د. ثابت الأحمدي
يبدو لي هكذا أنني أفهم شيئا ما؛ لكن لو حاولت أن أقوله لهدمت كل شيء، وذات يوم عندما أكون مستعدًا سأرقصه لك”. نيكوس كازانتزاكيس
الرقص طقس فني
يُعدُّ الرقصُ من الفنونِ المشتركة بين الأمم، وهو قديمٌ قدمَ الإنسانية ذاتها، فقد عثر المنقبون على لوحات ومنحوتات كهفيّة، تعود إلى الإنسان الأول، تجسد هذه الصور حركات راقصة في مسارح الحضارات: الهندية والصينية والفرعونية والبابلية والآشورية واليونانية واليمنية القديمة.
إنه جزء من الطبيعة البشرية، ولغة مشتركة موحدة بين كل شعوب المعمورة، مارسته الأمم من قديم الزمن كطقسٍ روحي وفني معا. وقد ابتدأ تلقائيا بالطبيعة الإنسانية بالبحتة، ثم دخلت عليه بعد ذلك إضافات أخرى كالموسيقى والإيقاع والأحذية الخاصة بالرقص والملابس ومؤخرا الأضواء.
الرقص في عمقه الفلسفي حالة تمثّلٌ وتعبير عن الذات، وهو عملية تطهير داخلية وتنفيس عن مكبوتات النفس، ويمثل نفيا للطاقة السلبية المتراكمة، ولهذا يوصي الأطباء النفسانيون مرضاهم بممارسة عدة طقوس فنية من بينها الرقص الذي يعيد إلى ذواتهم بعض التوازن الروحي والنفسي من خلال الحركات المعبرة، كما يقومون هم بمتابعة رقصاتهم لدراستها نفسيا، ومن هنا لم يكن أرسطو مجانبا للحقيقة حين عرف الرقص بأنه عملية تهدف إلى تمثيل شخصية الراقص ومعاناته.
الرقص كطقس روحي
لكون الصوفية جماعة روحية بالمقام الأول، فقد أولت الرقص لديها أهمية كبيرة، وما من صوفي تقريبا إلا وله مع الرقص شأن، وخاصة الصوفية المولوية؛ إذ تتم ممارسة شعيرة الرقص باعتباره فلسفة، وباعتباره فنا، وباعتباره روحا، أو طريقة للوصول إلى عالم الروحانية. إنهم يمارسون هذه الشعيرة من أجل الوصول إلى مرحلة الكمال، عبر تنظيم رقصات جماعية، يلبسون فيها ملابس خاصة بالرقص، بألوان خاصة أيضا، فاللبس الأبيض إشارة إلى الكفن، والقطعة السوداء التي يتمنطق بها إشارة إلى القبر، والقلنسوة على الرأس إشارة إلى شاهد القبر، ويساعدهم هذا كله على اكتمال الحركة الرقصيّة المطلوبة التي تقربهم من الله، لأنهم في حالة مناجاة لله، وفي حالة اتصال روحاني كثيف.
ووفقا للفيلسوف ابن سينا: فإن النفس التي يقيدها الجسد بماديته تحنُّ إلى الكمال الأرفع، إلى عوالم الروح وملكوت السماء، لتتحرر من شهوات البدن بذلك الاضطراب الجسدي الذي يتلاشى الإنسان فيه كجسد ويتضخم كروح، كنوع من الرياضات الروحية والمجاهدات، وصولا إلى مرحلة “التفاني”، إلى حد أن البعض يسقط مغشيا عليه، وقد شعر أنه لم يعد ينتمي إلى من حوله من الناس في ذات المكان، وقد حلقت روحه في ملكوتها الروحي الخاص.
إنهم ــ وفقا لمعتقداتهم ــ يعبدون الله بالموسيقى، ويتقربون إليه بالرقص، ويناجونه بالسماع والضرب، وهذه فنون روحانية تنفي شرور النفس وخَبَث الجسد، وتجعل من الإنسان كائنا متصالحا مع كل مَن حوله، ومن هنا تتحقق عملية “التطهير”، بمعناها الفلسفي الروحي والواسع.
الأفارقة والرقص
“الرقص في أفريقيا هو بداية كل شيء، وما على الكلام سوى اتباع الرقصات؛ ليتحول الحديث إلى أنغام وألحان ورقصات، فالرقص والغناء والأقنعة هي تراث القارة الأفريقية”
الزعيم سنغور
ارتبط الرقص الفني غالبا بالأفراح، عدا عند بعض القبائل الأفريقية فإنهم يشيعون موتاهم بخطوات راقصة، على إيقاع معين ومتجانس، وذلك لفلسفتهم الخاصة التي تقرر أن ميلاد أي إنسان هو بداية حياته، ومع ميلاده يكون الرقص والفرح والابتهاج، وبمقابل ذلك فإن الموت هو نهاية هذه المرحلة التي تستحق أيضا الفرح والابتهاج، وليس البكاء، ثم إن هذه النهاية ــ من وجهة نظرهم ــ هي أيضا بداية لحياة الخير الأبدي، الخير المطلق الذي يستوجب الاحتفاء به من قبل الأحياء.
الرقص بالنسبة للأفارقة هو تعبيرٌ عن المشاعر والأحاسيس، فكما يعبر الكاتب بالمقال، والشاعر بالقصيدة، والموسيقى بالقطعة الموسيقية، والفنان باللوحة التشكيلية يعبر الإفريقي عن مشاعره بالرقص، وربما رآه أقصر الطرق لذلك وأيسرها وأكثرها وضوحا، وعليه نستطيع القول أن النشاط الرقصي هو أيضا “نص رقصي” بالنسبة للأفريقي.
إن الطبيعة الأفريقية الشرسة والطروف الجغرافية القاسية هناك جعلت الإنسان الإفريقي يواجه هذا التحدي بالفن، متصالحا مع كل ما حوله، كعملية رد فعل تلقائي من وحي الطبيعة نفسها، ومن وحي الفكرة القائلة: “يولدُ الشيء، ويولدُ نقيضُه معه”. وهذا ما تقرره نظرية التحدي والاستجابة للمؤرخ الفيلسوف آرنولد توينبي. أي أن عملية الاستجابة لأي ظاهرة ما من الظواهر التاريخية أو الطبيعية أو السياسية هي في عمقها النفسي رد فعل لعملية التحدي نفسها، كإنسان الجبل نفسه الذي تحدى قساوة الجبل فبنى عليه المدرجات، وكإنسان الصين الذي تحدى الطبيعة نفسها بأن أكل كل ما هب ودبّ عليها، لأن من الصعب إشباع تلك الكثافة السكانية المهولة من مصدر واحد بعينه. أي أن حياة الفنان ذاتها هي مصدر فنه ذاته، يبدع من واقع شخصيته كفرد، ومن واقع شخصيته كجماعة؛ إذ تتلاقح المشاعر الفردية مع المشاعر الجماعية، فتكون وحدة نفسية جديدة، هي خليط من الوحدتين معا، الوحدة الفردية، والوحدة الجماعية، وبهذا الأسلوب تكونت الملاحم التاريخية الكبرى كملحمة الإلياذة والأوديسا لهوميروس التي اختزل فيها الفنان روح أمته الجمعية، ومثله فعل بقية الملحميين في كل ملاحمهم الأدبية التاريخية، كالشهنامة الفارسية والمهابهارتا الهندية، وقوسار الصينية، وميم وزين الكردية، وغيرها من الملاحم، أو حتى مثل الرسامين الكبار مثل مايكل أنجلو الذي تحكي أعماله الفنية تاريخ أوروبا كلها، فالفن محاكاة للطبيعة كما يقرر لك من: أفلاطون وأرسطو، وهذا لا يعني ــ بطبيعة الحال ــ ألا حضور نهائيا لشخصية الفنان الداخلية في عمله الفني، فهو حاضر أيضا بشخصيته وبأناه، “ليوناردو دافنشي” أنموذجا.
ولبراعة هذا الفن وتنوعه وثرائه فقد غزا كل بلدان العالم، بما فيها بلدان العالم المتقدم، بلا استثناء، على ثراء بعض هذه البلدان في الفنون، كما هو الشأن في فنون الجزيرة العربية التي أثرت وتأثرت بالفن الأفريقي، نظرًا لعلائق الجغرافيا والتاريخ والحضارات المتداخلة بينهما من قديم الزمن. وكذلك تأثير الفن الأفريقي على الضفة الغربية للمتوسط. وللبروفيسور نزار غانم دراسة مستفيضة عن التفاعل الموسيقي بين افريقيا وجزيرة العرب، يصور فيها دينامية التأثر والتأثير في منظومة الفنون الإنسانية عامة، ومنها الرقص والموسيقى. حيث يستعرض “الصيرورة التاريخية لرقصات شعبية يمنية تدين بأصولها إلى البر الزنجي المُواجه لشبه جزيرة العرب والذي ظل على مدى التاريخ ــ المؤيد بالشواهد المادية التي تقدمها لنا علوم الآثار والعلوم الأخرى المساندة لعلم التاريخ ــ مصدرًا من مصادر التأثير والتأثر الثقافي لعرب شبه الجزيرة؛ لاسيما القاطنين في سواحلها؛ حيث نشطت حركة التجارة وتبادل السلع المختلفة، ونشطت معها التحركات الديمغرافية على شكل هجرة للآخر أو احتلال له، وكان من الطبيعي أن تكون الجسر الذي تمر عبره المؤثراتُ الثقافية، ومنها الفنون التعبيرية الأدائية من موسيقى و رقص و غناء و في الاتجاهين معا..”. ا. هـ.
لهذا، ولما كانت مدينة الشحر من حضرموت ــ وهي مدينة مطلة البحر العربي ــ على قدرٍ عالٍ من الرخاء المادي ورفاهية العيش فقد مثلت في فترة من الفترات ما يشبه اليوم المدن الفنية “بوليفارد فني” ويذكر المؤرخ اليمني بامطرف الشحر كانت تحتوي في القرن السادس عشر الميلادي مرقصا، تُجلب راقصاته من جزيرة “لامو” الكينية، في أفريقيا، ليقدمن عروضا فنية متواصلة لستة أشهر متتالية، ثم ينتقلن بعد ذلك إلى مدينة عدن، أو مدن الحجاز، للمهمة الفنية نفسها، ثم تأتي بعدهن فرقة رقص أخرى من الهند. وقد ذكر هذه القصة أيضا المؤرخ واللغوي اليمني الدكتور فضل الجثام في كتابه “مطارحات حميرية في عروبة الثقافة اليونانية” كما ذكر مدنا أخرى أيضا مشابهة، ومنها “حالمين” في لحج. ولهذا يرى البعض أن رقصة “الحَجَل” الحجازية رقصة حبشية الأصل، كما هو الشأن مع رقصات أخرى موجودة في اليمن وغير اليمن. ومثلها أيضا رقصة “الطنبرة” الخليجية واليمنية، أو رقصة “النوبان” نسبة إلى بلاد النوبة الأفريقية، وفقا لإشارة البروفيسور نزار غانم.
ونختتم حديثنا عنهم هنا بحديث الجاحظ عنهم، يقول: “والناس مجمعون على أنه ليس في الأرضِ أمّةٌ السخاء فيها أعمُّ، وعليها أغلب من الزِّنج وهاتان الخلَّتان لم توجدا قطُّ إلا في كريم، وهم أطبع الخلق على الرقص الموقَّع الموزون، والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون، من غير تأديبٍ ولا تعليم وليس في الأرض أحسن حلوقاً منهم”.
شاطئا المتوسط أعشاش فنية تاريخية
على امتداد الزمن القديم يُعتبر حوض المتوسط شريطا منقسما بين الحضارتين: الشرقية والغربية. وقد تغلبُ ثقافة وفنون هذه الحضارة تارة، كما تغلب حضارة وفنون تلك الحضارة تارة أخرى. وقد شكلت حركة التجارة قديما أحد أكبر عوامل هذا التلاقي بين الضفتين، كما شكلت الغزوات العسكرية ــ وخاصة في العهد الروماني ــ العامل الآخر، إضافة إلى عامل الهجرات؛ لهذا فقد اتخذ عدة أسماء في تاريخه، فسماه الرومان: بحر الروم، وسماه الأتراك: البحر الأبيض، وسماه المصريون القدماء: البحر الأخضر، وسماه اليهود: البحر الكبير، وسماه الألمان: البحر المتوسط، وكل تسمية منها تنطلق من رؤية المُسمّين أنفسهم. وهذا لا يهم هنا.
المهم.. خلال التاريخ الوسيط اشتُهرت ما سُميت بمدن البحار، التي اصطبغت بالصبغة الرومانية الغربية أكثر من الصبغة العربية الشرقية، على ضفة هذا البحر، مثل: انطاكية وقرطاجنة والإسكندرية وبيروت وبيزنطة ومسقط وغيرها من المدن التي كانت عواصم تجارية وسياسية وفنية معا. وفيها تلاقت الفنون الشرقية الغربية وتلاقحت حد التداخل والتماهي، ففي هذه المدن التقى الشرق بالغرب، والغرب بالشرق، وظل هذا التداخل فترة طويلة من الزمن، حتى عصر الحضارة العربية الإسلامية، والذي عمل على نقل بقية الفنون إلى مختلف المناطق خارج الجغرافية العربية، وتحديدا غرب أوروبا وفارس والهند وشرق أفريقيا، فكانت الغلبة الفنية في هذه الفترة تبعًا للغلبة السياسية، خلاف ما كان الأمر عليه سابقا قبل الإسلام، إذ كانت الغلبة فيه غربية.
على تخوم البحر المتوسط، وفي مُدنِ البحار تحديدا، نشأت الفلسفة، وتطورت الموسيقى، وانتشرت الفنون، فكانت مكتبة الإسكندرية في القرون الميلادية الأولى وما بعدها، أضخم مكتبة عالمية، ويُقال أنّ عدد مجلداتها وصلت إلى 700 ألف مجلد في القرن الميلادي السادس.
أما اليوم ومع تزايد حركة الاتصالات والمواصلات وسهولتها فقد تداخل الفن أكثر، ولم يعد يحتاج الوقت والجهد الكبير لانتقاله من بلد إلى بلد كما كان الأمر سابقا، فداخل الولايات المتحدة الأمريكية وهي الإمبراطورية المهيمنة اليوم سياسيا نجد حضورا للفن الأفريقي داخل أكبر هذه الإمبراطورية، بل نجد الفن الأفريقي قد تمازج وتماشج مع الفن الأمريكي ذاته، لأن أمريكا في الواقع مجدبة فنيا إلى حد كبير.
والخلاصة.. إننا في أمس الحاجة اليوم لاستلهام القيم الفنية التي نشأت قديما بين هذه الأعشاش من المدن التاريخية، للخروج بصيغة فنية مشتركة، تعيد الاعتبار للثقافة ولإنسانية الإنسان أيضا، في ظل هذا التوحش الذي يعيشه إنسان اليوم. ليس بين هذه الأعشاش فحسب؛ والمقصود بها مدن البحار القديمة، بل كل مدن العالم، لتكوين رقصة/ رقصات فنية مشتركة، ذات طابع إنساني كوني.