الإمامة والمال: “لا يؤاخذني الله إلا فيما أبقيت لكم”.!

د. ثابت الأحمدي

يستوحشُ الأئمةُ عبر التاريخ من وصول المال إلى أيدي غيرهم، ولا يريدونه إلا لهم وحاشيتهم فقط، فيسعون للسيطرة عليه بكل الوجوه، وسنستعرض هنا إشارات يسيرة للجنايات المالية التي مارسها الأئمة على الشعب، منذ يحيى حسين الرسي وحتى عبده الحوثي.
حين وصل يحيى حسين الرسي إلى صنعاء صادر كثيرًا من أموال أهلها بالقوة القاهرة، بحجة محاربة خصمه علي بن الفضل، وكذلك فعل من بعده أحمد بن سليمان، والذي رد على من لامَه على فعله بالقول: “والمروي المأثور عن الهَادي إلى الحَق ـ عليه السَّلام ـ أنه طلب أن يأخذَ من أهل صَنعاء ربع أموالهم ليدفع بها شرَّ ابن فضل ويجاهد في سَبيلِ الله.. ولا شك أن هَذا الذي كان يأخذه ـ عليه السَّلام ـ من أهلِ صَنعاء أكثر مما نأخذه أضْعافًا مُضاعفة. وهو ــ عَليه السَّلام ــ قدوتنا فيما نفعله؛ فالطَّاعن علينا هو طَاعن عليه..”.. انظر: سيرة الإمَام أحمد بن سليمان، 303.
ويقول الدكتور علي محمد زيد في كتابه معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره: “.. وكثيرا ما قام الهادي ورجال دولته بقلع الزروع والأعناب وقطع النخيل وتدمير البيوت، وتضمين القرى والقبائل بالمتمردين منها”. انظر معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره، ص: 133.
واسْتولى المطهر بن شرف الدين على أوقاف المدرسَة العَامريَّة برداع وغيرها من المدارس المنصوريَّة والمجاهديَّة وصَادر أملاكها لصالحه الشَّخصي وهِي الموقوفة على المدرسَة من أيام الطاهريين والرسُوليين، الذين أوقفوا الإقطاعيَّات المهولة للصَّالح العَام ولخدمة المرافق التعليميَّة والدينيَّة؛ بل لقد بلغ أنواع الوقف في عهدهم ثمانين نوعا، منها أوقاف للحُمر للعرجاء، وأوقاف للقطط الشَّاردة، ولحمَام الحرم. ولمن أخطأ من العبيد فكسر إناء سَيده. ولما جاء هذا الإمام الغشوم صادر كل شيء لمصالحه الشخصية. فاستولى عليها الأئمة كاملة.
وقد شَهدت الثماني السَّنوات الأخيرة من حكم المتوكل على الله إسماعيل 1079 ـ 1087هـ مجاعةً شديدةً فارتفعت الأسْعارُ، وانتشرت الأمراضُ، وحصل الموتُ الجماعي، ومقابل ذلك زاد الجور والظلم والسَّطو من الإمَامِ وحَاشيته على ممتلكات الناس، بينما كانت خزائن الإمَام ملآى بالحبوب والغلال والنفائس، ولم يُخرج الإمامُ منها شَيئا، وقَدْ تعجب قاضي الإمَامِ الذي دخَل هَذِه المخازنَ عقبَ وفاته من كثرتها والناسُ بهذه الحال. قال المؤرخ يحيى بن الحسين: “.. فعجب يحيى جباري قاضي الإمَام من ذلك، وقال: ما كنتُ أظنُّ أن في خزائنِ الإمَامِ هَذِه الممالك، فما الوجه للمطالب والجور في اليَمَنِ الأسْفَل.. وكانت أهم الموارد المالية التي تصل إلى خزينة الدَّولَةِ هِي عائدات الموانئ، والتي كان أهمُّها في تلك الفترة ميناء المخا، وما كان يفرض فيه من جمارك تؤخذ على السُّفن التجارية والتجارة في الميناء. وكان نصف عائدات المخا لمحمد بن الحسن، ونصفه للإمام المتوكل، وعند وفاة الأول أصبحتْ جميعُ عائداته للإمام”، انظر بهجة الزمن، ص 90 فما بعدها.

قال العلامة المجتهد الشَّيْخ صالح المقبلي، وهو بصدد الحديث عن فترة أئمة عَصره من القاسِميين: “..قالوا قد كانت الكلمةُ للجبر والتشبيه، وهما كفرٌ. فالدَّار دارُ كفرٍ اسْتفتحناها بسُيوفنا، فنصنع ما شِئنا، كخيبرَ ونحوها، حتى روى لي من لا أتهمُه أن رجلا، هو أفضلهم وصَّى عاملَهم أن يتحيَّلَ في الأخذ إلى قدر النصف، كأنها معاملة؛ ولكن على وجه لا يُنفِّر. وكان الوالي على اليَمَنِ الأسْفَل، تعز وإب وجبلة وحيس وسائر تهامة يقول لهم فيما يبلغنا إذا شَكوا الجور: لا يؤاخذني الله إلا فيما أبقيت لكم”!. انظر العلم الشامخ، صالح بن مهدي المقبلي، ص: 270.
وذكر الإمَامُ الشَّوكاني عن الإمَام الناصر محمد بن أحمد بن الحسن، ما نصه: “والحاصلُ أنه ملِكٌ من أكابر الملوك، كان يأخذ المالَ من الرعايا بلا تقدير… فلمَّا قَام أخذَ المالَ من حله وغيرِ حِله، فعظُمتْ دولتُه، وجلّت هيبتُه، وتمكنتْ سَطوتُه، وتكاثرت أجنادُه، وصَار بالملوك أشبَه منه بالخلفاء.. وكان سَفاكا للدماء بمجرد الظنون والشُّكوك”.
وفي عهد الإمام المهدي محمد صاحب المواهب حدث أن قام جنوده بقطع آذان النساء في وصاب وريمة لأجل الأخراص الذهبية والفضية التي عليها. انظر: اليمن في ظل حكم الإمَام المهدي، د. محمد علي دبي الشهاري، ص: 237.
وقَدْ تتالت الأخبار أن بعضًا من أقراطِ الآذنِ، الفضيَّةِ والذهبيَّةِ بِيْعتْ في أسْواقِ صَنعاء على بقايا الآذانِ المقطوعة..!
يَروي المؤرخُ يحيى بن الحسين بن القاسم أنَّ أحمد بن الحسن حين توفي والده كان عمره تسعة عشر عامًا، فاتجَه إلى عمّه الحسين بن القاسم إلى ذمار، طالبًا منه أن يُقطعَه ولاية من الولايات، فعرض عليه عمُّه ولاية “وصاب” من اليَمَنِ الأسْفَل وهِي بِلادٌ خيِّرةٌ ومعطاءة، إلا أنَّ هَذا الشَّاب رفضَها قائلا: “هِي حقيرةٌ لا تقومُ بالحال، ولا يُنتفعُ بها في جميعِ الأعْمال”. انظر: بهجة الزمن في تاريخ اليمن، 134.
فإذا كانت بِلادُ وصاب بكاملها “حقيرة” في نظر هَذا الشَّاب يومذاك “صار إمامًا فيما بعد” فما الذي يكفيْ غيره من الشُّيوخ والشُّبان والأمراء وأتباعِهم؟!
ويروي أيضا أن أخَاه عز الإِسْلام محمد بن الحسين أخبره أنه لما وصَل إلى حضرة الإمَام المتوكل على الله إسماعيل إلى “ضَوران” في أيَّامه الأولى أفاده أنه لا يجدُ غير الخمسين الحرف، ولم يأته من البلاد شيء، وأنه لا يجد الصَّرف؛ أمَّا بعد أن حَكم وملك فقد ثَرى وأثرى! وكان له من المخا لوحدها نصف عائداتها أيام تولية محمد بن الحسن؛ أمَّا بعد وفاته فقد أصبحت كاملة له. ويذكر البعض أن السيد حسن الجرموزي جاء إلى الإمَامِ بمحصول الموسِم يُقال فوق مئة حمل من البز والدَّراهم. وحين دخل أحمد بن الحسن عدن بجيشه أيام الإمَام المتوكل ملَّكه الإمَام إقطاعات كانت للأمير عبد القادر صَاحِب خنفر، وجعل له الربع من المَنَاطِق التي فتحها.! انظر: بهجة الزمن في تاريخ اليمن سابق، 143
لهذا خاطب العلامة ابن الأمير أئمة عصره شعرا في قصيدة مطولة، ومنها:
خراجِيَّةً صَيَّرتمُ الأرضَ كلها وضمنتم العمال شر المعاشر
لذاك الرعايا في البلاد تفرقت وفارقت الأوطان خوف العساكر
وقد رضيت بالعُشْرِ من مالها لها وتسعة أعشار تصير لعاشر
فلم تقنعوا حتى أخذتم جميع ما حوتْه وما قد أحرزت من ذخائر
وقد استعمل بعضُ الأئمة عمالا وقادة جند أحباشا وأيضا من العبيد، وسهلوا لهم كثيرا من النهب والسلب خلال فترة ولايتهم؛ وفي نهايتها كان هؤلاء الأئمة يعمدون إلى “تسمير” دورهم ثم مصادرة ما جمعوه خلال فترات ولايتهم كاملا لصالحهم الشخصي، وذلك لضعف اعتراضهم وضعف شوكتهم، خلافا للأمراء من الأسرة الحاكمة الذين يستعصي مواجهتهم غالبا. كما فعل الإمام المهدي عباس مع الأمير سَعد الذي تم تعيينه عاملا للواء الحديدة، وقَدْ كان عبدًا لدى العامل يحيى العلفي، ثم عَاملا لريمة بعد ذلك، ورغم اشتهاره بالشَّجاعة والسَّخاء إلا أنه اشتُهر أيضًا بالخمرة والإفراط فيها.
والتسمير يعني إغلاق دار أو منزل أو متجر أحد المواطنين أو الولاة من قبل الإمام بالمسامير، بعد إخراج أهله منه، ثم مصادرة ما فيه لصالح الإمام.
وتذكر المراجع التَّارِيْخِيَّةُ المعاصرةُ أن الإمَامَ المهدي عباس كان جشعًا في شِراء الأراضي، حتى انتهى به الأمرُ إلى شِراء الأوقاف من الأمْوال وإخراجِها عن الوقفيَّة العَامَّة إلى الملكيَّة الخاصَّة، إضَافة إلى النقل والمعاوضَة بين أمْلاكه الخاصَّة وأملاك الأوقاف في ضواحي صنعاء، كشعوب والصافية وبئر العزب ومناطق أخرى. ومال الوقف محرمٌ لا يجوز نقله ولا اسْتبداله ولا المعاوضَة فيه، كما أشَار إلى ذلك العلامة ابن الأمير في رسَالَةٍ إلى الإمَام المهدي في ذي الحجَّة 1180هـ، ناصحًا إياه عن ذلك، كما نصحه آخرون، لم يقبل نصيحتَهم؛ بل عاقبهم وسَجنهم وصَادر أموالهم، كما حدث مع أحدِ أقرب رجالاته ووزيره القاضي العلامة يحيى بن صالح السحولي. انظر: البدر الطالع، الإمام الشوكاني، ص: 232/2.
واستملك هذا الإمام بالاستحواذ والاحتيال غيلين شهيرين بصنعاء، وهما الغيل الأسْود وغيل البرمكي، والأخيرُ أحدثه محمد بن خالد البرمكي والي الرشيد على صَنعاء حينها، سنة 183هـ، للأهالي من المال العَام، إلا أن الإمَام المهدي قد استحوذ عليه بإصْلاحه وإعادة اسْتخراجِه، ثم ادعى أن نفقةَ هَذا الاسْتصلاح من حسابه الخاص، وليس من المال العام، وثار بشأنه لغطٌ واسعٌ وجدلٌ كبيرٌ بين الخاصَّة والعامَّة، وعارضَ ذلك بشدة الفقيه علي بن عبدالله العَمْري، المسؤول عن استخراج هذين الغيلين، الأمر الذي جعل الإمَام يدخله السِّجن، ثم يعمد إلى “تسمير” داره ومصادرة أملاكه الخاصَّة، وقَدْ بقي في سِجنه حتى مات سنة 1183هـ. انظر: البدر الطالع للشوكاني، 168/2.

ليس الإمام المهدي من “اسْتأمر” العبيدَ و”استعملهم” فقط؛ بل أئمةٌ آخرونَ منهم الإمَام المنصور علي نجل المهدي عباس أيضا من بعده، فقد كان الأميرُ “مرجان الصنعاني” أميرًا في جيشِ المنصور، وقَدْ عَزله عن منصبِه بعد أن قَام بضربِه في بلاطِه، صبيحةَ يوم عيد الفطر من العَام 1196هـ، ثم أمرَ بحبسه ومصادرة أمْواله، حين عَلم الإمَامُ أن الأميرَ أخْفى عليْه مقدارًا من الأمْوال التي كلفه بِمُصَادرتها على خَازن الحُبوب في جِبلة.
ومن أشهر أمراء الإمَام المنصور من العبيد: الأمير فيروز، والنقيب ريحان، والأمير سرور، والنقيب جوهر، وسعد يحيى، ومحمد ذو الفقار، ومحمد ذرحان، وسعد المنصور، وفرحان الماس، وسندرس، ومحمد وفدالله وغيرهم، وجميع هؤلاء كانوا أمراء يجمعون الأموال من الرعية ثم يؤدونها كاملة إلى الإمام، مكتفين بشرف الوصول إلى المنصب.
وكان الأمير “عنبر” عَاملا للإمام المنصور على ولاية حُبيش، ثم العدين، ومنهما جمعَ أموالا طائلة، فطمعَ الإمَامُ بنصفها، فرفض الأمير عنبر أن يعطيَه منها شيئًا، الأمر الذي أغضبَ الإمَامَ عليْه كثيرًا، فقام بتعزيره أولا؛ حيثُ ربطه إلى نافذة دار الفُتوح، وهو عُريان، ثم أمر بضربه وحبسِه مدة شَهرٍ في مكان تُجمع فيه قاذوراتُ وفضلات حمَّام القصْر. انظر: الأوضاع السياسية الداخلية لليمن، 86.
ولم تقتصرْ تصرفاتُه هَذِه على المُسلِميْن فقط؛ بل ـ أيضًاـ اليهود “الذميين” .. فاتخذ ضدَّهم سِلسلةً من الإجراءات العقابيَّة القاسِية وألزمهم بدفع نصفِ محصولاتهم، ثم صَادر أموالهم كاملة في آخر حياته، وكان اليهود ممسكين بنسبة كبيرة من التجارة كما هو معهود عنهم، ونفس الحال أيضا مارسه ابنه من بعده، كما فعل ذلك قبلهما الإمام المهدي محمد بن المهدي أحمد صاحب المواهب. وفعلها أئمة آخرون بحق اليهود والبانيان “الهنود” فبين كل فترة وأخرى كان الأئمة يهاجمون محلاتهم ثم “يسمرونها” تمهيدا للمصادرة النهائية.
وعاش الأئمَّة ُفي ترفٍ ارسْتقراطي باذخ، عيشةَ الملوك، في الوقت الذي يتضورُ الشَّعبُ جوعًا وفقرًا مدقعًا، تنهشُهم أمراضُ القرونِ الأولى! فهذا الإمَامُ المنصورُ كما ذكر المؤرخون عنه أنه “.. كان يميلُ إلى حَياة الدَّعة والترفِ والاسْترخاء، ابتداء من اهْتمامه بشراءِ الأراضي والبُيوت لبناء الدور والقُصور وتوسِيْعها، إلى تعدُّد زواجِه وحفلات أعْراسِه التي يصرفُ عَليْها المبالغَ الطائلة، وحبه في التنقل بين قُصوره، وإقاماته الطويلة لغرضِ الراحَة والاسْتجمام في بيوتِ أبنائه وأصْدقائه، وتنزُّهاته الكثيرةِ في الوديان والمناطقِ المجاورة لصَنعاء..”. انظر: الأوضاع السياسية الداخلية لليمن، سابق، 50.

ومن ضمن سَادية الإمَامِ يحيى وعنصريتِه أن حاربَ التجارَ من أبناء اليَمَنِ الأسْفَل “الشَّوافع” ـ حسب تعبير الكُتَّاب الأجانب الذي كتبوا عن تاريخ تلك المرحلة ـ واحتكرها على نفسِه وبعض شُركائه، على الرغم من عَراقة هَؤلاء التجار في هَذِه المهنة، لارتباطهم بالموانئ التي تقع في مناطقهم، ولارتباط التجارة أيضًا بالروح السِّلميَّة نفسِها لدى هَذِه البيئة وذاك المُجتَمع الذي يمقت الحروبَ وثقافتها، ويحترم التجارة والعمل. فقد صَادر تجارة هَؤلاء وشاركَ البعضَ الآخر تجارتَهم بلا وجه حق، مُعينا عليهم عُمَّالا من ذويه ومن حَاشِيته، يمارسون ـ بدورهم ـ نهبًا وسَطوا لا يقل وحشية عن نهب وسَطوة الإمَام نفسِه، بصورة مستفزة، فَخلقَ بهذا السُّلوك تذمرًا واسعًا، مجسدًا الطائفيَّة في أبشعِ صُورها وأزرى مَظاهرها. انظر: ثورة 1948م، الميلاد والمسيرة والمؤثرات، مركز الدراسات والبحوث اليمني، “مجموعة باحثين وكتاب” الطبعة الثانية: 2004م. ص: 259.
تقول المؤرخة والكاتبة الروسية إيلينا جولوبوفسكايا، المهتمة بالتاريخ السِّيَاسِي اليَمني: “وقاسَ التُّجار اليمنيون، ـ باستثناء مَجموعة صغيرة، مقربةٍ من الإمَام ـ من الظلم الملكي الإقطاعي الذي أناخ عليهم، وزُوحم متوسِّطو وصغار التجار في أكثر الصَّفقات التجارية المُربحة. كما احتكر الإمَامُ والمحيطون به الفروع المربحة في التجارة الخارجيَّة، مع الاحتفاظ التقليدي الاصْطناعي بأشْكال الأنماط الاقتصاديَّة. إنَّ كلَّ هَذا قلَّص مَجَال نشاط البرجوازية الناشِئة، وكان لغياب الضَّمانات والحريات الشَّخْصِيَّةِ والممتلكات للتجار أن شَدَّد الصُّعوبات، وحال دون نمو التجارة الخارجيَّة، وأدى هَذا إلى أن يتجه كبار التجار إلى أن يضعوا رؤوس أمْوالهم في بنوك الخارج، وإن تسربت رسَاميل في بعض الحالات المحصورة في حدود ضَيقة إلى التراكم الداخلي، مما ضَاعف بشكل أكبر نقص المواد اللازمة لنمو البلد الاقتصَادي؛ إذ إنَّ التجار لم يرسلوا النقود إلى الخارج فقط؛ بل إن أغلبَهم تركوا البلاد، وذهبوا إلى الخارج في هجرات طويلة. وفي المهجر اشتركوا بالنشاط التجاري، ولم يَعدْ منهم إلى الوَطَنِ إلا القليلُ عند الشَّيخُوخة”. انظر: ثورة 26 سبتمبر في اليمن، إيلينا جولوبوفسكايا، دار ابن خلدون، بيروت، ط:1، 1982م، 126.
وقد مَنع الإمَامُ يحيى كلَّ التجار أن يغادروا إلى الخارج، عَدا الشَّيْخ علي يحيى الهمداني لمكانته الخاصَّة من الإمام، وسَمح مؤخرًا بتأسيس شَركة إيطاليَّة؛ لكنه كان أحد كبار المسَاهمين فيها، وذلك بمبلغ خمسمئة ألف ريال، كانت أرباحُها كبيرة. انظر: الطريق إلى الحرية، العزي صالح السنيدار، 73.
أما عن عَملياتِ النَّهب والسَّطو الأخرى التي كان الإمَامُ وعُمَّاله يمارسونَها على الرعيَّة، فلا تقل وحشيَّة وعبثيَّة عن هذه، وقَدْ لخصَها البردوني بقوله: “كان الإمَام يحيى لا ينقطعُ عن قريةٍ أو منطقةٍ إلا مدة قَصيرة، فقد كان مأموروه وجنودُه يمسحونَ البلاد طُولا وعَرضًا، يتحسسُون ما يجري، ويتحصَّلون ثمرة ما ينبتُ وما يتحرك، يأتي المُخمّنُ عند بزوغ الثَّمرة، يليه القبَّاضُ عند حَصادها، يليه الكاشِفُ على القبَّاض، يَليه العَسكريُّ لتحصيلِ البَواقي، يتبعُه عَدَّادُ المواشي، ثم “مثمّر” الخضر والفواكه، فَيدوم اتصالُ الإمَامِ بالشَّعبِ على طِيلة العَام عن طَريْقِ المأمورين والعَساكر، ويزيد اتصَاله أعنف إذا نجمتْ أحداثٌ واحتدمَ شِجار..”. انظر: قضايا يمنية، عبدالله البردوني، ط:5، 96م، 62. وذكر أيضا في اليمن الجمهوري أن الإمَام يحيى كان يبيع عمالة العدين في إب بستمئة ريال، وكان يبيع عمالة كسمة بريمة بخمسمئة ريال. وهاتان المنطقتان من أخصب مناطق اليمن.

ذكر المناضل اللواء يحيى مصلح مهدي أن مقدار الزكاة في رَيْمَة أيام الإمَام أحمد وصل إلى مليون ريال فرانصي “ماريا تريزا” سنويا، وكان فيها ألف وخمسمئة جندي إمامي مقيمون بصفة دائمة لجباية الأموال بالحق وبالباطل. وذكر أيضا قصة معبِّرة تستحق الوقوف عندها، وهِي أن عامل الإمَام يومها شايف زهرة، كان يتعسف النَّاس ويظلمهم ويفرض عليهم من الضرائب والزكوات مبالغ كبيرة هِي فوق الحَق المقرر، وكان كلما أتى إليه النَّاس لمراجعته، يقول: “إلى ذمتي هذي زيدوا” ويشير بيده إلى صفحة عنقه، وبعد فترة أصيب هَذا العامل بسرطان في عنقه! أنظر: شاهد على الحركة الوطنية، يحيى مصلح مهدي، سيرته ونضاله. مركز عبادي للدراسات والنشر، ط:2، 2011م، 64.
وقد ترتَّب على هَذِه السِّيَاسَةِ التي اتبعتْها الإِمَامَةُ بحق المزارعين والفلاحين من أبْناء اليَمَنِ الأسْفَلِ عدةُ نتائج؛ حيثُ أدتْ إلى هجرةِ كثيرٍ من النَّاس فرارًا من الظلم، ومن مُلاحقة عَساكر الأئمَّةِ لهم، مع ما يترتبُ على الهجرة نفسِها أيامها من المخاطر الجمَّة؛ إذ لم تكنْ طُرق الهجرة والاغتراب مؤمَّنة كما هو الشَّأن اليَوم، ولم تكن وسائل النقل أيضًا متوفرة، ولم تكن حُقوق المغترب مكفولة في دول الهجرة، فكان يتعرضُ بعضُهم لبعض التعسف والضَّيم، وإن كان أقلَّ مما يتعرض له في بلده من عَساكر الإمَامَة. ولطالما فُقِد الكثيرُ، وتاه آخرونَ وقضوا نحبَهم في بلدانِ المهجر وقَدْ انقطعوا عن أهْلهم وذويهم، فالهجرةُ يومها ضربُ من المخاطرة بالنفس وتقحُّم الشَّدائد. وقد أشارت إلى هذه الحال قصيدة الشاعر الغنائي الدكتور/ الدكاترة: سعيد الشيباني التي غناها الفنان المرشدي، أواخر خمسينيات القرن الماضي، ومطلعها: يا نجم يا سامر فوق المصلى، وفي آخرها يقول:
هجرتني والقلب غير سالي كل السبب عساكر الحلالي
والحلالي هو حسين الحلالي عامل الإمام أحمد على الحجرية.

تعليقات الفيس بوك
Exit mobile version