د. تابت الأحمدي
لنضالات اليمنيين ضد أحفاد الغازي يحيى حسين الرسي طعمٌ خاص في رحلة طويلة تقرر أن حياتنا معهم حربٌ، وحربنا معهم حياة، أما نضال البيضاني فله مزاج آخر، فوق أن تحكي فصوله قصة أو يحتوي معانيه سفر، ففي الوقت الذي تطبعت بعض النفوس مع استعباد الإمامة، بقيت نفسُ البيضاني متخمة بالكبرياء لم تكسرها قوة، أو يذلها طغيانٌ يوما ما.
الصورة تكتنزُ بحشودات المعاني.. تقول كل شيء بلغة الصّمت المهيب.
زاد وزناد.. إزار حميري ورداء سبئي، توارثهما عن أجداده ملوك الزمان والمكان.. قامة مديدة تسير كغمامة غاضبة في يوم ماطر، وفي الحشا يقينٌ ثوري، يجلجل رعودا من بقايا كبرياء الملوك، ألمحُه بين عينيه الغضوبتين. ولسان حاله:
عصبتُ جبيني بنار البُروق وفي كل وادٍ تدفقتُ سيل
صهيلٌ دمي وصليلٌ فمي لأن جدودي سيوفٌ وخيل
يا لمهابة هذا الغضنفر الرئبال، وهو يَغُذُّ الخطى بثقة اليماني؛ إما إلى حياة بعز، أو موتٍ بكرامة، متمثلا قول الحكيم العربي:
متى تملك القلب الذكي وصَارمًا وأنفًا حميًا تجتنبْك المظالمُ
في منثورات النفري: الحصول على الخُبز لا يَتأتى بلا دراهم؛ ومن وحي النضال البيضاني نستلهم القول: إن الحُصول على الحريّة لا يتأتى بلا بندقيّـة.
هذا هو اليماني الشامخ حقًا الذي استطاع الحفاظ على يمانيته. لم تثقله في السّير بطنُه، ولم يَحُلْ بينه وبين جبهة النضال النظارات العاكسة التي تحمي عيون ضباط الديجتال..!
في يده قوت يومه، غير آبه بموائد أدعياء النضال، في صورة بردونية تقرر:
وإذا صَاح جوعُه في الحنايا فرفاتُ المنى بقيّـة زاده
وعلى كتفه بندقية الكفاح غير مكترث بحسابات السّـاسـة على طاولات المفاوضات وخلف الكواليس. يتعامل مع الحقائق كما هي على أرض الواقع. لم يقرأ يوما عن فكرة التطهير الأرسطية، أو غرائز ماكدوجل، أو إشارات ابن سينا، أو شك ديكارت. قرأ وتفقه فقط عن قضيته التاريخية مع الكيان الإمامي الغاصب، فواجهها بلا تنظير، وفي عينيه إيماضات بروق نيسان.
ليس له صفحة على فيس بوك، فيضبط إيقاعات منشوراته، أو حساب على تويتر، فينمق حروف تغريداته. لا يتسول النكز ولا إعجابات القراء، ولو سألته عن “مارك” لرد عليك متسائلا: في أي مترسٍ يحارب هذا؟؟
أحدقُ في الصورة مرارًا، لأستلهم من فوتونات أضوائها أسفارًا من ملاحم النضال المدمّى، وآياتٍ من سور الإباء الباذخ. كفاح ونضال.. قبل أن يكون خطواتٍ عملية على الأرض، كان خطراتٍ جائلة في النفس، فهمْهمَاتٌ في الصدر، فزئيرًا في الميادين. أعيدُ النظر كرتين بحنين “القاعد” فألتمس فيه ذاتي وكينونتي الأزليّـة، غير أني لا أجيدُ حملَ البندقيّـة بتلك الطريقة التي يحملُها.