تحديات جمة تلقي بظلالها أمام المصالحة!!

د.محمد الحميدي

منذ الإنتخابات الأمريكية وزيارة الرئيس جون بايدن إلى الشرق الأوسط، شهدت المنطقة والعالم تحالفات عدة غيرت موازين القوى العالمية، وإعادت رسم ملامح خارطة التحالفات “الجيوسياسية” التي خلقت واقع جديد مفتوحاً على مصراعيه، وهي رغبة جامحة لدى القوى العالمية الكبرى من أجل إعادة تموضعها، وترتيب نفوذها العالمي وصياغة سياسة العالم، في ظل التزاحم المعقد، وسباق التسلح، وحرب الوجود.

– المصالحة السعودية الإيرانية

وتُعد المصالحة السعودية الإيرانية في هذا العام حدثا هاما، وصفه البعض “بالمصالحة التاريخية” خاصة بعد أن استمرت حالة العِداء والقطيعة بين البلدين سنوات عديدة، وأدت إلى دخول المنطقة في حروب متناثرة، واستمرت إيران في دعمها اللامحدود لأذرعها الميليشاوية المسلحة في عدة عواصم عربية، واصابت الخاصرة العربية في مقتل، وتحولت أدوات الضغط التي تستخدمها إيران كورقة رابحة تصب في دعم توجهاتها الإقليمية والدولية، وهو ما جعلها ترمي بكل قواها ونفوذها لتحافظ على بقاء تلك الحركات المسلحة، التي تعد مكسباً استراتيجيا، الذي منحها النفوذ دون أن يتأثر العمق الإيراني.

لا شك بأن الجهود التي بذلتها السياسة الصينية كانت عظيمة، استطاعت من خلال الحراك السياسي ان تحدث ثغرة تمكنها من إنجاح مساعيها في تحقيق تفاهمات وتقارب في بعض الملفات الشائكة بين المملكة السعودية وإيران، وعلى رأس تلك الأولوية الملف اليمني والسوري، وهذه ما يوحي بأن الطرفين لديهما الإستعداد وجدية للتوصل الى اتفاق، في ظل وجود وسيط نزيه ويحظى يثقة لدى الجانبين.

– مباحثات مسقط كانت اللبنة الأولى

انتهت مشاورات الكويت بنسختيه ثم استوكهلوم التي نتج عنه اتفاق بوقف الحرب في اليمن لكن لا يوقف نزيف الدم، حينئذ كانت الشرعية على أسوار استوكهلوم هي الخاسر الأكبر، الذي جردها من أصالة الحق والمشروعية، وجعلها في موضع “المتحدث الصريح الخائف”، ولكن مايهم هنا الدور الذي لعبته سلطة عُمان ونافذتها المفتوحة على كافة الفرقاء منذ بداية الحرب، واستمرت بهذا الانفتاح وسعيها الدؤب والهادئ، حتى استطاعت أن تلعب دوراً هاماً بعيداً عن تاثيرات الأضواء، افضت إلى ما نشاهده اليوم من حراكا غير مسبوقا في العاصمة صنعاء، وسيفضي إلى نتائج إيجابية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

المحادثات التي استضافتها مسقط خلال الفترة السابقة، والتي استمرت لـ 11 شهراً بين السعودية والحركة الحوثية، كانت نتيجة ذلك التقارب الذي حدث مؤخراً بين الرياض وطهران برعاية صينية، ساعد السلطنة من الولوج إلى تلك الملفات الشائكة والمعقدة وتحقيق تقدم ملموس، ومن المؤكد أن الهرم الذي يسوده الانسجام غالبًا مايفتح آفاق واسعة، وأرضية صلبة تُساعد على مغادرة مربع الصراع إلى مربع الحل، والوصول إلى تفاهمات تؤدي إلى سلام مستدام.

– المجلس الرئاسي

اتى مجلس القيادة الرئاسي نتيجة الإعلان الدستوري في السابع من أبريل العام المنصرم، حينها تحدث المهتمين بالشأن اليمني بأنه جاء كضرورة مُلحة من أجل جمع الشتات الذي استمر عدة سنوات، من شأنه توحيد كافة التشكيلات المناوئة للانقلاب في بوتقة واحدة برعاية السعودية، وهي خطوة أولية لإصلاح ما افسدته السنوات السابقة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.

ولكن بعد تلك المتغيرات بأيام قليلة وجدنا أن المجلس غير مستقر ويعاني من معضلة التباينات الداخلية وغياب الانسجام، ورتهانه كليًا بحالة التوافق التي أعاقت أداؤه، وتسببت في ترحيل جملة من الملفات في ظل الظروف والتحديات، واتساع دائرة الازمة الإنسانية وغياب الحل السياسي المتكافئ، وتواضع الدور الإقليمي والدولي المتعاطي مع الملف، وتسارع وتيرة التحالفات التي جعلت اليمن ساحة مفتوحة للصرعات والنفوذ الدولي.

ما جعل المجلس أمام واقعٍ وتحدى جديد، يستوجب عليه التعاطي مع التغيرات بكل جدية ومسؤولية وطنية، فالحديث عن مصالحة قادمة، وربما تجعل المجلس أمام فرضية قائمة على تغليب الصالح العام أو التماهي الجاد الذي قد يجعل الطرف الخصم أمام إختبار حقيقي لمبدأ السلام، غير أن التفائل في غير موضعه مقدمة لبداية السقوط، خصوصاً وان مقومات المصالحة غير متوفرة، بل أن أرضية التقارب لا زالت هشة، يصعب عليها الصمود امام لفيفٍ من التناقضات، وهذا ما يوحي بأن الحديث عن أي مصالحة لا تُلامس جذور المشكلة سيكون مصيرها الفشل.

– النخب السياسية

ظلت النخب السياسية منذ الإنقلاب منطوية على نفسها، بل انها استمرت في لطم ذاتها بدعوى المظلومية ونظرية المؤامرة الكونية، وهو ما جعلها مقيدة ومستمرة بالثقافة السياسية النفعية، التي تتوارثها أغلب النخب السياسية المنظوية تحت الشرعية، بل انها واصلت السير في نهجها الخاطئ، الذي اسقطها في ديمومة الممارسات السياسية المتخلفة، التي لا تقم على منهجية سياسية بناءة، حيث مازالت الايدلوجيات هي الأصل، وتتحكم فيها الأطر الضيقة، وتعمل في عباءة الآخرين، وتفكيرها السياسي الذي لم يغادر مربع ما قبل سقوط صنعاء، رغم مغادرة شخوصهم لليمن منذ ثمان سنوات، وعمدت خلال فترة الحرب والشتات، على بناء امبراطوريات مالية في الخارج، واستمرارها في تجديد وتوظيف الشعارات الوطنية المستهلكة.

وغياب مستوى الوعي لدى الشارع اليمني خلال المراحل الأولى من الحرب، أدى لاحقاً إلى فقدان ثقة التحالف وجماهير الأمة في الداخل والخارج، واستمرت النخب السياسية في لعب دور الانتهازية النضالية، وجعلت من ذلك وشم خفي، تمارسه على استحياء، ترفع الشعارات والامنيات وليس لديها مقومات المشروع الوطني الجامع، وقدمت نفسها للعالم بطموحٍ قاصر وبلغة سياسية لا ترقى في أسوأ تقدير إلى المستوى البدائي الركيك، حتى أصبحت لا تفرق بين الثوابت الوطنية الراسخة، والأهداف السياسية البعيدة.

تعامل النخب والكيانات السياسية مع الحرب بعقلية الطفل التائه، الذي ينتظر من يعود به إلى أمه، فلربما انتظروا السيناريو العراقي الذي أعاد السياسيين على ظهر الدبابة ودخلوا بغداد فاتحين، ولكن هذا لن يتكرر في اليمن، فالاشقاء قدموا على مدى ثمان سنوات ما بوسعهم، وليس بوسعهم أن يفكروا بديلاً عنهم.

غير أن النخب للأسف لا تعي حجم التحديات والتغيرات التي تتشكل في المنطقة، لكنها اندثرت ووقعت بفخ الفوقية والاستعلاء، الذي يشكل نوع من التفرد في القرار، وهذا ما يجعلهم اليوم أمام اختبار الفشل، وليس في ايديهم أدوات أو إمكانيات سياسية قادرة على التفكير خارج الصندوق المعطل، كي تتمكن من فرض إرادتها أو حتى رأيها، بل إنها قدمت نفسها للداخل والخارج في اطار المصالحة اليمنية القادمة (والتي يجري التحضير لها والتوقيع عليها ليلة السابع والعشرون من رمضان في قصر الصفاة بمكة المكرمة) قدمت نفسها وكأنها مبتورة الرأس وإرث ثقيل يصعب حمله.

– تعدد المسميات العسكرية

تعدد الفصائل العسكرية لمختلف المسميات منح المليشيات الحوثية ميزة تحديد مكان وتاريخ المعركة.. بينما غاب العمل العسكري الموحد في جبهة الشرعية ناهيك عن نشوب نزاعات مسلحة بين الفينة والأخرى أثرت على الحاضنة الشعبية وتشويه الصورة المثلى للشرعية، واستمرار تلك المسميات المتناثرة على امتداد الجغرافيا دون توحدها تحت مظلة الشرعية، ينذر بمعارك قادمة داخل الاطار نفسه.

لا أعتقد بأن مجلس القيادة الرئاسي سيحقق خطوة إلى الأمام في أجواء المصالحة القادمة دون البدء العملي في ترتيب الملف الأمني والعسكري الذي يعد أساس وخيار وحيد ومتاح، دون ذلك فهو مع الأسف الشديد يضع نفسه في مهمة العزاء وإسقاط الواجب.

تعليقات الفيس بوك
Exit mobile version