د. ثابت الأحمدي
اقترنت الرسالات بأشخاص، وإن لم تقم على أكتافهم وحدهم، واقترنت الثورات برموز ثورية ليست وحدها على المسرح الثوري بكل تأكيد؛ لكنها كانت مايسترو هذا المسرح. نسبت إلى سبارتاكوس ثورة العبيد في روما، مع أن سبارتاكوس ليس الثائر الوحيد لكنه صاحب شارة البدء، كذلك الشأن مع غاندي في الهند وروبسبير في فرنسا، وغيرهم كثير.
وعلى المسرح الثقافي والعلمي أقام جاليلو ونيوتن وجون لوك وروسو وفوكو وكارل ماركس وفرويد وانشتاين ثورات ثقافية كبرى في أوروبا لا تزال أصداؤها ماثلة إلى اليوم..
على الصعيد الديني أسس مارتن لوثر كنج وسبينوزا وفي الفكر الإسلامي أيضا ابن رشد وابن تيمية وابن سينا وغيرهم حركاتهم الدينية التي لا تزال فاعلة إلى اليوم.
وفي اليمن كان الزبيري إلى جانب كونه ثائرا وسياسيا ورجل دين كان أيضا مثقفا تنويريا بقصائد الشعر ومقالات الصحف والمجلات وأحاديث الإذاعة وديوانيات المقيل مشعلا يتوهج منذ وعى خطر الإمامة على البلاد. وإلى جانب الزبيري نعمان الأب، والابن، وقبلهم الوريث ورجالات مجلة الحكمة وجميعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجمعية الإصلاح، وغيرهم.
بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر تبازغت أصوات ثقافية كبيرة كالبردوني والمقالح والشحاري وعبدالله حمران وعلي مهدي الشنواح وعبدالله عبدالوهاب نعمان وقاسم غالب وعمر الجاوي وجار الله عمر ومحمد سعيد جرادة، وأحمد قاسم دماج، وعثمان أبو ماهر، هؤلاء وغيرهم شكلوا بمعارفهم الجديدة رافدا فكريا وثقافيا جديدا استقى منه الجيل رؤاه السبتمبرية وثقافته الجمهورية.
وتوالت المسيرة الثقافية متواصلة باتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين “الموحد” ومركز الدراسات والبحوث اليمني برئاسة الدكتور عبدالعزيز المقالح، ثم بعض الإصدارات الثقافية التي ذات الصلة بالنضال والحركة الوطنية مثل كتب البردوني بشكل عام وكتاب علي محمد عبده لمحات من تاريخ حركة الأحرار، وما شكلته كتابات الدكتور حمود العودي وعلي محمد زيد وعبدالباري طاهر وعبدالحبيب سالم وسعيد الجناحي وعلي الصراري وعبدالله سعد ومحمود الصغيري ونصر طه مصطفى، وأشعار علي بن علي صبرة وعبدالله معجب في السبعينيات والثمانينيات على وجه التحديد من إضافة ثقافية للجيل الجديد، وما شكلته نتاجات آخرين أيضا إلى جانبهم، لا تحضرني أسماؤهم الآن.
خلال عقد التسعينيات وعقد الألفية الجديدة ظهرت أقلامٌ كثيرة، كان أبرزها قلمين ثقافيين رائدين بحق وحقيقة، هما: سمير رشاد اليوسفي من خلال الجمهورية الثقافية فالجمهورية بعد ذلك، ثم الأستاذ خالد الرويشان من خلال الهيئة العامة للكتاب فوزارة الثقافة في الالفية الجديدة.
وأستطيع القول أن ما لا يقل عن نصف مثقفي اليمن من جيلنا نحن على الأقل هم من أبناء الجمهورية الثقافية فالجمهورية، ثم صنعاء عاصمة الثقافة العربية وما تبعها من حراك ثقافي واسع لا تزال أصداؤه إلى اليوم. وسبق أن قلت: أن الأستاذ خالد الرويشان سيظل وزيرا للثقافة مئة عام قادمة. صحيح قد تنطوي هذه المقولة على شيء من المبالغة؛ لكنها ستظل كذلك حتى يأتي وزيرٌ بحجمه يغطي ذات النشاط بتلك الروح المتفانية والأهم بتلك الرؤية الثقافية الواسعة، المنتصرة للثقافة نفسها أكثر من انتصارها لحسابات السياسة. فقد أخفق وزراء الثقافة قبل الأستاذ الرويشان وبعده، وجزء من هذا الإخفاق يعود لمناوراتهم بين السياسة والثقافة، أو قل لانتصارهم للسياسة على حساب الثقافة. والحق أن الرويشان كان وزيرا للثقافة قبل أن يكون على رأس وزارة الثقافة، كما ظل وزيرًا لها من ديوانه المفتوح مع مختلف المثقفين بعد أن غادرها وإلى اليوم. وشخصيا كنت من رواد ذلك الديوان الذي استفدت منه كثيرا، ويشكل إلى اليوم جزءا من حنين العودة لأرض الوطن.
الفضاء الثقافي الذي انفتحت أجواؤه مع الأستاذ خالد الرويشان شكل حالة ثقافية استثنائية منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، لأكثر من سبب، من بين ذلك نزاهة الرجل المالية التي ساعدته كثيرًا على النجاح، ولاقترابه أكثر من المثقفين، راعيًا ومشجعا ومتبنيا لقضاياهم وهمومهم بروح المسؤولية وبلا تصنع كما يفعل بعض السياسيين. وحد معرفتي فقد ظل يساعد بعض المثقفين ماديا من راتبه الشخصي بعد مغادرته الوزارة، كما ظل مقيله مفتوحًا أمام الجميع بلا استثناء، غائصا في الشأن الثقافي والأدبي.
وعودة إلى الأستاذ سمير اليوسفي، أقول: شكلت الجمهورية الثقافية التي كان يشرفُ عليها في منتصف التسعينيات فالثقافية في آخرها، ثم الجمهورية بملاحقها اليومية بعد ذلك حالة ثقافية استثنائية جذبت إليها أبدع الأقلام الثقافية والفكرية والأدبية ليس من اليمن فحسب؛ بل من خارج اليمن “الدكتور خالص جلبي أنموذجا”.
كان الأستاذ سمير اليوسفي إعلاميا متميزا ومثقفا استثنائيا يسابق زمنه، نجح إعلاميا كما تميز ثقافيا، رغم القيود التي تُفرض أحيانا على المؤسسات الإعلامية الرسمية، والحق أنه بقدر ما كانت صحيفة الجمهورية مؤسسة إعلامية فقد كانت كذلك مؤسسة ثقافية، زادها حضورا في الوسط الثقافي ذلك الشغب الجميل والهادف الذي كان يميل إليه الأستاذ سمير من خلال الجدل الحاد الذي صحب الجمهورية الثقافية فالثقافية، ثم ملحق الوسطية، فملحق أفكار الذي كان ساحة رحبة لمختلف الأقلام من اليمين واليسار والوسط على حد سواء، مؤمنا بالرأي والرأي الآخر في أروع مشهد من الجدل الثقافي والفكري الذي تناطحت فيه مختلف الأقلام، أعاد إلى أذهاننا المشهد الثقافي في القاهرة خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي الذي قرأنا عنه. وخلال هذه الفترة فقد تعرض لمختلف الاتهامات من قبل بعض رجال الدين المتشددين، والنيل منه تكفيرا وتفسيقا وتبديعا من مختلف منابرهم، ومع هذا فقد صمد بقوة أمام هذه الأعاصير، بعناد السياسي ورزانة المثقف. وشخصيا فقد ابتدأت مسيرتي من الجمهورية الثقافية في العام 1995م، وأنا حينها طالب في الجامعة، فلم يكن يفوتني عددٌ واحد منها، وكنا ننتظر الجمهورية الثقافية كما ننتظر هدية أسبوعية، ولا زلت إلى اليوم أنظر إلى مؤسسة الجمهورية باعتبارها مدرستي الثقافيّة الأولى، وتشرفتُ بالعمل فيها سنوات طويلة إلى جانب عملي الرسمي في التربية والتعليم ووكالة الأنباء اليمنية سبأ ورئاسة الجمهورية، وإذا كتب الله لنا ولها العودة سنعود أيضا تلاميذ في رواقها الكبير.
بشكل عام.. سمير اليوسفي وخالد الرويشان حالة ثقافية شابة متميزة، ساهما في صناعة مشهد ثقافي جمهوري استثنائي، له امتداداته إلى اليوم، وللأسف لم ينالا حقهما من التكريم اللائق بهما، لكن قد ينصفهما المؤرخون فيما بعد.. والأجمل من التكريم الرسمي التكريم الشعبي، وتكريم الجمهور.
خالد، وسمير.. تحية سبتمبرية خالدة تعطر روحيكما الجميلتين، لكما المجد.. ولإبداعكما الخلود.