المذهب الزيدي الذي أطلق العنان لمسائل العقل وحرية التفكير والاستدلال العقلي الذي أصبح لدى الزيدية مقدما على النص في الاستدلال كما يقول القاسم الرسي.
الهادوية التي نشأت في مناخ الجيوسياسية الزيدية بقدر ما كانت حريصة على مصادرة عقلانية المذهب الزيدي الموروثة من تيار المعتزلة وفكرها النقدي تجاه السلطة، بقدر ما كانت حريصة على أدلجة الوعي المجتمعي بثقافة اللامعقول الديني والسياسي، كما نجد ذلك صارخاً في ثقافة وسلوك الإمام عبدالله بن حمزة، وهي ما نستطيع القول عنها إنها ثقافة المثلوجيا التي عملت على تحويل الإمامة إلى سلطة دينية مقدسة.
في سبيل الحصول على السلطة والثروة تحولت الهادوية بايديوجيتها {المخترعة} إلى تنظيم سياسي إمامي استبدادي ليس في وجه الآخر فحسب، بل حتى في وجه العقلانية الزيدية، ناهيك أن خصوصية التجربة التاريخية عملت على تحويل الانتماء للمذهب الزيدي إلى انتماء جيوسياسي، بحيث تم توظيف هذا الانتماء الجيوسياسي قبل ثورة سبتمبر كما هو اليوم في خدمة سلطة السلالة السياسية التي بدت حريصة على تقديس إمامتها وتجذير ذلك في ثقافة العقل الجمعي الذي يجب أن ينقاد لداعي الأيديولوجية السياسية المذهبية التي بدأت معنية في تثبيت حكم آل البيت “السيد” من دون الناس.
وفي المقابل كان شيخ القبيلة حريصا على أدلجة الوعي المجتمعي بعادات وتقاليد وثقافة القبيلة وتراثها الاجتماعي الضارب في تاريخ اليمن، أي أنه في سبيل سلطة شيخ القبيلة كان هذا الأخير حريصا على أن تظل القبيلة حاضرة في ممارسة دورها التاريخي والوظيفي تجاه الأفراد، الأمر الذي يجعل من داعي القبيلة ونكفها القبلي هو المحرك الرئيسي لحركة الجماعة وليس داعي المذهب الذي أراد إمام السلالة السياسية تحويله إلى عقيدة سياسية.
إذاً نستطيع القول إن ثنائية المماثلة والمقابلة التاريخية بين إمام السلالة وشيخ القبيلة في اليمن، بقدر ما أسست المجال السياسي والاجتماعي على مفاعيل القيم الثقافية الماضوية، بقدر ما أدى ذلك إلى نتيجتين إصابتا مستقبل اليمنيين في مقتل:-
الأولى تقول إن امام السلالة وشيخ القبيلة ظلوا على الدوام من واقع هواجسهم ومن واقع مماثلتهم البرجماتية هم المستفيدون وهم أصحاب المصالح والامتيازات، وهم صناع القرار بينما ظل أفراد المجتمع في وضعهم المزري، فهم في أحسن الأحوال عساكر مجندة في حروب أئمة السلالة السياسية، أو رعية في حمى شيخ القبيلة، بدون أدنى حقوق المواطنة والإنسانية التي تجعل منهم مواطنين.
والثانية تقول إن مسألة الحكم في اليمن ظلت مفتوحة على سؤال سلطة السلالة السياسية وسلطة القبيلة السياسية، سيما في ظل خصوصية الجيوسياسية الزيدية التي تحولت في ظل التجربة التاريخية إلى دولة حاكمة تجد مشروعيتها في ثقافة الاستحقاق التاريخي، وتعبر عن مشروعها وحضورها السياسي في سلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن.
أي أنه من بين “فرث ودم” الجيوسياسية الزيدية لم تخلق سلطة وطنية صائغ شرابها لكل اليمنيين، بل تأسست سلطة المركز السياسي المقدس، التي كانت وما زالت حتى اليوم تخوض حروبها في وجه التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تحمل في طياتها مشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية في اليمن.