د. ثابت الأحمدي
يصعبُ الجزمُ بتحديدِ الزمنِ الأول لبدء الكتابة وتاريخ القلم، لا لدى اليمني القديم فحسب؛ بل لدى الإنسان الأول بشكل عام، في مختلف الحضارات القديمة، وإن كان القلم لم يرتبط بالكتابة إلا لاحقا بعد النحت والتصوير والنقش، وكلُّ ما قيل عن البدايات الأولى للكتابة والقلم لا يعدو أن يكونَ من باب التقريب أو غلبة الظن، أو بناء على المقارنات والتحليلات لا أكثر. أي أن الكتابة بدأت تصويرية، ثم نقشية، ثم حرفية بالقلم، وأن الخط جزء من الكتابة.
ويُرجع بعضُ المؤرخين الأوائل الكتابةَ إلى “آدم” عليه السلام، فهو أول من وضع الخطوط عندهم. وآخرون ينسبون القلم والكتابة إلى نبي الله إدريس عليه السلام. كما يرى آخرون أن أول من اخترع الخط وألّف حروفه ستة أشخاص من “طسم” كانوا نزولا عند عدنان بن أُدد، وكانت أسماؤهم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت. فوضعوا الكتابة والخط على أسمائهم، فلما وجدوا في الألفاظ حروفا ليست في أسمائهم ألحقوها بها، وسموها الروادف، وهي: الثاء المثلثة والخاء والذال والظاء والغين والضاد، المعجمات على حسب ما يلحق من حروف الجُمَّل. انظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 13/3.
ولدى كل الأمم ـ تقريبا ـ كانت المخربشات فالنحت والتصوير على الخزف والطين، وعلى الأحجار بصورتها البدائية، ثم تطورت لاحقة إلى رموز منتظمة، لها مدلولاتها ورمزيتها الخاصة، إلا أن ما نستطع استخلاصه في هذا الشأن هو القول أنه لما كانت الحضارة اليمنية القديمة أولى حضارات الإنسانية قاطبة، فإن من الطبيعي أن يكون القلم اليمنيُّ أولَ ما رقم وكتب على هذه الأرض. هذا وفقا للشواهد والأدلة التي بين أيدينا وسنستعرضها تباعا بالتفصيل.
الكتابة في اليمن
الكتابة في اليمن القديم كغيرها في بلدان الحضارات القديمة، لا يستطيع باحثٌ الجزم نهائيًا بزمنٍ محددٍ على وجه الدقة، ولكننا نستطيع القول أنّ الكتابة ارتبطت بنشوء الدولة في صورتها الأولية، وبالتمدن، وبالحضارة، ولا يمكن ــ بأي حال من الأحوال ــ أن تقوم دولة، ناهيك عن مدنية، أو حضارة ما بلا كتابة، لا في اليمن، ولا في غير اليمن، وحضارة اليمن ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، اختلف المؤرخون في تحديد زمنها الأول.
ولا شك أنه قبل الكتابة بالقلم كانت المخربشات، وكان التصوير، وكانت النقوش أيضا، كما ذكرنا آنفًا، وجميعها دوّنت الأحداثَ الكبرى على الأقل في حياة هذه الدول والحضارات، كما دوّن بعضُها أنشطة اجتماعية، وبعضها أنشطة أخرى فردية، قام بها أفراد أو أشخاص.
ووفقا لما ذكره الباحث في شؤون الخط ونشأته محمد طاهر بن عبدالقادر الكردي المكي نستطيع القول أن الكتابة في اليمن تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد، الزمن الذي عاش فيه نبي الله إدريس عليه السلام، على وجه التقريب، والذي يرى أن أصل الخط هو الخط المسند المرتبط بنبي الله هود عليه السلام؛ حيث يقول: “الخط المسند هو أصل الخط العربي؛ لأن نبي الله إدريس عليه السلام أُرسل إلى قومه عاد، وكان مسكنهم الأحقاف باليمن، وهم من العرب البائدة”. تاريخ الخط العربي وآدابه، محمد طاهر بن عبدالقادر الكردي المكي، مكتبة الهلال، القاهرة، ط:1، 1939م، 41.
مضيفا: “.. أن بعض علماء الأفرنج يذهبون إلى ما ذهب إليه مؤرخو العرب، منهم المستشرق مورينز الألماني، فإنه يقول: إن اليمانيين هم الذين اخترعوا الكتابة، وليس الفينيقيين هم الذين اخترعوها، كما هو الرأي المشهور، ويستدل على هذا بقوله: إن الفينيقيين إنما بنوا كتابتهم على الكتابة العربية اليمانية، ثم إن اليونانيين أخذوا الكتابة عن الفينيقيين، وعنهم أخذ الرومانيون، فالعربُ هم الذين أوجدوا الكتابة في العالم..”. نفسه، 41.
ويرى بعض الباحثين أن الكتابة الأبجدية في جنوب شبه الجزيرة العربية قد ظهرت في زمن ما يتراوح بين القرن الثاني عشر والعاشر قبل الميلاد. وظهورها في هذا الوقت يوحي بوجود استقرار سياسي، وسلطة لا تقل عن سلطة مملكة أو ممالك، أو على الأقل ممالك مدن، لكي تتهيأ كل الظروف لظهور هذا الابتكار غير العادي الذي أدخل المنطقة عصرا جديدا. التجارة وأثرها في تطور ممالك اليمن القديمة، هشام عبدالعزيز ناشر، أطروحة دكتوراه، جامعة عدن، 2009م، 66.
وهذا ما يقرره المستشرق الألماني فرتز هومل 1854 – 1936م، والذي يقول أن الخط المسند هو الأصل الذي منه اشتق الخط الكنعاني، ودليله على ذلك أن نماذج من الكتابات المعينية التي وصلت إلينا أقدم من النماذج الكنعانية. انظر تاريخ اللغات السامية، الدكتور إسرائيل ولفنسون، مطبعة الاعتماد، مصر، 1929م، 243.
وتعزو دراسة حديثة في جامعة مدينة نيويورك، كلية “بروك” للباحث: سعدالدين أبو الحَب أصلية خط المسند على خط الجزم/ العربي، وذلك بقوله: بعد دراسة النقوش العربية لفترة ما قبل الإسلام، أو لمرحلة العقود الأولى للإسلام لا يمكنُ إنكار أن الجزمَ مستمدٌ أساسًا من المسند، فحروف: الراء، الواء، العين والهاء في المسند كانت قد استخدمت بدون تحوير في الجزم حتى العقود الأولى للإسلام، وبعد تفحص أشكال حروفِ المسند بجميع أنماطه، بما في ذلك الموصولة يستطيع المرء بسهولة ملاحظة خصائصها المظهرية المشتركة مع أشكال الجزم والخط الكوفي، فحروف الألف، الشين، العين، الهاء، الجيم، الفاء، القاف، الذال الزاي، الكاف والنون، يمكن إرجاعها جميعًا للمسند. جذور الكتابة العربية الحديثة من المسند إلى الجزم، سعدالدين أبو الحَب. 27. نسخة إلكترونية متوفرة على النت، على الرابط: file:///C:/Users/windows%2010/Downloads/28309794.pdf
ويؤكد هذه الآراء ما ذهب إليه الدكتور جواد علي في موسوعته التاريخية: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. يقول: والمسند من الأقلام العتيقة، وهو أعتق من القلم النبطي المتأخر، وهو أقدم الأقلام التي عُرفت في جزيرة العرب حتى الآن، وقد استعمله العرب في خارج بلادهم أيضا؛ لأنه قلمهم الوطني الذي كانوا به يكتبون، فعُثر في موضع “قصر البنات” على طريق “قنا” المصرية، على كتابات بهذا القلم، كما عُثر على كتابة بهذا القلم كذلك بالجيزة، كُتبت في السنة الثانية والعشرين من حكم بطليموس بن بطليموس، وهي ليست بعد سنة 261 قبل الميلاد بأي حال من الأحوال، وعُثر على كتابات بالمسند في جزيرة “ديلوس” من جزر اليونان. انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، 202/8.
ووردت كلمة “كتب” في التاريخ اليمني، في الشعر المنسوب إلى الملك أسعد تبع بن ملكي كرب “التبع الأول” كما ذكر نشوان بن سعيد الحميري؛ حيث يقول:
قد كتبنا مساندا في ظفار وكتبنا أيامنا في الزبور
كما يقول أحد أبنائه من بعده:
كتبنا في ظفار زبور مجد سيقرؤه قروم القريتين
ويذكر المؤرخ الفرح أن ثمة نوعين من الكتابة خلال تلك المرحلة، الكتابة المسندية، والكتابة الزبرية. فكانت المسندية نقشية، وكانت الزبرية مسمارية، وهي ألواح طينية من اللبن يتم وضعها على النار، ثم تزبر الكتابة عليها بعلامات وحروف تشبه المسامير. وقد وُجدت هذه الألواح الزبرية المسمارية بعد الإسلام. وذكر الهمداني أن شيخه أبا نصر اليهري كان يقرأ زبر حمير ومساندها الدهرية. وفي الشعر الجاهلي إشارة إلى هذه الزبر، في قول ابن دريد الأزدي:
وزبر حمير أخبارها في عبب ذابل
أي أنها مطمورة مندرسة..
“ومما يؤيدُ هذا القول من أنّ الخط المسند أو الحروف الحميرية أول حروف هجائية عرفت هو ما ذهب إليه الأستاذ رزوق عيسى؛ حيث قال: لنرجع إلى تلك الحضارة القديمة، ولنعِد النظر في اكتشاف الكتابة المعينية التي تدل على وجود حروف هجائية أقدم عهدًا من الحروف الفينيقية التي اشتهرت في العالم القديم بأنها الحروف الأولى التي استنبطت لغاية تدوين الأفكار وصيانتها من الاندثار والطموس.. ولا شك في أن اللغة المعينية وحروفها أقدم عهدًا بكثير من سائر لغات الساميين وكتاباتهم..”. تاريخ حضارة اليمن القديم، زيد بن علي عنان، دار المطبعة السلفية، ط:1، 1396هـ. 74. و رزّوق بن عيسى بن زكريا البغدادي، الموصلي:1881-1939م، باحث وكاتب عراقي.
ويذكر المستشرق النمساوي “جلازر” أن الكتابة المعينية ترجع إلى ما قبل تاريخ المسيح بألف سنة، فيما يذهب آخرون إلى أنها أقدم من ذلك. ويرى المستشرق هومل والمستشرق موريتيز أن إيجاد الكتابة بالحروف بعد الكتابة الهيروغليفية كان في اليمن، وأن الفينيقيين أخذوا أحرفهم من الخط السبئي. وأن اليمنيين هم الذين اخترعوا الكتابة، وليس الكنعانيين أو الفينيقيين، وأن اليمانيين أهدوا الكتابة إلى الحيرة، ومن الحيرة عرفها الفينيقيون، وعنهم أخذ الرومانيون وعرب الشمال. نظر: خط الجزم ابن الخط المسند، محمد علي مادون، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط:1، 1989م، ص: 22.
أما المستشرق الأستاذ ألبرت جام ــ وهو من أكبر المهتمين بالنقوش اليمنية القديمة ــ فيرى أن صورة الحرف التي اكتشفها في العبر سنة 1962م هي أقدم ما عُثر عليه من خط المسند، وأن ما عُرف بحروف سيناء الأصل، والتي عُثر عليها في سيناء، ويعتقد أن تاريخها يعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد لا بد وأن تكون قد انتقلت من أرض سبأ، وذلك مع السبئيين الذين يُعتقد أنهم استقروا في شمال غرب الجزيرة العربية إبان تلك الحقب. انظر: أوراق في تاريخ اليمن وآثاره، د. يوسف محمد عبدالله، 200.
وفي هذا يضيف المؤرخ محمد حسين الفرح: فتلك الكتابة والحروف انتقلت من اليمن إلى الشام وسيناء مع بعض القبائل اليمانية السبئية التي استقرت هناك في زمن الرائش الأول وزمن الرائش الثاني باران ذي رياش، وهي حروف المرحلة الثانية، وقد استمر تطويرها في اليمن ــ أرض سبأ ــ وصولا إلى ابتكار كتابة وحروف المسند الأبجدية اليمنية منذ أواسط القرن الثاني عشر ق. م، وهي بذلك اول كتابة أبجدية هجائية، تتسم بالكمال في تاريخ الإنسانية. انظر: الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبا وحمير، محمد حسين الفرح، صنعاء عاصمة الثقافة العربية، 2004م، 228/1.
ويؤيد هذا ما توصل إليه المستشرق “بيستون” في سياق حديثه عن الخط المسند أنه يمثل أثرا باقيا لثقافة فذة، ذات شخصية متميزة وعالية التطور. انظر: تاريخ اليمن القديم، محمد عبدالقادر بافقيه، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985م، 192. وانظرها في: الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبا وحمير، سابق، 228/1.
وبهذا تكون “النظرية السينائية” في نشأة الخط قد سقطت، أو على الأقل قد تراجعت حجتها وضعفت أمام “النظرية المسندية” التي تعززها كل الشواهد والأدلة من قبل الباحثين الأجانب قبل العرب، وقبل اليمنيين.
يقول الدكتور فضل الجثام: فالعربية الجنوبية، ذات الأبجدية المسندية الرائعة كانت المعين الثر الذي استقت منه لا اللغات السامية نظام أبجدياتها فحسب؛ بل لأن معظم أبجديات اللغات الأوروبية اليوم، المنتسبة إلى المجموعة عند علماء الألسنيات الهندوأوروبية، فقد صرح المشتشرق البريطاني عبدالله فيلبي في محاضرة له أمام الجمعية الملكية الجغرافية بلندن، كرسها لعرض نتائج اكتشافاته الأثرية عند منتصف العقد الخامس من القرن الحالي لبعض المناطق الأثرية من حضرموت القديمة. قال ــ في إشارة منه لليمنيين أصحاب الخط المسند ــ: لا أعتقد بأنني أبالغ عندما أذكر بأن هؤلاء الناس ــ بعض قبائل المناطق الجنوبية الشرقية من اليمن ــ الذين شاهدتم صورهم هذه الليلة ينتسبون إلى ذلك الشعب الذي اخترع الأحرف التي تستخدمونها اليوم، والتي ترتكز عليها حضارتكم. انظر: الحضور اليماني في تاريخ الشرق الأدنى سبر في التاريخ القديم، فضل عبدالله الجثام اليافعي، منشورات دار علاء الدين، دمشق، ط:1، 1999م، 23.
ويضيف في كتابه: “مطارحات حميرية في عروبة الثقافة اليونانية” ما نصه: “تكشفُ المطارحاتُ أن اللغة العربية القديمة ليست “الجدة” العليا لما اصطلح عليه باللغات/ اللهجات السامية فحسب؛ ولكنها في ذات الوقت جدة اللغتين: اليونانية واللاتينية، ولغاتٍ أوروبية أخرى”. انظر: مطارحات حميرية في عروبة الثقافة اليونانية، د. فضل الجثام، 3.
يقولُ ابنُ خلدون في المقدمة: “وقد كان الخطُّ العربيُّ بالغًا مبالغَه من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة، لِما بلغت من الحضارة والترف، وهو المسمى بالخط الحميري، وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر، نسباء التبابعة في العصبية، والمجددين لملك العرب بأرض العراق، ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة، لقصور ما بين الدولتين.. ومن الحيرة لُقنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر. ويقال إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية، ويقال حرب بن أمية، وأخذها من أسلم بن سدرة، وهو قولٌ ممكنٌ، وأقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق، لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراق إذا ساروا جميعا والخط والقلم
وهو قول بعيد؛ لأن إيادًا وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة، والخط من الصنائع الحضرية، وإنما معنى قوم الشاعر أنهم أقرب إلى الخط والقلم من غيرهم من العرب، لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها، فالقول بأن أهل الحجاز إنما لُقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال، ورأيت في كتاب التكملة لابن الأبّار عند التعريف بابن فروخ القيرواني الفاسي الأندلسي من أصحاب مالك رضي الله عنه، واسمه عبدالله بن فروخ بن عبدالرحمن بن زياد بن أنعم، عن أبيه قال: قلت لعبدالله بن عباس: يا معشر قريش خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ تجمعون منه ما اجتمع، وتفرقون منه ما افترق، مثل الألف واللام والميم والنون؟ قال: نعم. قلت: وممن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أمية. قلت: وممن أخذه حرب؟ قال: من عبدالله بن جدعان. قلت: وممن أخذه عبدالله بن جدعان؟ قالك من أهل الأنبار. قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن. قلت: وممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من الخلجان بن القسم، كاتب الوحي لهُود النبي، عليه السلام..”. انظر: مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، ضبط وتصحيح ومراجعة: خليل شحادة وسهيل زكا، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 2001م، ص: 524. وأرض النبي هود عليه السلام هي الاحقاف من بلاد حضرموت. ويشير الأعشى في كتابه إلى أن الحروف العربية أنزلت أولا على آدم عليه السلام، ثم على نبي الله هود من بعده. وتعتبر الخطوط: الصفوية والثمودية واللحيانية مشتقة من خط المسند.
ويضيف ابن خلدون: “وكان لحمير كتابة تسمى المسند، حروفها منفصلة، وكانوا يمنعون من تعلمها إلا بإذنهم، ومن حمير تعلمت مضر الكتابة العربية إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها، شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو.. وكانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريبا من كتابتهم لهذا العهد، أو نقول إن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة، لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول..”. نفسه، 526.
ويقول القلقشندي: في السيرة لابن هشام إن أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ، عُلمه في المنام. قال: وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند، سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يسندونه إلى هود عليه السلام..”. انظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، سابق، 13/3.
وفي هذا قال أحد شعراء كندة شعرا يمن على قريش:
فلا تجحدوا نعماء بشر عليكمو فقد كان ميمون النقية أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو من المال ما قد كان شتى مبعثرا
وأتقنتمو ما كان بالمال مهملا وطامنتمو ما كان منه منفرا
فأجريتم الأقلام عودا وبدأة وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا
وراعيتم من مسند القوم حمير وما زبرت في الكتب أقلام حميرا
ويقول الشّاعر أبو ذؤيب الهُذلي:
عرفت الديار كرقم الدواة يزبرها الكاتب الحميري
كما يقول امرؤ القيس:
لمن طللٌ أبصرته فشجاني كخط الزبور في العسيب اليماني
وفي أمالي القالي: قال أبو عبيدة: زَبرتُ الكتاب وذبرته، إذا كتبتُه، وقال الأصمعي: زبرته، كتبته، وذبرته: قرأته قراءة خفيفة. وقال أعرابي حميري: “أنا أعرفُ تزبرتي”، أي كتابتي.. انظر: الأمالي، أبي علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د. ت، 172/2.
وما يؤيد هذا عثور المنقبين بمدينة ريبون في حضرموت على معبد وبداخله مدرسة لإعداد الكتاب والنُّسّاخ والوراقين، وكانت مادة الكتابة تُدرّسُ في هذه المدرسة الملحقة بالمعبد. ولعل طبيعة الحياة هي التي فرضت على المجتمع اليمني الكتابة والقراءة والحساب والفلك والهندسة وغيرها؛ فالتجارة تستدعي معرفة القراءة والكتابة، ومعرفة الحساب، كما تستدعي ايضا معرفة الملاحة البحرية، وصناعة السفن والمراكب، ومعرفة النجوم وأحوال الطقس والمناخ على مر العام. وبناء القصور والمحافد والسدود يستدعي معرفة الهندسة والرياضيات. والزراعة تستدعي معرفة علوم الفلك والنجوم والأنواء والمناخ، وأنواع التربة، ومواسم الأمطار، ومتطلبات كل فصل من الزراعة. والصناعة تستدعي معرفة وخبرة وافيتين بفنون الصناعات الاستخراجية وغير الاستخراجية، وصناعة المنسوجات والمسكوكات، وأيضا صناعة أدوات الحرب، وأدوات الزراعة، وفق مقاييس منضبطة، وكل ذلك لا يتأتى إلا بالقراءة والكتابة والمطالعة، وهذا ما اشتُهرت به اليمنُ قديمًا.
وأشارت النقوشُ اليمنيّة القديمة إلى نظام دراسي رسمي متمثل في المدرسة والمواد التعليمية والمدرسين “أ د ب ن”، والامتحانات، كما كشفت النقوش عن حفلات تخرج للتلاميذ في المدارس والبيوت، وتقدم لهم الجوائز والهدايا. انظر: انظر: الحرف والصناعات في ضوء نقوش المسند الجنوبي، إبراهيم بن ناصر بن إبراهيم البريهي، وكالة الآثار والمتاحف، الرياض، ط:1، 2000م، 65 فما بعدها.
وفي الوقت الذي كانت الكتابة والقراءة في العربية الجنوبية مشتهرة وسائدة، فقد كانت نادرة لدى عرب الشمال، وحين أتى محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ بالرسالة كان عدد من يجيدون الكتابة في مكة والمدينة قليلا، اختلف الرواة والمؤرخون في عددهم؛ لكنهم قليل على أية حال؛ لأن الكتابة والقراءة والتعلم لم تكن من هِمَمِهِم.
وقد ذكر الجاحظُ أن القرشيين لم يكونوا يتواصون إلا بعلم الأخْبَار أو الأنسَاب، وما عداه من الزيادة غير الضرورية، وظلت هذه عادة عندهم حتى بعد الإسلام. يقول: مرَّ رجلٌ من قريش بفتى من وُلْد عتَّاب بن أسيد وهو يقرأ كتاب سيبويه، فقال: أفٍّ لكم! علم المؤدبين وهمَّة المحتاجين.
ولذا فحين سبى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة “بدر” أكثر من سبعين مشركا من مشركي مكة، جعل فدية من يجيد القراءة والكتابة منهم تعليم عشرة من صبيان المدينة، لما للكتابة من أهمية استراتيجية في الفكرة التي يحملها النبي. ومن هناك صارت القراءة والكتابة لدى عرب الشمال حالة طبيعية، وجزءا من تفاصيل حياتهم العامة، ولها أهميتها على مختلف الأصعدة، بعد أن كانت القراءة والكتابة سابقا حالة استثنائية لدى بعض البيوتات فقط. وكانت لفظة “اقرأ” التي نزلت في مكة فاتحة الفواتح بفن القراءة والكتابة لديهم، على العكس من عرب الجنوب المتحضرين الذين كانوا يمارسونها بصورة طبيعية، ويتعاملون بها في محرراتهم ووثائقهم. ومع بداية الإسلام وانتشاره تأسس القلم العربي المعاصر واستوى، على الأقل في صورته الأولية.
وما يشجعنا على القول أن أصل الخط العربي على الأقل يمني سبئي المنشأ هو ما تبقى من هذه الآثار إلى اليوم في الكتابة العربية، رغم الخطأ في القياس اللغوي، فمثلا كلمة “الرحمان” وكلمة “السماوات” السائدتين قديما في الديانة اليمنية كانتا تكتبان هكذا: “الرحمن” و “السموات” ومثلهما في النقوش اليمنية “همدن” بدلا من همدان، و “رئم” بدلا من رئام، وغيرهما؛ لأن قاعدة الخط الحميري كانت تهمل كتابة حرف العلة في وسط الكلمة، رغم نطقها، وذلك اختصارًا إذا أُمن اللبس؛ لأن اللغة في أساسها قائمة على الخفة في الحركة والكتابة والنطق، وحين انتقل الخط إلى شمال الجزيرة العربية وبدأ العرب يمارسونه ظلت القاعدة سارية على ما هي عليه حتى في الرسم القرآني الذي لم يتجاوزه الصحابة، كُتّاب المصحف الشريف؛ علما أن ثمة من يذهب إلى الأبجدية الفينيقية هي أقدم الأبجديات جميعا. إلا أن هذا القول مرجوح ومردود في أكثر من وجه، ولدى أغلبية الباحثين والمحققين.
انظر: الإكليل، أبي محمد الحسن الهمداني، دار الكلمة صنعاء، دار العودة بيروت، د. ط، 122/8. وانظر أيضا: العرب في سوريا قبل الإسلام، رنيه دسو، ترجمة: عبدالحميد الدواخلي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1959م، 80.
أيضا ما ذهب إليه عالم اللغة الكبير ابن جني بالقول: “واعلم أن العربَ قد سمّت هذا الخط المؤلف من هذه الحروف “الجزم”، قال أبو حاتم: إنما سُمّي جزما؛ لأنه جُزم من المسند، أي أُخذ منه. قال: والمسند خط حمير في أيام مُلكهم، وهو في أيديهم إلى اليوم باليمن، ومعنى جُزم، أي قُطع منه ووُلّد عنه، ومنه جزمُ الإعراب، لأنه اقتطاع الحرف عن الحركة، ومد الصوت بها للإعراب”. انظر: سر صناعة الإعراب، أبي الفتح عثمان بن جني، دراسة وتحقيق: د. حسن هنداوي، د. ت، ص: 40.
وفي كتابه تاريخ الكتابة العربية، ناقش الدكتور علي إبراهيم محمد النظريات المطروحة بشأن البداية الأولى للكتابة والخط، وكانت ما أسماها “النظرية الحميرية” واحدة من هذه التداولات المطروحة، وقد كان من أهم مبررات القائلين بأصلية النظرية الحميرية في الكتابة والخط ما يلي:
1ــ التأثير الحضاري لليمن في الأقاليم الشمالية في الجزيرة العربية، مما أدى إلى نقل الكتابة، ويظهر هذا واضحا في كلام ابن خلدون.
2ــ الهجرات العربية من اليمن إلى الشمال.
3ــ العلاقة النسبية بين أصل السبئيين وعرب الشمال، وقيام بعض الدول في شمال الجزيرة العربية على أيدي أبناء اليمن أو جنوب الجزيرة.
4ــ استدلوا أيضا بأن هناك صورا متشابهة بين الخط المسند؛ حيث ذكر ناجي زين الدين أن المشابهة موجودة في أربعة عشر حرفًا من حروف المسند.
5ــ استدلوا بكتابة النقوش الثمودية والصفوية؛ حيث يقولون: إن مَن درسَ هذه النقوش بمعرفة وإمعان وتجرد يدرك أن أصل الأبجدية العربية هو الخط المسند، وأن العلاقة بين الأبجدية العربية والأنباط إنما هو من التأثر بعد النشأة.
6ــ استدل بعضهم بما روي عن ابن عباس، رضي الله عنه، من أن الخط العربي وصل إلى الحجاز من أهل الحيرة والأنبار، ووصل إليهما من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن من كندة، وقد تعلم هذا الطارئ من الخلفجان، كاتب الوحي لهودٍ عليه السلام. انظر: تاريخ الكتابة العربية، د. علي إبراهيم محمد، دار المشرق العربي، الجيزة، ط:1، 2019م، ص: 36. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الباحث لا يعتبر هذه الأدلة المذكورة دليلا قاطعا على صحة النظرية الحميرية بصورة نهائية، واعتبرها كغيرها من النظريات الأخرى المطروحة.
ويقرر عالم التاريخ القديم والآثار الروسي بتروفيسكي في الندوة العالمية للحضارة اليمنية التي انعقدت في عدن سنة 1975م أن الحضارة اليمنية كانت أكثر تطورا من حضارات الجزيرة العربية القديمة، وأن الإنجازات الثقافية والفنية كانت تنتشر مع التجار، واستخدمت القبائل الشمالية الخط الحميري لإنشاء الكتابة اللحيانية والثمودية والصفوية، وقد ساهمت هجرات القبائل اليمنية وتدخل القبائل الشمالية إلى اليمن في توحيد لغة العرب وثقافتهم.. انظر مجلة الحكمة عدد ابريل 1975م، ص: 54. وانظرها في: الادب والثقافة في اليمن عبر العصور، محمد سعيد جرادة، دار الفارابي، بيروت، لجنة نشر الكتاب اليمني، عدن، كانون الأول، 1977م، ص: 11.
ويزيد هذه الحقيقة تأكيدا قول المؤرخ في اللغات السامية الدكتور إسرائيل ولفنسون: “كانت بلاد اليمن مصدر الحضارة العربية قديما، والينبوع الذي ارتوت منه جميع أقاليم العرب، فقد اشتُقت جميع الخطوط العربية القديمة من الخط المسند اليمني، ونزحت بطونٌ يمنية كثيرة إلى الشمال، فأدت إلى حدوث تقلبات سياسية عظيمة، وفوق ذلك كانت اليمن ملتقى تجار العرب الذين جابوا بلاد المعمورة، يحملون إليها الذهب والفضة والخشب والمسك واللاذن”. تاريخ اللغات السامية، سابق، ص: 205. واللادن/ اللاذن، نوع من أنواع الطِّيب.
مضيفا: تُعد بلادُ العرب الجنوبية من أقدم مراكز الحضارة عند الأمم السامية؛ إذ كان موقع بلاد اليمن الجغرافي من أهم الأسباب التي أدت إلى نشوء الحضارة في ربوعها قبل أن يظهر لها أثر في المناطق الشمالية من جزيرة العرب. نفسه، 228/8.
وهو يقرر في موضع آخر أصلية الخط السبئي وتأثيره على الأمم المجاورة بالقول: ويتضح لنا مقدار التأثير الذي أحدثته سبأ ومعين في الأمم المجاورة من كتابات قديمة، كُشفت حديثا في مدينة أور “Ur” بالعراق، وهي من أقدم المدن وأعرقها في الحضارة السامية القديمة. وقد وجدت هذه الكتابة مخطوطة بالقلم السبئي، ويرجع تاريخها إلى القرن السادس والسابع ق م، فوجود كتابات عربية في تلك الناحية النائية منسوبة إلى عصر بالغ من القدم؛ هذا المبلغ من أكبر الأدلة على صحة ما ذهبنا إليه من وجود حضارة سامية في جنوب بلاد العرب منذ زمن بعيد في التاريخ القديم، وقد طُبعت هذه الكتابات التي عُثر عليها وحُلت رموزها في المجلة الأسيوية الإنجليزية، وقد سُمي خط أهل الجنوب من الجزيرة العربية بالخط المسند. نفسه، 241/8.
كما يقرر الدكتور جواد علي أيضا ذات الأصلية، بالقول في سياق حديثه عن الصفوية والثمودية واللحيانية بالقول: وقد لاحظ المستشرقون مشابهة كبيرة بين الأقلام المذكورة، وبين المسند، كما وجدوا هذه المشابهة بين عدد من الأقلام التي استعملت في غير جزيرة العرب والمسند، وتعود تواريخ قسم منها إلى ما قبل الميلاد، ومنها ما يعود تاريخه إلى ما بعد الميلاد. نفسه، 212/8.
ويحسم خلاصة استنتاجاته بالقول: فكل هذه الأبجديات رأسها المسند؛ أما ما فوق المسند فلا نعرف من أمره أي شيء. نفسه، 215/3.
هذا ما توصلنا إليه في موضوعنا هذا، وفق ما هَدتنا إليه المصادرُ والمراجعُ التي بين أيدينا اليوم، وقد تُستجد مع قادم الأيام أدلة أخرى، لا يتطرق إليه الشك، وتزيد هذه النتيجة تأكيدًا، هي من نصيب الباحثين الجُدد في هذا المضمار؛ لأن ساحة النقوش والآثار اليمنية لا تزال بكرا حتى الآن.
لماذا سُمي بالمسند؟
تعني كلمة “مسند” أو “مزند” في العربية الجنوبية الكتابة مطلقا، وقد وردت في مواضع متعددة من الكتابات والنقوش، كما في نص أبرهة: “سطرو ذن مزندن”، وترجمتها: “سطروا هذه الكتابة”. نفسه، 209/8.
وكلمة “مسند” عند كل من: ابن دُريد، وابن الأثير، وابن سيدِه، ونشوان بن سعيد الحميري، وابن خلدون تعني خط حِمير؛ أما ابن رستة فيستخدم صيغة الجمع “مساند” وتعني لديه: أحجارا كبارا، في مواضع عالية، مكتوب عليها بالكتابة الحميرية الأحداث التي كانت مؤرخة”. انظر: د. إبراهيم محمد الصلوي، مساند حميرية في مصادر التراث العربي، مجلة الإكليل، العددان الأول والثاني للسنة الثامنة، 1990م، وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، 1990م، 80.
وللدكتور “إسرائيل ولفنسون” رأي آخر، مخالف لهذا، قد علل ذلك بالقول: ظهور خط المسند اليمني، بتلك الصور التي عليها بكون ذلك من تأثيرات فنون العمارة أساسا على اليمني القديم: “والخط المسند يميل إلى رسم الحروف رسما دقيقا مستقيما على هيئة الأعمدة، فالحروف عندهم على شكل العمارة التي تستند على أعمدة. وعلى العموم فإن لحضارة جنوب بلاد العرب عقلية تنحو نحو الأعمدة في عمارة القصور والمعابد والأسوار والسدود وأبواب المدن. من أجل ذلك يوجد عندهم ميل شديد لإيجاد حروف على هيئة الأعمدة؛ أي أن الحروف كلها عبارة عن خطوط تستند إلى أعمدة، وقد تنبه علماء المسلمين إلى شكل هذه الكتابات، وأطلقوا عليها لفظ المسند؛ لأن حروفها ترسم على هيئة خطوط مستندة إلى أعمدة. تاريخ اللغات السامية، 243.
تأثير المسند في الحبشية والبراهمية والأفريقية
ما من إمبراطورية يمتد وجودها إلى خارج حدودها إلا وتنتقل معها ثقافة هذه الإمبراطورية حيث وصلت، وبحكم الامتداد الحضاري اليمني القديم إلى خارج اليمن فقد امتد معه أيضا خط المسند إلى الحبشة أولا، وفقا لما ذهب إليه الدكتور جواد علي؛ فقد عُثر على كتابات بالقلم الحبشي القديم في منطقة “يحا” الحبشية، وهي تمثل ــ كما يقول ــ أقدم نماذج الكتابات الحبشية، وقلمها هو القلم السبئي القديم، وفي أكسوم، وتعود إلى القرن الرابع للميلاد، وكتابات نصرانية كُتبت باللهجة الجعزية، وتعود إلى القرن الخامس للميلاد، وقد استُعملت في هذه الكتابات الجعزية الأصوات مع الحروف، وبذلك اختلفت عن الأبجديات السامية.. ومع ذلك احتفظت بالأشكال الأصلية للحروف العربية الجنوبية، ولم تبتعد عنها كثيرا، ويمكن إدراك أثر المسند في الكتابة الحبشية المستعملة في الوقت الحاضر دون عناء كبير. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 212/8.
ومن القلم المسند أخذ الأحباش قلمهم الذي يكتبون به، نقله إليهم السبئيون الذين هاجروا إلى الحبشة قبل الميلاد، وأقاموا لهم حكومة هناك، وأثروا في الأحباش، فكان من تأثيرهم فيهم هذا القلم الحبشي. نفسه، 215/8.
وذهب كثير من المستشرقين إلى أثر المسند نفسه، أو بالواسطة في عدد من الأقلام الأخرى، منها كتاباتٌ عُثر عليها في أفريقيا، في إحدى للهجات الكوشية أو النوبية، والخط البربري القديم الذي يعود إلى أيام قياصرة روما، والقلم البراهمي؛ حيث نلاحظ شبها كبيرا بين حروف هذا القلم والمسند، ولا يُستبعد أثر المسند فيه؛ لأن العلاقات بين العربية الجنوبية والهند كانت قديمة جدا. نفسه، 213/8.
وقد اشتق من أبجدية المسند الأبجدية البراهيمية، والأبجدية الهندية العصرية؛ أما الأبجدية الحبشية فكانت نفس أبجدية المسند إلا أن بعض حروفها أصبحت الآن تكتب عند الأثيوبيين بطريقة عكسية، وهي ” ح ل م ر ش” وكانت السطور عندهم تكتب من اليسار إلى اليمين، بتأثير الخط اللاتيني. ويوجد بين أبجدية المسند والأبجدية اليونانية الحديثة تقارب ظاهر، لاسيما في الحروف التالية: “ب ج ش ق ع ل ن و”، ويُعزى هذا التقارب إلى اتصال اليونانيين بالمعينيين، في تاريخ يعود إلى ما قبل القرن العاشر قبل الميلاد بعلاقة التجارة، ولا يبعد أن الفينيقيين هم الذين قلدوا المعينيين في ذلك. تاريخ اليمن الثقافي، 276.
هذا ويُستفادُ من دراسة النقوش التي عُثر عليها في أرجاء متعددة خارج اليمن أنّ ثقافة لغة المسند قد حظيت قديمًا بانتشار واسع، فقد ظهرت نقوش لها في أماكن كثيرة من شبه الجزيرة العربية، وبالأخص في مناطق الجبال والصحراء الشرقية التي تمتد من حضرموت إلى نجران، وفي الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية كالدادان “العلا”، وبعضها يعود بنا إلى الوقت الذي استوطن المعينيون والسبئيون هذه المنطقة، واتخذوا منها مركزا من مراكز مواصلاتهم البرية، ومناخا لقوافل البخور التي كانت تعبر إلى مصر وغزة، تمهيدا لنقلها بحرا إلى بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، كما تدلنا على ذلك النقوش التي عُثر عليها في الفيوم وبير مينيخ بمصر العليا، ثم في ديلوس وكريت في البحر الأبيض المتوسط، وأقدمها يعود إلى ما قبل القرن السابع عشر قبل الميلاد..”. نفسه، 269.
ميزة المسند
للقلم المسند ميزات كبيرة امتاز بها عن الخط العربي، وفقا للدكتور جواد علي، فحروفه منفصلة، وهي بشكل واحد لا يتغير بتغير مكان الحروف من الكلمة، فإذا جاء الحرف في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها كُتب بشكل واحد، وقد جعلت هذه الخاصية لهذا القلم ميزة أخرى هي ميزة الكتابة به من أي جهة شاء الكاتب أن يبدأ بها، فله أن يكتبَ من اليمين إلى اليسار، وله أن يكتب من اليسار إلى اليمين، وله أن يمزج بين الطريقتين، بأن يكتب على الطريقة الحلزونية، من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين.. وله أن يكتب من أعلى إلى أسفل، أو العكس، وهكذا. ثم إن حروفه غير متشابهة؛ لذلك لم يعرف المسند الإعجام، ولو كُتب له أن يكون قلم المسلمين ليسّر لنا اليوم وقتا ومالا في موضوع الطباعة به؛ ولكنه أبطأ في الكتابة نوعًا ما من الخط العربي، لشكل حروفه الضخمة بالنسبة إلى الحروف العربية المختزلة، فالخط العربي يمتاز عليه بهذه الناحية فقط؛ أما موضوع الشكل فالمسندُ غيرُ مشكولٍ؛ بل يُكتب بحروف صامتة فقط. انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 210/8.
يظهر أن المسند كان القلم الرئيسي في جزيرة العرب قبل الإسلام، وأن جزيرة العرب كانت تكتب به قبل المسيح، وأن أقلاما تفرعت منه قبل المسيح لأسباب غير واضحة، وقد تكون لأشكال الحروف التي تتطلب دقة في الرسم علاقة بذلك، فمال الكتاب إلى ابتكار أشكال مرنة لا تحتاج إلى عناية في الرسم، فاستخدموها في الكتابة لسهولتها، فتولدت منه الكتابات المذكورة. نفسه، 213/8.
وبناء على ما سبق، نستطيع القول أنّ الكتابة اليمنية القديمة كانت شائعة بين الخاصة والعامة، ولم تكن حِكرًا على عِليةِ القوم فقط، كما هو الحال مع بقية الأقوام؛ ذلك أن النقوش المسندية متنوعة وشاملة، نجدها في أعالي الجبال في الأرياف، كما نجدها بين بطون الوديان ومتون الصّحارى، نجدُ الراعي دوّن نشاطه، والصيّاد أرخ لحرفته، كما هو الشأن لدى الناسك في المعبد أو القائد العسكري أو المرأة التي دونت طبيعة عيشها وما ذا تأكل أثناء “الوحام”، والفنان والتاجر والمزارع وحتى باني المنزل. كل هؤلاء كتبوا وأرخوا لأنشطتهم، كما يفعل الناس اليوم.
ونختتمُ حديثنا هنا بما أكده الباحثُ العربي السوري المعروف محمد علي مادون بقوله: ” فقد توصلت إلى حقيقة نهائية وحاسمة تقرر انتماء خطنا العربي المعاصر إلى أصوله العربية الجنوبية، فهو متفرعٌ من الخط المسند..”. انظر: خط الجزم ابن الخط المسند، سابق، 91.
خط المسند.. ذائقة جمالية متفردة
من يتأمل في التفاصيلِ والملامح الدقيقة لخط المسند يكتشف ذائقة فنية فريدة واستثنائية لدى الخطاط اليمني الأول، لا نظير لها في خطوط اللغات الأخرى القديمة، خاصة في المراحل المتأخرة؛ حيث تبدو كثير من النصوص وكأنما صُمّمت بأرقى تقنيات التصميم المعاصر، فما من حرف من حروف المسند إلا ويتخذ شكلا هندسيا وجماليا بديعا، وجميعها متراوحة بين الأشكال الهندسية الدائرية أو المنحنية أو المستقيمة أو المربعة أو المستطيلة أو المثلثة.. إلخ.
إنّ كلّ حرفٍ من حروف المسند يحمل في حد ذاته قيمة جمالية مستقلة، من حيث الشكل الخارجي والاستدارة والانحناء والتناظر والتقابل والتوازي وعلاقته المتناسقة بالحرف المجاور، فثمة تناغم في الموسيقى البصرية بين كل حروفه، كما أن لديه المرونة في الحفاظ على هذه الخاصية الجمالية في حالة تعمد الخطاط تطويل حروفه أو قصرها، أو حتى إدخال بعض اللمسات الفنية الجديدة، فإنها تحتفظ بهذا الجمال في الحالتين معا، دون تأثيرٍ عليها في الذائقة البصرية، لا على مستوى الحرف لوحده، ولا على مستوى اللوحة النصية بكاملها، إلى حد أننا أحيانا إلى جانب قراءتنا للنص المسندي، بما يحمله من معانٍ وإشاراتٍ، نبدو وكأننا أمامَ لوحةٍ فنية مدهشة بتلك التفاصيل الجمالية التي قلما نجدها في أي خط آخر.
وثمة ملاحظة مهمة هنا وهي سهولة التعاطي مع الحرف المسندي الرشيق والمستقل بذاته، والذي لا يستدعي اتصاله بالحرف الذي يليه في أي كلمة، فيتغير ــ من ثم ــ شكل الحرف، نظرًا لارتباطه بحرفٍ آخر يستدعي معه حركة مختلفة عن الحركة السابقة، هذه الحركة بذاتها تستدعي جهدا في معرفتها أولا، ثم في تتبع مَوَاطنها، كما أنه خالٍ من تعقيد بعض الأبنية الصرفية واللغوية، نظرًا لعدم حاجته للتشكيل من حركة أو سكون، إلا قليلا فيما يتعلق بحروف العلة التي تسقط من وسط الكلمة، وبعض القواعد اليسيرة المُستثناة.