الثالِث عَشر مِن ديسَمبَر المَشؤوم (الذكرى التاسعة)

إبراهيم بِن صالح مِجوَّر.

الثّالِث عشرٌ من ديسمبر المشْؤوم؛ ذَلِك التاريخ الّذي أتذكره جيدًا، رغمٌ عنْ إنَّهُ مرّ على ذِكراه تِسْعة سنوات كامِلَة، ولَكِنَّ لا زلِت أتذكر تَفاصيلهُ؛ بلّ وأدقها، وكأن الحدث -بلْ الفاجعة- بِالأمس القريب؛ وليس البعيد، لِهولها وصدمة حدوثها غير المتوقعة، والّتي حّبست الأنْفاس، وأسقطت الكِبرياء -لأول مرة- وَشَتَّت الأذْهانُ والبال.

بِهذا التاريخ -نفسه- المشْؤوم.. كانت هناك رحلة بحرية -سبق وإنْ خَطَّطنا لها- وعلى وشك بدأنا بها عقب صلاتي العصر جماعة في مسجد الحي، وأنا أوثب بَعض الأشياء الضرورية -قبيل مغادرتنا- إذ بِهاتف يرن؛ يَحمل رسالة ربانية مَوعودة بِوفاة شخصٌ -اللَّعْنة عَليُّ؛ ليس شخصًا- ليس شخصًا عاديًا، بلْ إنه (أبَي الغالي).

المُكالمة الهاتفية -الّتي لا أريد أن تُصادفنا مرةٌ أخرى- لَم تَدوم 59 ثانية، أخبرتنا بأنَّ: “المُحْيي والمُمْيت أخذ أمانتُه؛ وَنَقلها مِن الأرض الدُنيا -الدُنيَّة- إلى دار البقاء في السَماءِ -الآجِلَة- العُليا” فَنَحتسبِه؛ بِرحمة مِنه وغُفران؛ وأن يَجزيه بِالجنة، الّتي تجرى من تِحتها الأنهار المُعدة لِلمُتَّقين، والله بَصير بِالعباد.

قرب وقت مَغيب آخر شروق لِشمس العائلة بِيوم الجمعة -آنذاك- فأذن المغرب وكررت خلفهُ لحد ما قال المؤذن “حي الفلاح” صرخت بِغرفتي بـ”الفلاح قد غادر يا جمال – مؤذن المسجد” ولَكن عُدت لِلصواب؛ وَرَددت خَلفه “الحوقلة” وآمنت بِمعاناها منذُ تِلك الوهلة؛ فالعبد يُعجز عن القيام بأي أمر حِينها، إلّا الإيمان بِقضاء الله وقدره وعدم الاعتراض لِنيل غفرانه ورحمته.

انتهيت من صلاة المغرب والعشاء؛ وغادرت المِنزل، وبدأت أمشِ في المجهول؛ وأتساءل نفسي عشرات الأسئلة، ثُم عُدت مُنتصف الليل؛ وإذ الجُثمان الطاهر يَصل، ثُم… ثم لا تعبير حقيقي أو مجازي يَستطيع ترجمة الموقف، ولَكِن كان ودي أخبره الكثير وأكثر من ذَلك، فأخبرت أخي هل هذا كابوس؟ أجابني “نعم؛ كابوس حقيقي لن يَنتهي، إلّا بِنهايتنا والتحاقنا بِه”.

فَتهاوا إليَ الكَثير من الأقرباء والأصدقاء والزملاء وغرباء آخرين -أصدقاء المرحوم- يُقدمون إلي واجب العزاء والمواساة, كُنت -آنذاك- فاقِدًا لِذهني, فَلا أدري ماذا يَقولوا لي، ولا أستَطيع أن أرد عَليهم مِن قوة الصَدمة وَهول مفاجأتها السيئة، بِفقدان من عَلمني الكثير من الحكمة والأخلاق والقيم، وَتشديده عليّ بِضرورة الاهتمام بِالتعليم، ومُساعدة المُحتاج بِما أستطيع، والسعي إذا أردت تحقيق شيئ، والكَثير من نَصائحه؛ الّتي لن أنساها أبدًا.

وفجأة!.. انتابني شعور بِالسعادة -لِوهلة من الزمن- وهو لأنني تذكرت بأن كُلّ من قَبَلَه، طَهَره، صَلَ عَليه، شَيعه، دَفنه بِيديه الطاهرة، وَعَزَ فيه؛ يَثنون بِه وبِأخلاقهُ وأعمالِهُ العَظيمة، الّتي تَرك فيها بَصمة يُخلدها الزمكان -ولا يزال اسمه مرفوعًا لحد هذا اليوم؛ بِعدد من صحار وأرياف وقُرى محافظة شبوة- فَكان عددهم لَم يُحصى، وحُزنِهم لم يَخون، فَرحلات سَفرهم القريبة والبعيدة وقُدومِهم لِمشاركة واجب العزاء والمواساة لم تُكذب، وتُراب أرض المقبرة يَشهَدُ.

أبي الغالي والحبيب (صالح أحمد مجور) مُت؛ ولَكن لم تَمت في قلوبنا وقلوب الكثير، فبأي كلمات نَرثيك ونبكيك! وهو الصَغير والكَبير، الرِجال والنِساء، الفَقير قبل الغني، الشيوخ والأعيان، المدير ورئيس الجمهورية؛ يُعزّي فيك، فَوداعًا يا نَصير كُلّ مُعْوِز ومُحْتاجٌ، وسَند لِكل مظلوم، كَم صَلحت بِك الأحوال، واِجْتمعت عَلى حُكْمَتِك الرُجّال.

وَداعًا يَـ أبي الحبيب, بِوعدًا مِن إبنك بأن يَخطو خَطواتِك في هَذِه الحياة, ليَحظى بِما حُظيت بِه بَعد رَحيلك، وإن اُسْتُطِعْتُم أخْبار دِيسَمْبر بِشيئ؛ أخبروه بأن لا يأتي أو يُكرر ما قام بِه، فَما زالت الفاجعة تهز أركانها بداخل فؤادي؛ منذٌ يوم الجمعة الموافق الثالث عشر من شهر ديسَمْبَر المشؤوم من لِلسنة -وليس العام- الثالث عشر بعد الألفين ميلادية.

الفاتِحَة لِلمَرْحوم -بِإذن اللهِ- جَزاكُم اللهُ خَيرٍ بِالدُّنيا والآخِرَة.

تعليقات الفيس بوك
Exit mobile version