علي البكالي*
في البدء يمكننا أن نجزم أن ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر شكلت أهم حدث تاريخي فاصل في حياة الأمة اليمنية على مدى أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ذلك إن الأمة اليمنية كانت طوال تلك الفترة حبيسة أزمان التخلف والانهيار والتراخي الحضاري أو ما يسمى في عرف الأدب بعصر الانحطاط بالمعنى الأدبي وليس الأخلاقي، أي بمعنى التراجع عن الدور الحضاري الذي تسنمته الأمة من قبل لأن الحياة ممتزجة من دورتي الليل والنهار سواء على المستوى اليومي أو على المستوى الحضاري.
ولقد كان انهيار وتراجع أمتنا اليمنية في العصر الوسيط أحد العوامل الرئيسة التي ساعدت العناصر السلالية الكهنوتية القرشية والفارسية بل أغرتها في غزو اليمن والاستيطان فيه وانتزاع سيادة أهله، ومحاولة استعبادهم ونهب ثرواتهم تحت دعوى أنها تمثل الديانة السلالية المسماة كذباً بالآل والبطنين ومذهب العترة، وهي في الحقيقة ليست سوى سياسة احتلال استعبادية استبدادية تلبست – زورا- ثوب الدين في صورة وثنية مجسدة في سلالة كهنوتية تدعي القداسة وتضع نفسها بمنزلة الآلهة.
لقد شكلت عصور الإمامة بثقافتها الكهنوتية ونزعتها السلالية واستبدادها الطائفي وامتداداتها الاستعمارية، أعتى عهود الاحتلال الاستيطاني والتسلط والرجعية والتخلف والتمييز العنصري والجريمة المنظمة، ومارست في حق شعبنا اليمني أشد ألوان التفرقة الطائفية والاستبداد الديني والسياسي، وسياسة التجهيل والفيد وافقار الشعب بالجبايات والحروب الأهلية اللامتناهية والحروب السياسية، حتى أحالت حياة أمتنا فوضى سرمدية تلفها أنهار من الدماء لا تتوقف، وتاريخ أمتنا سواداً وظلاماً دامساً، وأفقها انغلاقاً قاتلاً وتخلفاً مريعاً، شكلت أبشع صورة عرفها التاريخ، لم يشهدها شعب من شعوب العالم سوانا.
وزاد من عناء أمتنا تخادم الإمامة السلالية والاستعمار في العصر الحديث، حيث كان الاستعمار البريطاني يشكل الوجه الأخر للإمامة السلالية الكهنوتية المحتلة، كما شكلت السلالة الإمامية ونظامها اليد اليمنى للمستعمر البريطاني في تدمير وتمزيق اليمن وضرب قواه الحية، ولولا ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر لكانت الأمة اليمنية لا تزال حبيسة القيود والظلام والجهل والتخلف والاستعمار والعبودية.
إن ثورة 26 سبتمبر و14 أكتوبر لم تكن حدثاً عابراً في تاريخ أمتنا اليمنية، أو ظرف سياسي طارئ سوغت له معطيات الزمن واللحظة، بل كانت حصيلة تراكم تاريخي طويل لإرادة التحرر والاستقلال، وثمرة كبرى لنضالات أجيال متلاحقة زادت على 29 ثورة ضد الاحتلال السلالي الكهنوتي، ومحصلة لبطولات متصلة على مدى قرون من الزمن وعقود من التضحيات، عبر سلسلة من الثوار الأحرار الذين جسدوا أنصع صور البطولة، ورسموا أروع صور الخلود والتضحية في سبيل الوطن والثورة والحرية والاستقلال، حتى انبلج فجر سبتمبر وانقشع ظلام الإمامة الكهنوتية البغيضة.
لقد تعرضت أمتنا اليمنية للخديعة والمكر في لحظات سباتها مرات عديدة، فلقد ترجلت عن صهوة المجد منهكة قبيل لحظة الإسلام بعد آلاف السنين الطويلة من الشهود والابداع الحضاري على مستوى الأمم والحضارات القديمة، فغشيها بعد إنهاك نوم عميق، وتراجع حتمي، ولجت منه إلى ليل الحضارة كما يلج الليل في النهار، فصارت تعالج أحلامها في صورة وجدان طاغ تلفه الفردانية والشتات، دون القدرة على بلوغ الوعي بمعاني وشروط البعث المتجدد، فما إن نادى منادي الإسلام والرسالة حتى طارت الأمة اليمنية إليه فرادى وجماعات بدافع انجذاب الوجدان التاريخي، غير أنها لم تكن قادرة على إعادة التأهل بشروط النهضة المتجددة كأمة ذات عصبة ومنعة، وفجأة وبعد أن ابتنت للإسلام امبراطورية لا تغيب عنها الشمس وجدت نفسها على الرصيف جيشاً للقتال وحسب، بينما حصدت نخبة قريش الصاعدة بثوب الأموية والعباسية نتائج تلك الاندفاعة اليمانية، فتكونت منها سلطة مركزية قوية، وفي إطار بحثها عن مسوغ للتخليد الأبدي للسلطة المركزية واحتكار المنافسة السياسية في قريش، اتخذت من دعوى القرشية والسلالية مؤهلات وحيدة لقيادة الإمبراطورية واحتكار سلطتها المركزية، وسارت تفصل أحاديث ومرويات تتسق وطموحها في تأبيد السلطة ودرء المنافسين.
لم يكن ثمة منافس سياسي للنخبة القرشية سوى أمتين هما الفرس واليمن، اختار الفرس لأنفسهم ركوب موجة السلالية العلوية وتلبس المظلمة فأسسوا للتشيع كحزب سياسي معارض للوجهة العربية للدولة، فصار الفرس يشكلون سواد التشيع ووجهته كثقافة وعقيدة مناهضة للعرب تحت أكذوبة الآل والبطنين، بينما لم يجد اليمنيون مجالاً للاندماج بالروح القرشية الأموية ولا العباسية التي ظلت تنظر لهم كمنافس سياسي يتوجب استخدامه للقتال دون تمكينه من السلطة وادواتها.
لم يجد اليمنيون وهم في حالة شتات بعد إجهاد، سوى تعزية أنفسهم بمحبة الرسول (ص)، واستكمال الفتوحات لتبلغ حيث بلغت فتوحات أجدادهم التبابعة الأول قبل الميلاد، أملاً في عودة الروح الحضارية الكلية للعرب التي يشكلون جوهر وجودها التاريخي، واستيطان الأمصار والبلدان التي فتحوها للمرة الثانية كما استوطنوها من قبل في فتوحات أجدادهم ملوك تبع، خاصة وأن سياسة الأمويين والعباسيين في اليمن كانت تعتمد على إقصاء اليمنيين كلياً عن إدارة بلادهم، وقمع أي قيادة وطنية تحاول الظهور وإثبات الذات.
إزاء تلك السياسة القرشية المتبعة تجاه اليمن تكاثفت هجرة اليمنيين إلى الأصقاع، فلما خلت اليمن من عظمائها وقادتها وقوادها وأبطالها وعلمائها، وصارت مجمعاً للبسطاء والعوام والعجزة، تعيش حالة من الفردية والشتات، تقافزت نحوها عناصر الكهنوت السلالي الهاشمي والفارسي حاملة ديناً وثنياً مزيفاً يمزق أوصال الأمة اليمنية، وينتزع إيمانها القويم ويستبدله بخرافة الوثنية السلالية، فصارت اليمن منذ القرن الثالث الهجري مستنقعاً لكل خرافة، ومهبطاً لكل مجرم، ومقصداً لكل طامح، حتى أحلك ليل الأمة اليمنية، وشد الظلام خيوطه، فكانت إلى المقابر والأموات أقرب منها إلى الأحياء والمجتمعات، وكان لا بد من يوم بعث وعود تاريخي للأمة اليمنية، وبعد طول انتظار ومحاولة، كانت ثورة ال 26 من سبتمبر، وال 14 من أكتوبر المجيد.
لهذا فقد جاءت ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين بعث حقيقي للأمة اليمنية من الأجداث، وخروج فعلي للشعب من مقابر الإمامة والاستعمار إلى أنوار الجمهورية، وهما اللتان رسمتا وجه اليمن المعاصر ووحدته الوطنية، غير أن عوامل المكر والخديعة والاختزال والتحوصل الذي استبطنته عناصر السلالة وأدوات الاستعمار حالت دون بلوغ ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر أهدافها القصوى، وبفعل مكرها الخبيث ها نحن بعد ستة عقود من الثورة والتحرر نعود مجدداً لصراعات الإمامة والجمهورية والتشطير والاستعمار من جديد.
لقد حاولت النخب الإمامية الكهنوتية وأدوات الاستعمار هزيمة الثورة والجمهورية في لحظة ميلادها، واستمرت تقاتل الشعب الثائر وتستجلب العالم ضده لؤاد الجمهورية الوليدة طيلة سبع سنوات، فلما أيقنت بالهزيمة، تنكرت فلبست ثوب الجمهورية -زوراً- ثم تحوصلت داخل النظام الجمهوري لتنخر الجمهورية والدولة من داخلها، طمعاً في استعادة الإمامة، وبعد أربعة عقود من التحوصل ظهرت الميليشيا الحوثية امتداد لتلك النخبة الإمامية، وبفعل المكرً والخيانة واستغلال صراعات القوى السياسية استطاعت أن تسقط العاصمة صنعاء في نكبة 21 سبتمبر 2014م، واتخذت من يوم تنصيب الكاهن محمد البدر يوم عيدها الكهنوتي في الانقلاب على الثورة والجمهورية والدولة والسلطة الشرعية، وها نحن نخوض حرباً منذ 8 سنوات مع النخبة السلالية الكهنوتية لاستعادة الدولة والجمهورية.
إننا اليوم على يقين تام أن شعبنا اليمني العظيم أشد إيماناً وتمسكاً بالثورة والجمهورية والديمقراطية والمكتسبات الوطنية من ذي قبل، ذلك أن غدر فلول الإمامة الجدد بالشعب والدولة والجمهورية، أعاد إحياء قيمة الثورة والجمهورية لدى شعبنا اليمني العظيم، فلم تعد ثورة 26 سبتمبر و١٤ أكتوبر المجيد وإعلان الجمهورية مجرد ذكرى وطنية تاريخية، ولا خيارات سياسية، بل مصير محتوم وروح تسري في دماء شعبنا اليمني العظيم، تبعث فيه روح الاطراد الثوري الذي لن يتوقف حتى كنس السلالة الكهنوتية الإمامية وميليشياتها الحوثية الإيرانية عن أرض اليمن الطاهرة.
إن ثورة ٢٦ سبتمبر و14 أكتوبر لا تتوقف عند حدثها الأول وقادتها الأول الذين أنهوا كهنوتية بيت حميد الدين والاستعمار البريطاني وأعلنوا الجمهورية، فأهداف سبتمبر واكتوبر الخالدة لا تزال هي ذاتها مشروع نضالنا الوطني المقدس في هذه المرحلة ودستور ثورة متجددة في كل جيل حتى تخليص الأمة اليمنية من العصابة السلالية الكهنوتية، ولوثاتها الفكرية العنصرية، وإن انقلاب هذه العصابة السلالية وميليشياتها الحوثية الايرانية على الدولة والنظام الجمهوري في يوم النكبة ٢١ سبتمبر ٢٠١٤م ليضع أمام هذا الجيل تحديا كبيرا لمواصلة درب النضال والثورة حتى تحرير الوطن والمجتمع والثقافة من براثن السلالة الكهنوتية المحتلة، وتنظيف أرض اليمن الطاهرة من أوساخ هذه الخرافة وعصبياتها وأفكارها وعنصريتها، فأرض اليمن الطاهرة وشعب اليمن الحضاري لا يتسع لأوساخ الجماعات الطارئة ونفايات الشعوب المتخلفة، وإنه لعهد علينا ووعد وواجب قومي ووطني مقدس على هذا الجيل أن يواصل مسيرة النضال على منهج ٢٦ سبتمبر و14 أكتوبر حتى تحقيق كامل أهدافها غير منقوصة، وتحرير اليمن أرضا وإنسانا وثقافة من براثن السلالة وخرافاتها وأطماع الاستعمار ومخلفاته حتى يصفو للأمة اليمنية وطنها واستقلالها، وتقوم للأمة اليمنية دولتها الجمهورية ونهضتها المنشودة، ويعاد اعتبارها بين الأمم.
*رئيس تيار نهضة اليمن