د. ثابت الأحمدي
سيدي سبتمبر
تحيّة إجـلالٍ وإكبار..
تحية قحطان وسبأ وحِمْير وبلقيس وشمريهرعش. وبعد:
في العام 1969م كتبَ إليك أستاذُ الأساتيذ البردوني رسالةً عصماء، خاطبك فيها وكنتَ آنذاك طفلا ضحوكا بعُمرِ الورود، وأخاطبُك أنا ابنُ اليوم وأنت تدلفُ أبوابَ الستين، وقد علا الشيبُ عارضيْك، بعد أن خدّد الزمانُ مفرق جبينك، وندّبَ الدهرُ صفحةَ خدّك.
إيهٍ يا سبتمبر.. أحسُّ بخُطاي تثّاقلُ وأنا أقتربُ من مدارِ شموسك، وكأني أنتزعُ قدمَيّ من سابعِ أرض.
أحسُّ وَجيبًا في القلب ورجفة في الفؤاد، لم أعهد بهما من قبل، أجدُني اليومَ في ذكراكَ الستينِ أتخطى وئيدًا كراهبٍ يدلفُ معبده مثقلا بآثام الكون، أو كثَمِلٍ في غُرّة الصّيف..!
نعم أنا المذنبُ في حقك يا سبتمبر، ومَن منّا اليومَ ليس أثيمًا بحقك، مُشركًا بك، ويستحق أقصى العقوبات؟!
في أبهاءِ مداراتك يا سبتمبرُ تتجاذبُني فرحةُ الذكرى الستين، وفجأة تهدُّ فرحتي تنهيدةٌ تجترُّني روحًا بئيسة عليها شُحوبُ اليباس.
سبتمبر المعظم.. وقعُ خطاك الهامسةِ تتموسقُ بين وجداننا اليومَ ألحانًا حزينة، قُدّت من “سيمفونية القدر الخامسة” وأنت تطرقُ أبوابَ ربيعك الستين.
سبتمبر.. أتخيلك شيخًا رَبْعة، بهيَّ الطلعة، أسَديَّ البِنية، تشِيمُ نحونا من بعيدٍ وفي عينيك عتابُ الدهور، ترمقُ أحفادَك اليوم ــ وكلنا أحفادك ــ غيرَ راضٍ عنهم، فقد أضاعوا ميراثَ أجدادهم وأمجادَ آبائهم. أتخيلُك قابضًا على لحيتك البيضاء التي يخالطها قليلٌ من السّواد، بعينين حزينتين، تكادان تقطران دمًا لا دمعًا، وأنت ترى حالَ أحفادك اليوم في أصقاع الأرض، ما بين مشردٍ وقتيلٍ وسجينٍ ومنفيٍ، وكأني بك تخاطبُنا جميعًا بما خاطبتْ به عائشةُ ــ أمُّ أبي عبدالله الصّغير ــ ابنَها، آخرَ ملوكِ غرناطة، وقد وقع في أسرِ الفرنجة، نتيجة إهماله وتفريطه بأمجادِ آبائه:
إبكِ مثلَ النِّساءِ ملُكًا مُضَاعًا
لم تحافظ عليه مثلَ الرِّجالِ
سبتمبر.. بأيِّ وجهٍ نلقاك اليوم؟ وهل تستطيعُ أنظارُنا أن ترتفعَ إلى أخمُصِ قدميك في ذكراك الستين؟ يا للمهانة..!
لقد خيبنا ظنك فينا يا أبانا يومَ حدستَ فينا أننا أنجحُ الرّهانات.. لقد خُنّاكَ حين اعتقدتَ أننا أفضلُ المؤتمنين. خِلتنا “هارون” موسى، فكنا إخوةَ يوسف..! هذا ما نحسُّه من وقع نظراتك اليومَ علينا، وما أنفذَ نظراتِك الثاقبة إلينا اليوم؟! لكن ثق يا أبانا أنه إن وُجد بيننا أحدٌ من إخوة يوسف، فإن فينا صِدّيقَ محمدٍ وفاروقَه. وثق إن غشيتْنا عتمةٌ أشرقت بعدها شُموس، وإن داهمتنا ظلمةٌ تجلت بعدها أقمار، وشمسُك يا سبتمبرُ إن احتجبت هُنيهةً من الوقتِ فإنها عائدةٌ أبدَ الدهر.
يا سيدي أنت اكتمالُ المُنى
وأنت معنى المجدِ فوق الثرى
كم عاشَ هذا الشعبُ ليلَ العَمى
وحينما صافحتَه أبصرا
إن لم نقل لبيكَ يا سيدي
فلن يطولَ العمرُ حتى نرى..
سبتمبر.. لستَ حدثًا مضَى وانقضَى؛ بل ذاتًا تسكنُ أرواحَنا، وضميرًا يستوطنُ وجداننا، وعقيدةً راسخة بين جنباتنا. تاريخًا يتجدد، وهُوُيّة تتجسد.
بسملةَ قلب.. تراتيلَ فؤاد.. سبحاتِ روح، قلبَ نبي، وغيمةَ حبٍ تنداح غيماتٍ بلا حدود.
ﺳﺒﺘﻤﺒﺮَ ﺍﻟﻤﺠﺪ ﻫﻞ ﺭﺍﻗﺘﻚ ﺩﻧﻴﺎﻧﺎ
ﻭﻗﺪ ﺗﻠﻘﺘﻚ ﻧﺎﻣﻮﺳًﺎ ﻭﺭُﺑّﺎﻧﺎ؟
ﺷﻌﺖ ﺷﻤﻮﺳُﻚ ﻣﻞﺀَ ﺍلأﺭﺽ ﻧﺎﺷﺮﺓً
ﻟﻠﻜﻮﻥ ﺣُﺒًﺎ ﻭﻟﻠﺜﻮﺍﺭ ﺇﻳﻤﺎﻧﺎٍ
ﺫﻛﺮﺍﻙ ﺗُﺸﺮﻕُ ﻭﺍلأﻋﻼﻡ ﺷﺎﺩﻳﺔ
ﻭﺍﻟﺸﻌﺐُ ﻳﻨﺴﺎﺏُ ﺇﻳﻘﺎﻋًﺎ ﻭﺭﻳﺤﺎﻧﺎ
ﺳﻼﺣﻨﺎ ﺃﻧﺖ ﻭﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻤﻀﻲﺀ ﻟﻨﺎ
ﻭأﻧﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻌﻲِ ﻭﺍلإﺑﺪﺍﻉ ﺭَﺟﻮﺍﻧﺎ
ﺭﺳﺎﻟﺔ أﻧﺖ ﺻﺎﻍ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻨﻬﺠَﻬﺎ
ﻭﻟﻠﺠﻤﺎﻫﻴﺮِ ﻗﺪ ﺃﻫﺪﺍﻙ ﻗﺮآﻧﺎ
ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺸﻌﺎﺋﺮُ ﻟﻠﻌﺒّﺎﺩ ﻣﺎ ﺳﺠﺪﻭﺍ
ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺘﻬﺠﺪُ ﺇﻥ ﺟﺌﻨﺎ ﻣُصلاﻧﺎ
ﻻ ﻏﺮﻭ إﻥ ﻧﺤﻦ ﻋﻈﻤﻨﺎﻙَ ﻛﻌﺒﺘﻨﺎ
ﻓﻤﻨﻚ ﻧﺴﺘﻦُّ ﻟﻸﺣﻘﺎﺏ ﺃﺩﻳــﺎﻧﺎ
ﻛﻞُّ ﺍﻟﻤﻼﻳﻴﻦ “ﻗﻴﺲٌ” ﻓﻲ ﺗﻠﻬﻔﻪِ
ﻭﺃﻧﺖَ “ﻟﻴﻠﻰ” ﻓﺪﺗكَ ﺍﻟﺮﻭﺡ “ﻟﻴﻼﻧﺎ”
سبتمبر.. منك أشرقت شمسٌ عرفناها لأولِ مرةٍ غيرُ كل الشُّموس، وفيك أهلّت أقمارٌ أضاءت حنادسَ ليالينا المظلمة بظلامات الكهانة الإمامية، وإليك تبازغت أنجمٌ ما كان لها أن تتبازغَ لولا أنوارُ أنوارِك البهيّة.
سبتمبر.. منك المبتدا وإليك المنتهى، بك نحيا وبغيرك نموت، بك عرفنا من نحن، ومن خلالك اكتشفنا من نكون. قبلكَ عدمٌ وبعدك ندم. بك وجدنا كلَّ شيء، وبدونك افتقدنا كلَّ شيء.
غيرتَ مجرى الدهرِ يا سبتمبرُ
والدهرُ عن مجراه لا يتغير
وثللتَ عرشًا ضاربا أطنابه
وعليه كسراه العنيدُ وقيصرُ
وثأرتَ للمستضعفين وفيهمو
من شدّةِ الآلام من لا يثأر
سبتمبر المعظم.. أكتبُ إليك حُروفي هذه وبين أحشائي وجعُ الدهور، أتهادى مُثقلا بين يديك وعلى كاهلي بؤس ثماني سنواتٍ من العناء والتشرد، أبدو أمامَك بعينين غائرتين ووجهٍ مُغبرٍ، بمنظرٍ أثقُ أنه لن يسرَّك. ثماني سنواتٍ اغترابًا وتشرُّدًا في المنافي، في انتظار “بساطِ الريح” إلى “أرضِ الميعاد”، وهل غيرُ صنعاء أرضٌ للوعدِ والميعاد؟!
سبتمبر.. بودّي أن أحدثَك عن الخونةِ من أبنائك الذين كنتَ عطوفًا عليهم، في الوقتِ الذي لم يكونوا فيه بارّين بك، عن الذين تنكروا لفضلك عليهم، وقد كنتَ سحًا غدقًا عليهم، كان بودّي أن أهمسَ إلى مسامِعك بأسمائهم فردًا فردًا، إلا أنك تعرفُهم، ثم إني لا أريدُ أن أزيدَ من مرارةِ الألمِ لديك، فقد يكونُ الأحفادُ أبرَّ من الأبناء.
سبتمبر.. نحن الأحفادُ اليومَ نتداركُ ما كان يجبُ فعله قبل خمسين عامًا من اليوم. نلملمُ شتاتَ ما تشتت، ونستجمعُ ــ في الوقتِ الضائع ــ ما فرقته خُصوماتُ الأخوة في البيتِ الواحد.
سبتمبر.. كأني بك تسألني: وهل لا يزالُ أبنائي اليومَ متفرقين متناحرين؛ على الرغمِ ممّا وقعَ بهم؟!
وأقولُ لك ــ بكلِّ مرارةٍ وألَمٍ ــ: نعم يا سبتمبر. ويَا لشقاوةِ الأبناء..! لا يزالون متعاركينَ مع بعضِهم البعضِ، في الوقت الذي تهاجمُهم ضباعُ الكهوفِ العرجاء..!
وكأني بك مَرةً أخرى تزُمُّ شفتيك وتديرُ رأسَك يمنة ويسرة؛ تألمًا وتحسرًا على حالهم؛ لكن لا عليك.. ثق، إن كان بعضُ أبنائك خونة فإنّ كثيرًا من أحفادك أهلُ أمانة، سيثأرون لك قريبًا، وليسَ أمامَهم إلا ذلك أساسًا. هذا اتجاهٌ إجباريٌّ لا مناصَ منه، نعرفه ويعرفنا.
يا سبتمبر.. لقد أصبح الأحفادُ اليومَ كبارًا، وعلى قدرٍ عالٍ من الوعيِ والفهمِ والاستنارةِ، وهم يزدادون وعيًا يومًا بعدَ يوم.
سيدي سبتمبر.. رجائي ألا تتألم كثيرًا رغم الوجع، كلُّ ما في الأمرِ أن تعرّت وجوهٌ وانكشفت سوءات، ظهرت الضباعُ الخبيثة التي كنا نعتقدها حُملانا وديعة. تمايزت البُوماتُ من القُبّرات.
سبتمبر.. كنتَ ــ ولا تزالُ ــ كتابا سماويًا مقدسًا، وكلُّ ما في الأمرِ أن أشرَكَ معك وبك البعضُ صنمًا مدنسا؛ لهذا حلت بنا العقوبة في دنيانا قبل أُخرانا.
سبتمبر.. أخطأنا بحقك.
سبتمبر.. غفرانك..!