الحضور اليمني في مصر خلال العصر الإسلامي الأول

د. ثابت الأحمدي

اتصال اليمنيين بمصر قديم جدا، قدم الحضارتين اليمنية والمصرية معا، وهو اتصال تجاري في أغلبه، ولم يكن جديدا، مرتبطا بمجيء الإسلام، واشتراك أبنائه في الفتوحات العربية المصرية التي عززت هذا الاتصال والتواصل من خلال الفاتحين في الجيش الجديد بقيادة عمرو بن العاص في العام 21هـ، في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي وجه قبيلة همدان ـ المشاركة في جيشه ـ بالمرابطة في الجيزة بعد أن فتحوا الإسكندرية، وذلك لحماية الفسطاط من الجهة الغربية. كما أقام من الجهة الجنوبية الشرقية البكيليون والأرحبيون من اليمنيين، وتفرعت منهم عدة بطون، هاجر بعضها لاحقا، فيما بقي البعض الآخر هناك.
وكان أغلب جيش عمرو بن العاص الذي فتح مصر وجزءا من شمال أفريقيا من اليمنيين من قبائل كهلان وحمير، فمن كهلان قبائل مالك، وعاش منهم بالصعيد بنو المغيرة من الأزد بن مالك، ومن أبرزهم زياد بن المغيرة العتكي الذي شيد جامعا في ديروط، توفي سنة 91هـ.وبنو الحجر، وهي قبائل تنتمي إلى بني مالك بن كهلان، واختطوا أماكنهم بالجيزة، ومن هذه الأسرة برز أبو جعفر الطحاوي رئيس الأحناف في مصر في القرن الرابع الهجري، وسلامة بن عبد الملك الطحاوي الذي قاد ثورة ضد الخليفة العباسي المأمون ومذحج وبنو راشد التي ناصرت الإمام عليا في حروبه مع معاوية، وأيضا قبيلة خولان المعروفة، وارتبعوا الصعيد والمنيا، وبرز منهم من أهل العلم الكثير هناك، وبعض آثارهم شواهدهم القبورية لا تزال ماثلة إلى اليوم؛ حيث وجد شاهد قبر باسم محمد بن خالد الخولاني، المتوفى سنة 208هـ بمدينة أسوان من صعيد مصر، وعائشة بنت عيسى الخولاني، ت: 328. ثم قبيلة مراد، وارتبع أبناؤهم الصعيد والفيوم ومنف، وبرز منهم قيس بن الحارث المرادي المفتي المشهور في زمنه، وفتح أيام عمرو بن العاص إقليما يسمى إلى اليوم قرية القيس، ويذكر المؤرخون أن قبيلة مراد من أوائل القبائل اليمنية التي اختلطت بالمصريين واندمجت معهم.
ومن حمير قبيلة مالك من بطون قضاعة الذين كانوا مع عمرو بن العاص، ومنهم قبيلة “بلي”، والبلويون هم من تولوا قصف حصن بابليون بالمنجنيق، كما أشار إلى ذلك عمرو بن العاص بقوله:
يوم لهمدان ويوم للصدف والمنجنيق في “بِلي” تختلف
وقبيلة “بلي” نسبة إلى بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وقد تفرعت بطون كثيرة من هذه القبيلة الكبيرة، وسكنوا أكثر من مكان. وإلى جانب هؤلاء أيضا قبيلة جهينة القحطانية الكثيرة العدد والتي نزلت الصعيد، ثم تفرقت بعد ذلك إلى الصعيد الأعلى وبلاد النوبة، بل وامتدوا إلى إقليم كردفان ودار فور. والهميسع وحضرموت، ومن الهميسع تفرعت عدة بطون، وعسكروا بالجيزة، ومنهم عرب “جيشان” بالصعيد، القبيلة التي اشتهرت بالعلم، وبرز منهم عبد الأعلى بن سعيد الجيشاني، وأبو غنيم من أئمة القراءات في عصره، وكريب بن مخلد من شعراء مصر. وهذه القبيلة أول قبيلة يمنية ناصرت العباسيين في مصر، وخرجوا على حكم بني أمية. انظر: انظر: دور القبائل العربية في مصر منذ الفتح الإسلامي حتى قيام الدولة الفاطمية، د. ممدوح عبد الرحمن عبد الرحيم الريطي، مكتبة مدبولي، د.ت. 90 فما بعدها.
وبرز الدور الأكبر لليمنيين في فتح الإسكندرية ومطاردة فلول الرومان المتبقية، وبرز في معارك الإسكندرية عمرو بن شريك بن سمي المرادي، وعوف بن مالك الأزدي، وكذا جند المهرة الذين وصفهم عمرو بن العاص بقوله: “أما مهرة فقوم يقتلون ولا يُقتلون، وأما غافق فقوم يقتلون، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلها فارسا”. انظر: فتوح مصر والمغرب، ابن عبد الحكم، تحقيق: عبد المنعم عامر، لجنة البيان العربي، القاهرة، 1961م،112.
وكانت الفرقة المهرية ـ نسبة إلى المهرة ـ من أكثر الفرق عددا وعدة، حيث كانت ألفين وتسعمئة مجاهد، بقيادة تميم بن فرع المهري القضاعي الحميري، أول من اقتحم سور الاسكندرية الحصين بفرقته. انظر: يمانيون حول الرسول، 473/1.
وتذكر المصادر التاريخية أن فاتح مدينة دمياط هو المقداد بن عمرو البهراني الحميري، من أبناء صعدة باليمن، وهو فاتح قلعة الفرماء الحصينة مع القائد اليماني أبرهة بن الصباح، وقد كان المقداد أول فارس من الصحابة في الإسلام. انظر: يمانيون في موكب الرسول 149و 448/1.
ومن خطط قبائل اليمن التي تشير إليها المصادر خطة كل من بلى وأسلم وبني بحر وهم من قبيلة قضاعة الشهيرة. وقد حددت المصادر الأماكن التي اتخذت فيها القبائل اليمنية منازلها، فذكرت أن قبيلة بلى التي كان لها دور ملموس في فتح البلاد أقامت خلف دار خارجة بن حذافة، بينما أقامت قبيلة الصدف ـ وهي بطن من حضرموت ـ بالفسطاط إلى الجنوب من مهرة. واختطت قبائل يحصب والمعافر ورعين والكلاع وسبأ بالفسطاط أيضا، وجميعها من القبائل اليمنية. وتوسعت مهرة وغافق في الأرض الواقعة بين حصن بابليون ونهر النيل، وذلك من الجهة الشمالية الشرقية للحصن. دور اليمنيين السياسي في الأندلس، كارم محمود إسماعيل، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنية، كلية الدراسات العليا، 1991م، 6.
وذكر صاحبُ كتاب فتوح مصر عن ارتباع القبائل وتوزعها في سياق حديثه عن عمرو بن العاص وتوزيع هذا القبائل ما نصه: “وكان إذا جاء وقت الربيع واللبن كتب لكل قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا.. وكانت “هذيل” تأخذ في بنا وبوصير، وكانت “عدوان” تأخذ في بوصير، وقرى “عك” التي يأخذ فيها عظمهم بوصير ومنوف ودسبندس وأتريب، وكانت “بِلى” تأخذ في منف وطرابية، وكانت “فهم” تأخذ في أتريب وعين شمس ومنوف، وكانت “مهرة” تأخذ في تتا وتمي، وكانت “الصدف” تأخذ في الفيوم، وكانت “تجيب” تأخذ في تمي وبسطة ووسيم، وكانت “لخم” تأخذ في الفيوم وطرابية وقربيط، وكانت “جذام” تأخذ في طرابية وقربيط، وكانت “حضرموت” تأخذ في ببا وعين شمس وأتريب، وكانت “مراد” تأخذ في منف والفيوم، ومعهم عبس بن زوف، وكانت “حِمْير” تأخذ في بوصير وقرى أهناس، وكانت “خولان” تأخذ في قرى أهناس والبهنسي والقيس.. وكانت “المعافر” تأخذ في أتريب وسخا ومنوف..”. انظر: فتوح مصر وأخبارها، أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم، تقديم وتحقيق: محمد صبيح، 99.
ومن أبرز الزعماء اليمنيين الذين نزلوا مصر أبرهة بن الصباح الحميري. قال عنه أبو موسى الأشعري: “لو كانت الخلافة تُستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصباح، فإنه من أبناء ملوك اليمن التبابعة الذين ملكوا مشارق الأرض ومغاربها”.
وهو الزعيم الذي فرش له النبي رداءه، وعامله معاملة الملوك، فانطلق ضمن قيادات جيش الفتوحات إلى الشام أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مع القائد اليمني ذي الكلاع الحميري. ثم عاد إلى مصر سنة 19هـ، أو 20هــ على خلاف بين الروايات، مع عدد من أبناء أسرته؛ حيث اختطوا لهم خطة خاصة بالجيزة بعدها بأشهر، مع قبيلة ذي أصبح، وقبيلة همدان اليمنيتين اللتين اتخذ كل منهما خطة خاصة به. وحين قرر الفاتح عمرو بن العاص فتح مدينة “الفرما” أسند قيادة الفتح إلى أبرهة بن الصباح، ومعه الصحابي اليمني المقداد بن عمرو البهراني، وذلك عند فتح مدينة دمياط، وجزيرة “تنيس” في العشر الأوائل لشعبان سنة عشرين للهجرة، ذكر تفاصيل الواقعة كاملة ابن كثير في البداية والنهاية. ولم يدم بقاؤه هناك كثيرا؛ إذ عاد بعدها إلى الشام بين أهله الذين تبقوا هناك، وفيها توفي.

الدور الإيجابي للقبائل اليمنية بمصر
دخلت القبائل اليمنية فاتحة كأغلبية عسكرية في جيش عمرو بن العاص، ولم يقتصر دورها على مجرد الفتح وتأمين المنطقة الإسلامية الجديدة فحسب؛ بل لعبت دورا إيجابيا لاحقا؛ حيث تعاملوا برفق ولين وحسن خلق مع أهل تلك البلاد، وامتزجوا بهم، وتعاملوا معهم، في مختلف مجالات الحياة، كونهم أهل تجربة وخبرات سابقة في مختلف المجالات، خاصة التجارة والزراعة؛ فتوزعوا في مختلف المناطق وبنوا المساكن والدور، وكانوا ضمانة أساسية للدولة الجديدة من هجمات القبائل المحيطة التي كانت تهددها من ناحية الغرب من قبل، وتغير على الصعيد بين الحين والآخر. وكذا من جهة الجنوب؛ حيث كان النوبيون المسيحيون مصدر قلق للدولة الإسلامية الجديدة، والذين لم يتصالحوا مع العرب الجدد بسهولة، وظلت المعارك بين الطرفين حتى وقت متأخر. وكانت فيها الغلبة للقبائل العربية “اليمنية” القادمة من الشرق؛ بل لقد تكفلت قبيلة ربيعة وحلفاؤها عملية التصدي للنوبيين في عهد الدولة الطولونية بقيادة أبي عبدالرحمن العمري، فمزقتهم شرّ مُمزّق. وكانت قبائل يافع على وجه التحديد هناك ترى أنها جاءت إلى مصر حبا في الجهاد في سبيل الله، فكانت مستعدة لأي اشتباك مع أي مُغير عليها.. وأغلب هذه القبائل اليمنية التي اختطت الفسطاط كانت من همدان ويافع وبكيل وذي أصبح والحجر وبني الأزد، وأقامت بالجيزة بعد عبورها النيل إلى الجهة الغربية وعسكرت فيها. انظر: الخطط، المقريزي، 206/1. ومعجم البلدان، ياقوت الحموي، 67/4. وأيضا دور القبائل العربية، سابق. 106.
وحين توجه عمرو بن العاص بعد ذلك لفتح إقليم برقة كان جيشه يتكون من أربعة آلاف يمني من حضرموت وبلى وهمدان ومراد ومهرة وغافق وخولان وتجيب وحمير ومذحج وذي رعين وذي الكلاع والسكاسك والمعافر ولخم وجذام والصدف، وكان رجال هذه القبائل تحت قيادة قادة يمنيين، منهم معاوية بن حديج وشريك بن سمي المرادي وعمرو بن قحزم الخولاني وحيويل بن ناشرة المعافري، ولقوة هذا الجيش “اليمني” ومهابته التي كان قد سمع بها الكثير فقد تمكن عمرو بن العاص من السيطرة على برقة دون مقاومة، وتم الصلح مع أهلها على أساس دفع الجزية البالغة نحو ثلاثة عشر ألف دينار، وكان فتحها سنة 21هـ.
وقبل هذا كان معاوية بن حديج السكوني أحد أبرز القادة الكبار الذين ساهموا في فتح الاسكندرية التي اشتركت فيها الفرقة المهرية اليمنية، بألفين وتسعمئة مجاهد، بقيادة القائد اليمني تميم بن فرْع المهري أول قائد عسكري يقتحم سور الاسكندرية الحصين. وكان ـ معاوية بن حديج ـ ممن زف خبر بشرى الفتح من مصر إلى الخليفة عمر بن الخطاب بالمدينة، وحمل إليه خمس الغنائم، ثم عاد إلى مصر، وساهم في اختطاط الفسطاط، ثم واصل الفتوحات والتعريب أيضا بعد ذلك في البحيرة والدقهلية والصعيد، ثم بلاد النوبة في عهد الخليفة عثمان بن عفان، مع ابن أبي السرح، قال عنه الهمداني: أنه رأس اليمانية في مصر. انظر: فتوح البلدان للبلاذري، 222. ويمانيون حول الرسول، 473. والإكليل للهمداني، 230/2.
وتوالت الفتوحات في أقاليم شمال أفريقيا بعد مصر، سواء بقيادة عمرو بن العاص نفسه، أو بقيادة عبدالله بن سعد بن أبي سرح بعده؛ حيث كانت أغلب حملته العسكرية إلى القيروان من اليمنيين عدا نفر قليلين من قريش كما تذكر المصادر، وكانوا السبب الرئيس للنصر في معركة ذات الصواري عام 34هـ التي تمكن الجيش الإسلامي من تدمير القوة البحرية للروم. انظر: تاريخ المعرب العربي، سعد زغلول عبد الحميد، دار المعارف، القاهرة، 1965م، 119.
يقول ابن الأبار: “إن الحملات نحو افريقيا كان عمادها العنصر اليمني بمختلف قبائله وعشائره، وخصوصا تلك القبائل التي شاركت في فتح مصر واستقرت فيها. أنظر: الحلة السيراء، ابن الأبّار، 323/2.
“وعبرت مجموعة عربية أخرى سنة 73هـ من قبائل عرب حضرموت، واشتغلوا بالتعدين في أرض “البجة”، “نسبة إلى البُجاة الذين كانوا يسكنون شرق الصعيد الأعلى، والبجة كلمة فرعونية قديمة تعني المُحارب”. وأطلق عليهم الحضارمة أو الحدارية”. وظلت القبائل العربية اليمنية هناك هي الحامية والمدافعة عن مصر إلى القرن الرابع الهجري. وتذكر المصادر التاريخية أن معاوية بن أبي سفيان كان يفضل الحضرميين والأزديين لتولي الأعمال، لأنهم أهل أمانة. انظر: فتوح مصر والمغرب، سابق، 171.
وخلال هذه الفترى تشكل أول أسطول بحري للعرب المسلمين بقيادة عبدالله بن قيس الحارثي اليماني، قائد الأسطول وأمير البحر أيام عمر بن الخطاب، فتوقف اثناء فتنة عثمان ثم علي، وأعيد بناؤه وتأهيله من جديد أيام معاوية بن أبي سفيان سنة 46هـ، على يد القائد اليمني عقبة بن عامر الجهني الذي غزا بهذا الأسطول جزيرة رودس باليونان، سنة 47هـ. كما غزا معاوية بن حديج جزيرة صقلية في البحر الأبيض المتوسط سنة 49هـ.
لقد كان من أبرز الولاة اليمنيين في مصر خلال العهد الأموي:
ــ الصحابي عقبة بن عامر الجهني القضاعي الحميري، والي مصر فيما بين 44ـ 47هـ.
ــ معاوية بن حديج السكوني التجيبي الحضرمي، والي مصر فيما بين 48ـ 51هـ.
ــ قرة بن شريك العبسي المذحجي فيما بين 89ـ 96هـ.
ــ عبدالملك بن رفاعة اللخمي فيما بين 96ـ 99هـ.
ــ شرحبيل الحميري 99ـ 101هـ.
ــ بشر بن صفوان الكلبي 101ـ 102هـ.
ــ حنظلة بن صفوان الكلبي 103ـ 106هـ، ثم مرة ثانية فيما بين: 119ـ 124هـ.
ــ حفص بن الوليد الحضرمي 108ـ 109هـ، ثم مرة ثانية فيما بين: 124ـ 128هـ.
ــ الوليد بن رفاعة اللخمي 109ـ 117هـ.
ــ عبدالرحمن بن خالد الفهمي اللخمي 117ـ 118هـ.
ــ عبدالملك بن مروان اللخمي 132ـ 133هـ.
إلى جانب هذا الدور الإيجابي الذي لعبته القبيلة اليمنية الفاتحة في مصر بعد الفتح الإسلامي ورجالها الأبطال، أيضا لعبت دورا إيجابيا على الصعيد الزراعي والتجاري، ومختلف الحرف الأخرى خلال فترة الخلافة الراشدة والحكم الأموي والعباسي، فشكلت نهضة مجتمعية كبيرة، خاصة بعد أن أسقط الخليفة العباسي المعتصم العطاءات عن هذه القبائل سنة 218هـ، وكانت تعتمد بدرجة رئيسية على ريع الديوان الأموي فالعباسي قبل ذلك، فاتجهت إلى النشاط الزراعي والتجاري، ومن ثم انتعشت هاتان الحرفتان بصورة لم تكن معهودة من قبل. ؛ لاسيما وقد كان للوالي أحمد بن طولون اهتمام كبير في هذا الجانب، فبلغ الخراج في عهده أربعة ملايين دينار، ونهضت حركة التعمير في البلاد، وزاد الإنتاج، وملأ الأسواق العامة في مصر. وهو ذات النهج الذي سار عليه الإخشيديون بعد ذلك. وقد ذكر الاصطخري أن الثمار والنخيل والمزارع تمتد من أسوان إلى الإسكندرية. انظر: انظر: مصر العربية الإسلامية، علي حسني الخربوطلي، الأنجلو المصرية، القاهرة، 1963م، 55. وأيضا: بدائع الزهور في وقائع الدهور، ابن إياس، 37/1. و المسالك والممالك، 40.
“وازدهرت صناعة المنسوجات الصوفية والكتانية في بلدان الصعيد، واشتهرت بها مدن طحا والأشمونيينوالبهنساوإهناس، بالإضافة إلى ذلك اشتغلت القبائل العربية باستخراج المعادن في الصحراء الشرقية في شرقي أسوان، كما اشتهرت بمدينة اخميم صناعة المنسوجات المختلفة، وكانت ذات شهرة عالمية”. انظر: البلدان لليعقوبي، 131، والخطط للمقريزي، 159/1. وانظر: القبائل العربية في صعيد مصر، سابق، 175.
وتذكر المصادر التاريخية أن القبائل العربية الفاتحة ـ وأغلبها من اليمنيين ـ قد استأجرت الضياع والأراضي الزراعية الواسعة من النوبيين وقاموا باستصلاحها وزراعتها، ثم اشتروا كثيرا منها بعد ذلك، ومالوا إلى الدعة والتحضر أكثر من ذي قبل، مخففين من ارتباطهم السياسي والعسكري المباشر بمركز الدولة الإسلامية في دمشق أو بغداد. انظر حالة مصر الاقتصادية في عهد الفاطميين، راشد البراوي، النهضة، القاهرة، 1948، 236. وأيضا القبائل العربية، سابق، 177.
ولخبرة اليمنيين في التعدين والصناعات الاستخراجية سابقا، فقد نقلوا هذه المهنة معهم إلى هناك، فيذكر أن القبائل العربية كان لها دور في استخراج المعادن في حقول شرق أسوان، مستغلين عبيدهم من السودان الذين اشتغلوا في هذه الحقول. كما كانوا يستخرجون الذهب والتبر من بلاد البجة، وكانوا يقسمونها مع أهلها. انظر: البلدان لليعقوبي، 334. وتاريخ الرسل والملوك 203/9.
على الصعيد الاجتماعي اندمجت القبائل العربية الفاتحة مع المجتمع المصري وحمل بعضهم أسماء الأماكن المصرية التي نزلوها، فانتسبوا إليها، وتبادلوا تعلم المهارات والحرف والخبرات بينهما، فبرز رجال من قبيلة الأزد اليمنية في أكثر من مجال مثل عبدالواحد الطحاوي، والفقيه أبو جعفر الطحاوي، وسلامة بن عبد الملك الطحاوي الأزدي الذي قاد ثورة ضد الخليفة العباسي المأمون. ومن العادة العربية “اليمنية” التي انتقلت معهم إلى هناك عادة التعدد في الزواج، فتزوجوا أكثر من زوجة، ولم تكن هذه العادة من العرف الجاري في مصر آنذاك، لذا تضاعف عدد السكان وزاد تعدادهم سبعة اضعاف خلال نصف قرن على ما كان عليه في البداية. ومن هنا تعمقت الهوية العربية كثيرا، وتداخلت العادات والتقاليد والمناسبات في المأكل والمشرب والأفراح والأتراح، وارتبط العرب بعضهم ببعض في الجزيرة العربية، ولا تزال ظاهرة الكرم الصعيدي المتميز في مصر ظاهرة تميزهم عن غيرهم إلى اليوم.! فقد ذكر المقريزي أن من كان يريد السفر من القاهرة إلى أسوان لا يحتاج في سفره إلى نفقات أو أعباء أثناء الطريق؛ لأن العرب بالصعيد قد أنشأوا دورا للضيافة بالقرى التي سكنوها، وخصصت هذه الدور لمن مر بها من أهالي البلاد البعيدة، وكانت دور الضيافة معدة للراحة والنوم والمأكل والمشرب للضيوف، وفيها العاملون عليها لراحة الضيوف الغرباء وعابري السبيل. الخطط المقريزي، 190/1. وأيضا القبائل العربية ص 37.
أما على الصعيد الثقافي فيكفي التحول الروحي والوجداني من قبل المصريين بالإسلام ثقافة ولغة وتشريعا، تاركين اللغة القبطية وثقافة الرومان التي جثمت سبعة قرون على المصريين، فبرز العديد من الشعراء والأدباء والفقهاء الذين شكلوا النواة الأولى للثقافة الإسلامية العربية الجديدة، ويعود الفضل بعد الله في ذلك إلى أحمد بن طولون الذي اهتم بهذا الجانب اهتماما بالغا ومن بعده الأخشيديون، ومن هنا ارتبطت مصر ارتباطا جذريا بالعروبة والإسلام، ومثلت مدينة الفسطاط أشبه ما يكون بالعاصمة الثقافية والعلمية، كما مثل الأزهر أيضا جامعة إسلامية وعربية مفتوحة لكل الوافدين بعد ذلك، ولا يزال إلى اليوم.
وخلال العصر الأموي والعباسي الأول انتشرت المذاهب الفقهية، وحركة التصوف والشعر ومجالس الأدب، تأثرا بما كان عليه الحال في دمشق وبغداد والمدينة، وصارت الفسطاط والقاهرة من المدن المصرية تنافسها؛ وربما تفوقت عليها لاحقا في بعض الجوانب. وبرز فيها المئات في مختلف المجالات من فقه وحديث ولغة وتصوف ورواية. وكم من هذه الأسماء التي تنتهي عادة بلقب الأسواني أو الصعيدي أو الجيزي، وهي الألقاب التي اتخذها أكثر العرب بعد اندماجهم وحلولهم بأسوان.ومن العجيب أن اللغة العربية صارت لغة القبط المسيحيين واليهود يومها والمسلمين على حد سواء، ولا تزال كذلك إلى اليوم.
ومن أشهر الشخصيات اليمنية في مصر، سواء التي دخلت مع الفتح أو التي لحقت بعد ذلك، أو ولدت هناك: عبدالرحمن بن ملجم المرادي، والتابعي عبد الرحمن بن جبير العامرين، وأبو تميم الجيشاني، وأبو أمية عبيد بن مخيمر المعافري، وهو أول من قرأ القرآن بالمسجد الجامع هناك. وسعيد بن كثير بن مسلمة الأنصاري القحطاني.
ويذكر القلقشندي في صبح الأعشى أن أول من قال بمذهب أبي حنيفة بمصر هو أبو الفضل اسماعيل بن اليسع الكندي، وكان أهل مصر قبله لم يعرفوا مذهب أبي حنيفة ولم يألفوه. انظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، 418/1.

تعليقات الفيس بوك
Exit mobile version