موت صغير !

– سام الغُباري

في أوان العصر، حانت التفاتة من “عُمر” إلى طفلته، بدت عينا “رحمة” من فرجة الباب الحديدي سوداوتان مثل حجرين بركانيين. لم يمنع ذراعها الصغير القابض بعصبية على حافة الباب من تملص شقيقها الأصغر “سالم” إلى الطريق الترابي، ضحكًا، يلاحق أبيه بخطوات متعثرة أثارت منه ابتسامة واهنة، رفعه “عُمر” إلى صدره، وضمه بحنان ينفث زفيرًا مكتومًا .

مضى به، متأبطًا ذراعه، في الطريق كان “سالم” يمد كفه الصغيرة إلى أواني الأطعمة المنتشرة على حافة الأرصفة، روائحها المثيرة الممنوعة أبكته، لم يكن في جيب عُمر” فلسًا واحدًا، تراكم عليه الفقر سنة وراء أخرى، مذ طردته ميليشيا الحوثي من وظيفته “سبيله الوحيد لسد جوع أطفاله”

لم يكن “عُمر” يبرع في شيء، قدر براعته في تعليم الموسيقى، انخرط أوائل صباه مع فرقة فنية محلية، تعلم منها العزف على البيانو، ومن عوائد مشاركاته البسيطة اشترى بيانو ماركة ياماها، احتضنه تلك الليلة وناما معًا على فراش واحد، مثل زوجين ليلة الزفاف .

في الحيّ، حيّهم الصغير أسفل باب اليمن، كانت ألوان الموسيقى تسبح مُبتهجة في الهواء بخفة، تنسال مثل نسائم فوّاحة، من نافذته الخشبية الصغيرة نحو نوافذ جيرانه الملاصقة لدارهم، ألحان بليغ حمدي، ومقاطع خالدة من سيمفونية بيتهوفن، ومطلع أغنية أنت عمري لأم كلثوم.

بعد أشهر كان “عُمر” يستقبل رسائل مكتوبة من فتيات الحيّ يطلبنه أغان معينة، وبقلب طيب، لبى طلباتهن، كان مؤمنًا بأنه ينشر الحب، يضغط برفق على دواسة البيانو، يغمض عينيه، ينصهر مع النغمات المنبعثة، يتصاعد معها كروح هائمة .

في منتصف ليلة ٢١ سبتمبر ٢٠١٤م، عزف “عُمر” كل ألحانه التي تعلمها، وحفظها طيلة 15 سنة، كان مجروحًا، هاربًا في خلوته، أغلق هاتفه، شرّع نافذته للريح المشحون، ما إن لامست أصابعه الرقيقة أوتار البيانو، حتى انطلقت النغمات حزينة، ملتاعة، لم يتوقف، رغم سكوت آخر مدافع ميليشيا الحوثي، وصورة التلفاز تنقل مشاهد خضوع صنعاء لشراكة قسرية مع البرابرة الجدد، ظل يعزف، ينهمر مثل مطر، ليلتها بكى وحيدًا في غرفته العلوية .

بعد سنة توقف راتبه، سخرت منه الميليشيا، احتقرت مهنته، شنعته بأوصاف مخلة، وكان كلما رأى وجه أحد اصدقائه معلقًا على عمود الإنارة، يهرع إلى آلته، يغلق النافذة، يلتقط البيانو من أعلى دولابه الخشبي، يسند ظهره إلى الجدار، ثم يعزف أشد ألحانه حزنًا، وعيناه تذرفان دموعًا ساكنة .

قبل ساعات، كان “عُمر” يحمل طفله الصغير “سالم”، وسط حشد كثيف، ينتظر فرصته للحصول على إعانة زكاة. سمع صوت موسيقى يقترب، تلفّت بحثًا عن مصدره، أذنه المدربة عرفت أنها آلة بيانو كتلك التي باعها قبل سنتين، عادت أنغام الموسيقى أشد وضوحًا، كان لحنًا حزينًا ينساب من نافذة تاجر الأغذية.

.. فوقه مباشرة !

حين رفع “عُمر” رأسه إلى أعلى، كان الحشد ينفض بهلع، ويهرع كل فرد إلى الإحتماء، لم يسمع صوت الرصاصات، كانت الموسيقى تزداد صخبًا، وقوة. انتفض جسده بضع مرات، أدرك أنه يسافر بعيدًا. عندما وصل إلى السماء، رأى من خلال السُحب جسده محتضنًا ابنه سالم، وقد سكن الجسدان بلا حراك .

#شهداء_التجويع_العنصري

تعليقات الفيس بوك
Exit mobile version