د. ثابت الأحمدي
“من كانت بدايتُه محرقة كانت نهايتُه مشرقة”. هكذا يقول الصُّوفيون في سياق حديثهم عن المجاهدة والمصابرة والمدافعة. وهي قاعدة يصح تعميمها في اتجاهات أخرى.
الدكتور أحمد محمد الأصبحي، من مواليد 1947م في شعبة جعفر من الأصابح، في مديرية الشمايتين بالحجرية، تعز.
فتح عينيه صغيرًا على “عسكر الجن” بحسب تعبير مطهر الإرياني، أو “عساكر الحلالي” حسب إشارة الدكاترة: سعيد الشيباني. والحلالي عامل الإمام الغشوم على الحجرية. وكلتا الإشارتين في موضوعٍ واحد، عبّر عنهما الشاعران، الأول في قصيدة “البالة”، والثاني في قصيدة “يا نجم يا سامر” التي نظَمَها منتصف خمسينيات القرن الماضي، وغناها الفنان اليمني محمد مرشد ناجي، ثم الفنان السوري فهد بلان “كوراليًا” بعد ذلك بأداء بديع مدهش.
قرأ القرآن الكريم في “كُتّاب القرية” طفلا، فيما بين الخامسة والثامنة، وحين بلغ عمره الثامنة رحل إلى عدن، وتحديدا عام 1955م، فالتحق بمدرسة النهضة بالشيخ عثمان، وبعد عصر كل يوم يذهب لبيع “عصير الليمون” البارد على اللاعبين الشباب في ملعب قريب من المدرسة وعلى غيرهم من المارة أيضا.
ولم يكن له سكن مناسب يأوي إليه، فكان يسكن خلال هذه الفترة عند أحد أصدقاء والده من “مداكنة” الحجرية في عدن، في دكان ضيق، يبيع فيه صاحبه البهارات والفلافل والبسباس، يغلق عليه الدكان ليلا، ويفتحه صباحا، حتى أثرت على صحته وعلى عينيه، وهو طفل صغير لم يتحمل روائح البهارات الحارة أو نكهتها التي يستنشقُها طوال الليل.
انتقل بعدها إلى سكن الشيخ الصوفي الفاضل أحمد محمد العبادي، إمام جامع “زكو”، وهذا الشيخ أستاذ لعديد من مشاهير اليمن الذين تتلمذوا على يده. ومنهم ذلك الطفل القروي البسيط ذو الجسد النحيل والذكاء الحاد “أحمد”. وكان منزل الشيخ متواضعًا للغاية غرفتان فوق بعضهما داخل حوش، يربط بينهما سلم داخلي، وتحت السلم مربط عنزة الشيخ التي تحلبُها زوجته كل صباح، وبين ثنايا تلك الدكة استطاع الشيخ أن يلملمَ مرقدا صغيرا لذلك الطفل قريبا من العنزة التي كانت تشغله طوال ليله..!
كان الطفل “أحمد” ملازما لشيخه، كأنه ظله، يخرج معه للمسجد مع كل صلاة، ويحضر دروسه الخاصة في المسجد، فدرس على يده مبادئ العلوم الدينية وعلوم اللغة، ولا يفارقه إلا وقت الذهب للمدرسة فقط.
في المدرسة رأى بعض أقرانه يقرأون مجلتي: “سمير” و “ميكي” فتاقت نفسه لقراءتها، ولكن من أين له قيمة هاتين المجلتين أو الصحف الأخرى؟ لأن وضعه لا يسمح بشرائها، فكان يستعيرها من بعض أقرانه ويقرأها ليلا بجوار تلك العنزة، أو أثناء جلوسه لبيع عصير الليمون في الشارع عصرا. ولم يستطع شراء أي مجلة إلا لاحقا. ومن هنا انفتحت شهيته للقراءة بنَهَمٍ كبير جدا، وهي الشهيّة التي لازمته حتى وفاته. وظلت منزلة الكتاب عنده كما يقول: “تدنو من منزلة الأبناء”؛ مضيفا: “لقد صممتُ مكتبة في منزلي الجديد الذي أسكن فيه اليوم في مكان لا يصل إليه الأصدقاء أو من يزورني، حتى لا تكون عرضة لاستعارة لا ترد”. وتزيد عدد كتبه عن ثلاثة آلاف كتاب. ولعل الدكتور حسن محمد مكي رحمه الله قد استوحى منه هذه الفكرة حسبما أعرف، إذ كانت مكتبته بمنأى عن الزوار والضيوف إلا من يصطفيهم.
كان يجمع ما يربحه من تلك الحرفة التي يشغلها على هامش دراسته، ويشتري بها المجلات والكتب، وخاصة قصص الأديب المصري كامل الكيلاني، ت. 1959م التي كانت أولى مقرواءته، والتي أغنت مكتبة الأطفال العربية آنذاك، ثم كليلة ودمنة، هذا إلى جانب متابعته لإذاعة عدن التي كان يتحلق مع الكبار حول جهاز الراديو لاستماعها، ودامت الحال هكذا حتى أنهى الصّف الخامس الابتدائي.
مطلع ستينيات القرن الماضي، وقد وصل إلى الصف السادس الابتدائي شاءت رياح القدر أن تحمله إلى الخليج العربي، وتحديدا إلى قطر، فالتحق بمدرسة صلاح الدين الأيوبي في قطر، وكانت مدرسة متقدمة، وفيها مكتبة كبيرة، تحتوي على مئات الكتب التي وجد فيها ذلك الشاب اليافع بُغيته، فبدأ بالتهام هذه الكتب وسط تشجيع كبير على القراءة، وعلى المسابقات الثقافية من مدرسيه الشاميين والمصريين.
قال لي الدكتور أحمد ذات مرة: “كان يوجد يمنيون هناك، “في قطر” بعضهم عمال والبعض الآخر جنود في الجيش والشرطة، وكانت لديهم رغبة جامحة في التعلم، فكانوا متواضعين ويصبرون على صغر سني حين جعلوني أستاذا لهم في “محو الأمية”، وكانوا إذا جاء نهاية الشهر يعطونني بعض المكافآت، فأرفض؛ لكني آخذهم معي إلى المكتبة لأشتري بها بعض الكتب”. ورغم مرور عشرات السنين فلم ينس موقفه الطريف ذاك مع أحد المعلمين السوريين الذي طلب منه أن يقرأ صفحة كتاب بين يديه في المكتبة، بلهجته السورية: “إأرا”، ففهما ذلك الطفل القروي البسيط أنها “انظر/ رَ” فكان يحدق بصمتٍ بين صفحتي الكتاب، تنفيذا لما فهمه من توجيهات المعلم الذي كرر الأمر عليه أكثر من مرة مع رفع الصوت، فيما هو مكب “يرى” فقط، دون أن يقرأ كلمة واحدة، حتى دخل المكتبة معلم آخر، ونطق الأمر صحيحا: “اقرأ”، فبدأ بالقراءة الصحيحة والسريعة التي أذهلت ذلك المعلم السوري الذي ظنه عَيِيًّا لا يعرف القراءة..!
كانت كُتب الكيلاني أول الكتب التي قرأها ذلك الطفل بذهنيّة متفتقة حادة في عدن، ثم كُتب الأديب والشاعر المسيحي اللبناني ميخائيل نُعيمة، في قطر، بعد أن امتلك النقود وتحسنت حالته أكثر، وخاصة: “النور والديجور” و”دروب” و “الغربال” وغيرها. تلتها كتب الأديب المصري الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي وهي الكتب التي مَرّ عليها كل مثقف وأديب عربي، ثم كتب عباس محمود العقاد، وخالد محمد خالد، وميشيل عفلق، وعبدالله عبدالدائم، ومحمد الغزالي، وخلال هذه الفترة كان حدة ذكائه قد تبازغت، ومواهبه قد برزت، خاصة وقد لقي من تشجيع معلميه الكثير، والذين يقول عنهم: “أساتذتنا الأوائل كانوا من المستوى الأخلاقي ومستوى التعامل معنا ما يمكن أن يجعلك تخلع عليهم ــ بقدوتهم وبعلمهم ــ لقب القديس، وفعلا تنطبق عليهم صفة الرسولية. “كاد المعلم أن يكون رسولا” كانوا رسل علم ورسل معرفة بقدوتهم وبأخلاقهم وبصبرهم علينا ونحن صغار، كنا نشعر أنهم آباء لنا، وطبعا الأبوة الحانية لا الأبوة التسلطية، كانوا يقيمون لنا المحاضرات من وقت مبكر، ومن الأشياء التي كانوا يوجهوننا بها: لا تكتب قبل أن تقرأ. وكانوا يقولون لنا: ليس هناك من “فيتو” على أي كتاب بين يديك، لكن أنت بحاجة إلى كتب أساسية، وإلى التدرج في الأفكار، وأنت ابن بيئة مشبعة بقيم عليك أن تؤصل لهذه القيم بالقراءة، كنا نستمتع بكتب العقاد حينها، وكانت موردا جيدا بالنسبة لنا”.
أكمل تعليمه في قطر، ثم سافر إلى العراق لدراسة الطب، في جامعة بغداد التي تخرج منها سنة 1974م، وكانت من أشهر الجامعات العربية آنذاك، وعقب تخرجه منها تزوج فتاة عراقية من أسرة عريقة، رافقته حتى آخر نفس في حياته، وقد أنجبت له “ولدين وبنتين”.
في جامعة بغداد أعطى الجامعة كل اهتماماته، وكان يقضي وقتا طويلا في الكلية، متنقلا بين قاعات المحاضرات، والمعامل، والمكتبة، بشغف وتطلع كبيرين، وآنذاك بدأ قلمه يتدفق بغزارة في الصحف والمجلات الجامعية، بتشجيع وتوجيه أساتذته، وحين عاد إلى اليمن كان شعلة متوهجة من النشاط والجدية والعمل الدؤوب، بعقلية شاب متفتح على كثير من المعارف والعلوم والخبرات، فكان يكتب مقالا يوميا في الشؤون الصحية لإذاعة صنعاء، جامعا بين العمل الميداني والتثقيف الصحي، وقد لاقى هذا البرنامج صدى كبيرا آنذاك، خاصة وهو يذاع في فترة العصر، الفترة الحية عند اليمنيين.
أثناء عمله في وزارة الصحة كان يتم تكليفه بزيارة المناطق النائية من اليمن لعمل الدراسات الميدانية، وعلى مشقة تلك الأسفار إلا أنه كان مستمتعًا بها؛ حيث يكتشف جديدا في كل زيارة له، وكان عقب كل زيارة يكتب مادة خاصة عن كل منطقة يزورها، وينشرها في مجلة “الحراس”، فقد زار كلا من: مارب، وتهامة والمحابشة، وريمة والنادرة والسدة”. يقول: “كنت أشعر بالجمال الأخاذ والمتنوع في هذه المناطق، وكانت لي كاميرا صغيرة كنت أصور بعض المناظر الجميلة التي لا تقل جمالا عن جماليات سويسرا أو لبنان أو المغرب”.
وخلال عمله في وزارة الصحة التي استوزرها في العام 1979م ألف كتابين اثنين عن “الصّحة والتثقيف الغذائي” للصفين الأول الإعدادي والثاني الإعدادي، عقب صدور قرار يَمننة المناهج اليمنية التي كانت نسخة من المناهج المصرية. وكانا من مقررات وزارة التربية والتعليم.
ويذكر المؤرخ والتربوي اليمني الأستاذ حيدر علي ناجي، أن الدكتور أحمد محمد الأصبحي أول من اعتمد منطقة ريمة مركزًا تعليميًا مستقلا مطلع الثمانينيات، أثناء ارتباطها بمحافظة صنعاء، وكانت ملحقة بمركز العزل الغربية من محافظة صنعاء إلى جانب: الحيمتين، وبني مطر وحراز، ومقر هذا المركز في حراز.
عمل وزيرًا للصحة في العام 1979م، وقد أحدث نهضة صحية واسعة في عهده، ويعتبر أول من عمم فكرة المستوصفات الريفية، رغم الصُّعوبات التي لاقاها، وقد أخبرني ذات مرة أنه زار منطقة حاشد التي لم يكن فيها أي مركز أو مستوصف صحي آنذاك، وكانت حالة الناس فيها مزرية، كما هو الشأن في بقية المناطق، فأراد بناء مستوصف طبي ريفي نموذجي فيها، ولكن أحد شيوخ حاشد الكبار رفض ذلك بشدة، وطالبه ــ وهو وزير الصحة ــ أن يسلم مبلغ المستوصف إلى يده شخصيا، فرفض الوزير الأصبحي ذلك، وصمم على بناء المستوصف، ولكنه لم يستطع البتة. وقال لي بالحرف الواحد ذات مرة: “لا أنا، ولا الوزير الذي بعدي استطاع بناء المستوصف”..!!
إلى جانب استيزاره للصحة، استوزر أيضا التربية والتعليم ومعها جامعة صنعاء، والشؤون الاجتماعية والعمل والخارجية، وكانت بصماته فيها متميزة واستثنائية، نظرا لعقليته المستنيرة؛ أما جهوده في تأسيس المؤتمر الشعبي العام فعلى كل لسان، وأشهر من أن نعيدها هنا. ركزت هنا على بعض الجزئيات الخفية من حياته فقط التي كنت أسمعها منه.
على أية حال.. كنت قد سمعت عن الدكتور أحمد الأصبحي وأنا طالب في الجامعة من بعض زملائي المثقفين، ولكن لم أتعرف عليه عن قرب إلا في العام 2007م، أثناء أول حوار صحفي سجلته معه، وتلاه العديد من الحوارات، والعديد من الجلسات والزيارات الخاصة، حتى كانت علاقتنا استثنائية، رغم فارق السن، وفارق المعرفة والمنصب بينه وبيني. ولطالما كان يشجعني كثيرا، وحضر لي أكثر من فعالية منها فعالية احتفائية بصدور كتابي الأول “محنة الرأي في تاريخ المفكرين” التي أقيمت بمنزل النائب مفضل الأبارة في صنعاء، في العام 2009م، كما شرفني ذات مرة بزيارتي إلى منزلي في شارع هائل، في العام 2013م، وفيها أطلعته على مكتبتي المتواضعة، ويومها أتذكر أنه أهداني عملا جديدا له صدر للتو، عن الإمام الهمداني بعنوان: “الهمداني يطل من أورليان”، ولطالما كنت أتهيب أن أتناول القات بحضرته، لكونه من معارضي تلك الشجرة الخبيثة بقوة، وقد صحبته قبل ذلك في أكثر من جلسة، منها جلستان بمنزل الراحل عبدالعزيز عبدالغني، وجلسة مع السفير الكويتي الأسبق في اليمن فهد المنيع، وأخرى بمنزل الأستاذ محمد الخادم الوجيه، وجلسات ثقافية وحوارية أخرى. وثمة نصائح وتوجيهات كثيرة كنت أتلقاها منه، ولكم كنت أشعر بحميميتها ودفئها من معلمٍ كبير، وشخصية مجربة وحكيمة، ولطالما كان متذمرا من سوء الأحوال السياسية التي آلت إليها البلاد مؤخرا، وتبخر أحلام السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. ورغم علاقتنا الطيبة والحميميّة هذه إلا أني فشلت في انتزاع معلومةٍ عن حادثة محاولة اغتياله الآثمة في معهد الميثاق مطلع تسعينيات القرن الماضي، التي يعرف تفاصيلها وأبعادها، ولطالما كان يرد مع كل محاولة: “دعها لله”. وقد غادر إلى الأردن للإقامة فيها، وهناك كتب رواية لم تطبع بعد حد علمي، وأيضا كتاب “تداعيات رحالة في زمن الانكسار”. كما فشلتُ أيضا في محاولة إقناعه كتابة مذكراته، على الأقل حتى فارقته في شهر يوليو من العام 2015م، ولا أدري أكتَبَها بعد ذلك أم لا؟ لأن تواصلي قد انقطع معه بسبب الأوضاع السياسية.
رحم الله أستاذ الأساتيذ السياسي والمفكر والأديب الدكتور أحمد محمد عبدالملك الأصبحي، وأسكنه فسيح جناته.