محمد جميح
خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي وصل إلى العاصمة اليمنية صنعاء التي تسيطر عليها ميليشيات الحوثي وفد عماني سعودي مشترك، كان لوصوله أثر في بث جو من التفاؤل لدى المستويات الشعبية وبعض الرسمية في اليمن، على أمل أن تؤتي الوساطة ثمارها في تمديد الهدنة، بعد أن سعت الرياض إلى التحول من دور الطرف إلى دور الوسيط، وهو الأمر الذي ترى السعودية أنها عن طريقه يمكن أن تلعب دوراً أكثر جدوى من دورها التقليدي كحليف للحكومة اليمنية.
وعلى الرغم من أن مجرد وصول وفد سعودي إلى صنعاء يعد تطوراً نوعياً، إلا أن الأمر لن يكون سهلاً عندما نتحدث عن جوهر الصراع وأسبابه والمعالجات الحقيقية له، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الحوثي يرى الحرب مخرجاً له من التزاماته الداخلية، كما أن عقائده الدينية والأيديولوجية لا تساعد في استتباب السلام، مع حرصه على أن يظهر بمظهر الجماعة الدينية المستحقة للسلطة والثروة، دون سواها من المكونات، ومع إصراره المعروف على الاحتفاظ بالسلاح الذي يراه وسيلته الوحيدة التي وفرت له مكاسب سياسية واقتصادية يصعب عليه التفريط بها.
وهنا سنعرض بعض المراحل والظروف التي هيأت لزيارة الوفد السعودي إلى صنعاء، تلك الظروف التي يأتي في مقدمتها مراوحة الأوضاع العسكرية مكانها، الأمر الذي هيأ الفرصة للبحث عن حل سياسي لا يبدو أنه أقل صعوبة من الحل العسكري. وقد كان ضمن أسباب مراوحة الحل العسكري مكانه أن هذا الحل كان غطاء لاستثمارات ضخمة في سوق الحرب، وأنه لم يكن يراد منه تحقيق أهدافه، وكما أن الاستثمار في الحرب كان عائقاً أمام إنجاز الحل العسكري فإنه يبدو عائقاً أمام إنجاز الحل السياسي كذلك.
من جهة، هناك استثمار حوثي ضخم في «حرب إلهية» يخوضها «عَلَم الهدى» عبدالملك الحوثي، تبدأ في اليمن وتنتهي في فلسطين، وهي الدعاية الأيديولوجية التي باسمها خاض المستثمرون هذه الحرب لسنوات طويلة لم تبدأ في 2014، ولكنها بدأت في 2004، عندما هاجم الحوثيون نقطة أمنية وقتلوا جنود الأمن في محافظة صعدة، وهي الشرارة التي فجرت حرباً لم تنته حتى اليوم، ومن جهة أخرى، هناك في مؤسسة الشرعية من استثمر كذلك في المعركة بعد أن حول شعار «استعادة الشرعية» إلى متجر كبير باع فيه الشعارات والأوهام، ناهيك عن أن هدف استعادة الشرعية أخفى تحته أهدافاً أخرى إقليمية ودولية.
ولأن ما رُفع كان مجرد شعارات، ولأن الهدف كان مختلفاً عن الشعار، لذلك لم يصل أي طرف إلى ما يصبو إليه، فلا الحوثي بسط سيطرته على اليمن، ولا هو حقق شعار «طرد المحتل» ولا حافظ على السيادة، ولا حقق حلمه في حيازة منابع النفط والسيطرة على السواحل المهمة، ولا وصل إلى باب المندب، وهو الهدف الذي تسعى له إيران ضمن استراتيجيتها في السيطرة الإقليمية، والمغنم الذي تحقق للحوثي هو أن قياداته جمعت ثروات طائلة وراكمت سلطات مختلفة في فترة قياسية، وهذا هو الهدف الحقيقي الذي يختبئ تحت الشعارات الوطنية والدينية التي رفعتها ميليشياته.
وعلى الجانب الآخر فإن الشرعية المعترف بها دولياً لم تدخل صنعاء ولم تستعد الدولة ولم تستطع توحيد مؤسساتها، وهناك ضعف في أدائها على المستويات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، رغم ما تطرحه من شعارات وأهداف.
وقد جاءت كل تلك المعطيات متسقة مع متغيرات إقليمية ودولية هيأت لوقف الحرب، وإن كانت لم تصل لتحقيق السلام، حيث بدا أن تجميد الصراع ـ في الوقت الحالي على الأقل ـ ربما كان مصلحة لكثير من الأطراف يمنياً وإقليمياً ودولياً، في ظل أوضاع ملتهبة في مناطق أخرى حول العالم، وعلى رأسها الوضع في أوكرانيا والتوتر في بحر الصين الجنوبي، ناهيك عن ملفات اقتصادية في أوروبا وأمريكا.
وهنا يمكن الحديث عن العلاقات الصينية الأمريكية المتوترة وأثر ذلك على مجريات الوضع في اليمن، إذ أن بكين اتخذت الاتفاق السعودي الإيراني ورقة رابحة في «حربها الباردة» مع الولايات المتحدة، حيث يهيئ الاتفاق لدور اقتصادي وسياسي للتنين الصيني في منطقة الشرق الأوسط والخليج تحديداً، وهو هدف لا تخفيه بكين، وهذا الاتفاق كان رافعة التحركات الأخيرة التي شهدها الملف السياسي والأمني في اليمن، حيث بدا أن إيران أوعزت للحوثيين بضرورة الوصول إلى تهدئة، وهم الذين كانوا يتعنتون إزاء كل ملفات التفاوض.
ثم إن الحديث عن العلاقات المتوترة بين واشنطن وبكين وأثر ذلك على الملف اليمني لا يختلف كثيراً عن أثر الحرب في أوكرانيا على هذا الملف، حيث تعارضت رغبة واشنطن في سعر طاقة منخفض مع تصرفات «أوبك بلس» في خفض الإنتاج، الأمر الذي أزعج الأمريكيين من حلفائهم السعوديين الذين بدا أن تحركاتهم الجريئة الأخيرة باتجاه الصين والمصالحة مع إيران كانت نتيجة لما يمكن أن يكون ابتزازاً أمريكياً للرياض في ملف الحرب في اليمن والعلاقة المتوترة مع إيران، بعد أن دأبت الإدارة الديمقراطية على عدد من السياسات كان لها دور فيما يراه مراقبون توجهاً شرقياً للرياض.
كل تلك المعطيات أنضجت تفاهمات إقليمية ويمنية باتجاه وقف الحرب، لكن الحديث عن السلام موضوع آخر. صحيح أن وقف الحرب مصلحة يمنية وإقليمية ودولية، ولكن الصحيح أن وقفها لمجرد تجنب تداعياتها الإقليمية والدولية لن يؤدي إلى سلام داخلي، وبما أن الحرب ستقف والسلام ربما لن يأتي أو أنه سيتأخر، فإن البلاد يمكن أن تدخل حالة اللاحرب واللاسلم، مع احتفاظ كل طرف يمني بما لديه من إمكانات وموارد بشرية وطبيعية، وهذه مع الزمن وصفة حقيقية لتكريس تقسيم البلاد، ليس على أساس شمال وجنوب، كما كان من قبل، ولكن على أساس جديد متعدد بتعدد القوى المسيطرة على الأرض في الشمال والجنوب والساحل الغربي والشرق، وهذه هي الحال التي يمكن توقعها بسهولة إذا وقفت المعارك ولم يذهب الجميع لمفاوضات الحل النهائي، الأمر الذي سيؤدي إلى تفجر الحرب في أقرب فرصة يرى الفرقاء أنها مواتية لتفجيرها.
وبما أن الحل الشامل يعني احتكار الدولة للسلاح، ويعني أن تتحول كل القوى المقاتلة إلى مكونات سياسية تتنافس على قاعدة الانتخابات الديمقراطية، ويعني التخلي عن المزايا السلطوية والاقتصادية التي تحصلت عليها الأطراف المختلفة لصالح الدولة، فإن تحقيق السلام مهمة معقدة، ولأنها كذلك يفضل اللاعبون الصغار والكبار وقف الحرب على إحلال السلام، في الوقت الحالي على الأقل.
أوجز أمير الشعراء أحمد شوقي الأمر في قوله:
والحرب يبعثها القويُّ تَجَبُّراً
وينوءُ تحت بلائها الضُعفاءُ
وإلى أن يعقل أو يضعف «القوي المتجبر» سيظل «الضعفاء» ينوؤون ببلاء الحرب وويلاتها حتى تضع أوزارها.