– سام الغُباري
مر عام دون جدوى، باءت محاولاتي المتكررة للقاء عيدروس الزبيدي بالفشل، حاولت مع اكثر المقربين إليه، اتصلت بمكتبه، ومع انقضاء 365 يومًا، ومحاولة، بت أكثر قناعة أن الأفراد الذين يرتبطون به ينظرون إليّ باعتباري رجل ولد في الشمال اليمني، من محافظة متهمة بإرسال أكثر عيالها لمحاولة غزو محافظات الجنوب .
بهكذا ولادة، دفعت ثمن أخطاء قومي ما أعاق ذهنيتي الصحافية، وذكرني بأول محاولة لي للقاء علي سالم البيض قبل ثمان سنوات، كُنت في الطريق الحار على سيارة مواطن طموح من شبوة، أبديت له مخاوفي من رفض لقاء من ذهبنا إليه، واحراجي، فطمأنني بابتسامة مشجعة، وعلى مقربة من جناح الرجل الثمانيني، اعترضني رجل في الأربعين، نظر إليّ بامتعاض وريبة، وسألني عن محافظتي، كانت سحنتي القمحية تذهب بي جنوبًا، غير أني تحدثت بلا اكتراث، قلت: أنا من ذمار !، وكأن الرجل صُعق، ارتد رأسه إلى الوراء، بحلق في وجهي بعينين مشدوهتين ممتلئتين استنكارًا، وكرهًا واحتقارًا، وازدراءً، وغضبًا، ما زلت أتذكر تعبيرات وجهه وتقلب شفتيه، ثم رفضه القاطع للقاء نائب الرئيس اليمني الأسبق.
قبل أيام، اعتلى عيدروس الزبيدي منصة خشبية بقاعة رئيسية بمدينة المكلا الحضرمية مؤكدًا حق استعادة دولة الجنوب العربي، وانتزاعها وتمثيلها داخليًا وخارجيًا، في الغالب يصرح عيدروس الزبيدي منذ الأيام الأولى لتعيينه نائبًا لرئيس اليمن على حصرية عداوته مع الحوثيين، غير أنه في هذا الخطاب يرفع الرئيس رشاد العليمي إلى مرتبة عدو مع وقف التنفيذ .
لا أريد أن أكون سلبيًا في قراءتي لخطورة خطاب كهذا، لكن الكلمات كانت واضحة، فنائب الرئيس اليمني عازم على التخلي عن صفته اليمنية، والإعلان عن هوية جديدة، وعلم ونشيد، ثم دولة تفرض الأمر الواقع، مع اختفاء مفاجئ لتأييد قمة الجامعة العربية الأخير في عبارة استهلاكية معتادة تؤيد وحدة اليمن واستقراره وسلامة أراضيه . وقد شكل خطاب عيدروس الزبيدي ردًا حادًا على خطاب ولي العهد السعودي الذي كان هو الآخر واضحًا برفض تحويل المنطقة العربية، ودول الجوار على وجه التحديد إلى ساحة للصراعات .بينما يستمر الزبيدي في الانتفاع بمنصبه الرئاسي الشرعي الذي حازه عقب إعلان الرئيس عبدربه منصور هادي نقل السلطة إلى ثمانية من الأعضاء يتولون كل مهامه الدستورية والشرعية، مؤديًا نوعًا من الفصام الوظيفي المثير للغرابة، كرئيس لمجلس انتقالي جنوبي، ونائب لرئيس مجلس القيادة اليمني في آن !.
هذا الانتفاع سمح له بممارسة السلطة والتوجيهات والنفوذ على الحكومة اليمنية التي ينتمي رئيسها ورئيس برلمانها ورئيس الدولة إلى محافظة واحدة: تعز، التي تعرضت هي الأخرى إلى غزو حوثي معزز بقبائل انتهازية قدمت من شمال الشمال لفرض سلطة “عبدالملك الطباطبائي” العنصرية على اليمنيين، وبعد مرور ثمان سنوات من الحرب، ما تزال تعز مُحاصرة وميتة، يفترسها قناصة الطباطائي بالأعيرة النارية الصامتة، وشهقات الموت المفاجئة تدوي بين جنباتها، وأزقتها حاملة معها انفسًا بريئة لنساء وأطفال كانت جريرتهم الوحيدة أنهم أرادوا الخروج من منازلهم للتسوق .
تتشارك تعز مع الجنوب اليمني، همّ التسلط القادم من بعض قبائل الشمال اليمني، الذين يظنون إثمًا أن على بقية اليمنيين الخضوع لمن يتمكن من غزو صنعاء، ذلك ما رفضته مارب أيضًا وقدمت أغلى ما يمكن من عيالها فداء لدولة واحدة لا يستقوي عليها أحد.
في السياق، ما تزال حضرموت تتذكر مذابح الحزب الاشتراكي اليمني لإرغامهم على إعلان يمنيتهم غصبا، اقتحم “الرفاق” قُراهم، وسلطناتهم بالدبابات التي تركتها بريطانيا، ليعلنوا بالعنف أمر الجمهورية الوليدة، وبالدبابة ذاتها يدخل عليهم عيدروس الزبيدي مُعلنًا ثلاثة خيارات، إما الجنوب العربي، أو دولة حضرموت الكبرى، أو جمهورية اليمن الديمقراطية .
إن اسقاط الدولة التي في يدك، والتفكير في إنشاء دولة جديدة، لا يعني شيئًا أكثر من أنك لا تنتمي إلى عالم السياسة، فما الحل طالما كان عيدروس الزبيدي “يخشى” الوصول إلى صنعاء، ففيها بيئة أخرى، وأناس لا يعرفهم، وجذور لا ينتمي إليها، ومخاوف معلنة وهمس غير معلن من الإنفراد به، وإسقاطه كما انفردت صنعاء بـ “علي سالم البيض، وعبدربه منصور هادي”
الحل بالقفز نحو عاصمة إدارية جديدة، لا عدن ولا صنعاء، ولا مارب، ولا حضرموت، بل أرض فارغة، تضع أوزارها على محيط وسط بين الحدود، تطل على بحر العرب، وتمتد أدغالها إلى الأفق الشرقي، يسندها المال العربي، والموارد اليمنية، لا تحمل عقدة الاشتهاء والصراع القديم، تستولي في جغرافيتها على أراض من ثمان محافظات، هي البيضاء، وأبين ولحج، شبوة، الضالع، ذمار، مارب، وصنعاء
ستدفن هذه العاصمة كل الصراعات التي أعادت عدن إلى فم الفوضى باستحضار صراعات الرفاق القديمة، وستسكت أنات حضرموت التي ما تزال تتذكر موت أسلافها، ورهاب القادمين من القرى، وستمنع صنعاء عن استلاب حظ المركز والقرار، وبغي قبائلها المحيطة على الدولة، وتفتح بابًا أسطوريًا لليمانيين في بناء أمل جديد، ودولة جديدة، ويمن ثانٍ كحلم الصبا، ينأى ويقترب .