د. متعب بازياد
تكبو الأمم الحية ولكن سرعان ماتنهض، متكئة على رصيدها ومساهماتها في الحضارة الإنسانية وتجاربها عبر العصور في مواجهة المخاطر التي تتهدد مستقبلها، تتعرض لازمات حادة في معيشتها وامنها واستقرارها، وهذه تحديات تخلقها البيئة القاسية وشحة الموارد إضافة لسوء التقدير وفشل الإدارة في هذه المجتمعات، لكن يبقى التحدي الأكبر ما يتعلق بالهوية والتاريخ المشترك لهذه الامة، الهوية المرتبطة بعناصر القيم المشتركة، الارتباط الوثيق بالأرض والوطن، التاريخ الطويل من النضال المشترك لتحقيق التعايش والتكامل الداخلي، النضال الذي ينسج شعوراً موحداً تجاه المخاطر والمهددات وحساسية مفرطة لحراسة هذه القيم والتاريخ المشترك الذي يمثل محصلة نضالات ومجاهدات وكفاح افرادها.
لم تسُد العرب إلا مع بزوغ الرسالة ودعوة الهداية. الرسالة التي كانت عالمية بطبيعتها لا تقبل الاحتكار والاستثمار العائلي. ومن هنا أصبحت تلك الدعوة والرسالة والدين الجديد أساسا لحضارة جديدة بقيم أكثر شمولا من قيم كل امة مستقلة عن اختها في الإنسانية. حضارة الفاتحين بثقافة (لكم مالنا وعليكم ما علينا) بدلا عن حضارة الفتوح الملكية والتوسعات الإمبراطورية.
في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر كانت قضية الاستقلال الوطني بارزة في كل نضالات اليمنيين. حتى الامامة الزيدية -أسرة حميد الدين- تدثرت في حروبها الأخيرة بدثار التحرير والاستقلال ضد الوافد الأجنبي -الترك- وحشدت طاقات كثيرة بهذه الدعوى، كمحفز للقتال في سبيل عودة حكمها لليمن مطلع القرن العشرين. وهكذا قاوم اليمنيون في الشحر وعدن وسقطرى موجات الغزو الأوربي طيلة القرنين الماضيين، متحفزين لمواجهة التدخل الأجنبي حماية لاستقلال القرار الوطني.
والقضية الأخرى التي كانت هاجس اليمنيين وصنو قضية الاستقلال عندهم هي قضية الوحدة التي تعزز مقاومة الغزو وتفتح افاق التنمية والرخاء داخليا. وكان بناء الدولة الوطنية أكبر تحدٍّ للمحافظة على الاستقلال والوحدة في آن واحد.
لقد مثلت ثورتا سبتمبر واكتوبر مطلع الستينات من القرن الماضي، بداية واعية وفكرة متقدمة في وعي اليمنيين تجاه بناء الدولة الضامنة للاستقلال ووحدة التراب الوطني. فكلاهما تبنى نظام الحكم الجمهوري بما يشتمل عليه هذا المصطلح -الجمهورية- من حكم الشعب واعلا كلمته وما تعنيه الجمهورية من مساواه وعدالة اجتماعية. كما تبنى النظامان المنبثقان عن الثورتين اسم اليمن كرمز للدولة والوطن في الشطرين والتزما بالسعي لتحقيق وحدة التراب اليمني.
إن التمسك بالجمهورية والوحدة حاجة يمنية داخلية بغض النظر عن النزعة القومية العربية. أو موقف الخارج من اليمن. حاجة يمنية لبناء دولة عصرية ذات سيادة. تملك قرار البناء والنهضة وإرساء مداميك السلام والاستقرار بعد شتات وتشرذم أوصل اليمن لحضيض التخلف والهيمنة الخارجية وفقدان السيادة.
لقد كبلت السلطنات والمشيخات المناطقية والاسرية في الجنوب والشرق -فيما مضى- معاهدات الحماية البريطانية واتفاقيات الاستشارة، ومحقت فكرة الامامة في السلالة صورة اليمن الحضاري وتقوقعت حول نفسها في الجبال الداخلية مفجرةً صراعاً دائماً من أجل البقاء في ظل محدودية الموارد وقسوة الطبيعة ولعنة الجغرافيا. الجغرافيا الطبيعية التي قسمتها السياسة -التدخلات الخارجية بشكل خاص- لتخلق بيئة الصراع المستمر. اليمن جبال وتهائم، سهول وسواحل، شكلت شبكة مترابطة من المصالح والقيم المشتركة وهي الرابط المتين لكل هذه الفسيفساء، وهذا التنوع في بلدان مجاورة حوّل القفار الموحشة شرق الجزيرة العربية الى مناطق جذب للسكان من وسطها وغربها بعد ظهور الثروات البترولية، وهناك نشأت المدن والمصانع، وربطت السكك الحديدية مصالح المجموع وأرست عهدا جديدا لأمة جديدة، وحدت مصيرها المصالح المتشاركة بين عناصرها وهكذا تكون الوحدة مكسبا للجميع وغاية استمرارها لمصلحة جميع أطرافها، وهكذا يتوزع السكان حول الموارد الجديدة، كما كان يبحث العرب عن الماء والمرعى في أزمان غابرة.
كل مصادر التاريخ المعاصر تتحدث عن محاولات متكررة وسعي حثيث لدى اليمنيين للتخلص من الهيمنة الخارجية وبناء الدولة الوطنية الضامنة للاستقلال والوحدة، الاستقرار والرخاء، البناء والتنمية. حتى أن الأفكار القومية العربية تحركت في اليمن على أساس من هذا السعي لإيجاد نواة الدولة القومية في اليمن، فكانت حركات البعث العربي موحدة في اليمن، من القوميين العرب والبعث والناصريين وحتى الحركات الدينية كالإخوان والسلفيين المعاصرين. كان الحكم الإمامي السلالي في شمال اليمن يرى في وحدة الأرض توسعا في الملك وتراكما للثروة وفي السكان مزيدا من دافعي الضرائب والمكوس، كما كان الاستعمار في عدن والمحميات يرى في دعوات الوحدة، تعزيزا لمساعي الاستقلال الوطني ونهاية لحقبة الاستعمار، وبين هذا وذاك تبنت الحركة الوطنية اليمنية منذ نشأتها ربط عنصري النهضة -الاستقلال والوحدة- ببعضهما، فكانت حركة موحدة الأهداف والوسائل والغايات، الاستقلال في الجنوب والانعتاق في الشمال وصولا لدولة المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية (الجمهورية) إعلاء للإرادة الشعبية الحرة ونبذا لكل أشكال الوصاية والتبعية. ف”الشعب هو صاحب المصلحة الحقيقية في الثورة” وهذا ما تجسد في وصول أبناء الفلاحين والعمال من كل الفئات الاجتماعية لسدة الحكم في الشطرين وبعد الوحدة. ولم تكن فكرة سيادة الشعب على المحك كما هي اليوم بعد تغول التدخلات الخارجية والأجندة الأجنبية، وأكثر من ذلك ما نراه اليوم من الافتئات على الشعب اليمني والحديث باسمه في تحديد مصالحه ومستقبله ومصير دولته.
خلافا لمفكري العرب ومؤسساتهم الرسمية، رأينا من (بعض) الاشقاء في الخليج وبدلا من مؤازرة الشعب اليمني في محنته ونجدته في أزمته، او تعزيز المواقف الرسمية المعلنة لدولهم -على الأقل- رأيناهم ينظرون عن مصير دولتنا وتقسيم وطننا وتمزيق مجتمعنا في سباق محموم لخدمة من يدعون عداوته ومفاصلته -إيران- في المنطقة. صحيح ان مصير اليمن من مصير المنطقة ككل، كما يخبرنا التاريخ والجغرافيا السياسية. لكن ما يعنينا اليوم عمليا -نحن اليمنيين- بلادنا وحسب، استقلالها سيادة قرارها مصالح شعبها امنها واستقرارها. يبقى دفاعنا عن الأمن القومي العربي ومنظومة الأمن الإقليمي والدولي في المنطقة، يبقى مرتبطا ببقاء دولتنا موحدة مستقلة، دون ذلك لن نستطيع القيام بأي دور إيجابي في حماية الامن والسلام الإقليمي او الدولي.
لقد كان أكبر إنجاز لثورة 14اكتوبر المجيدة هو توحيد 23 سلطنة ومشيخة ومستعمرة في الجنوب اليمني في دولة يمنية واحدة، تلك الوحدة التي أكسبت قيادة الجمهورية الوليدة زخما متعاظما في سبيل سعيها لتوحيد كل اليمن، وكان ذلك الهدف الأسمى بين أهداف ثورة أكتوبر العظيمة، حتى أن مشروع تحقيق الوحدة اليمنية بقوة السلاح كان نضالا مشروعا ومبررا في فلسفة النخبة الجنوبية يومها، بل إنها -نخبة الحكم- قد شرعت في تنفيذ مشروع الوحدة اليمنية (بالحرب) ولم يكتب لتلك المحاولات العسكرية النجاح، حتى تحقق ذلك الحلم الكبير سلميا في 22 مايو 1990م. وكان قميناً بهكذا مشروع وطني عظيم ألا يتحقق إلا بتلك الطريقة السلمية الديمقراطية، التي تسمو بمكانة إرادة الشعب التي جذرتها الجمهورية في وجدان الشعب اليمني في ظل نظامي الشطرين، وتوجتها الوحدة بتلك الصفحة اليمانية الناصعة من تاريخ البلاد.
كانت قيادة الحزب الاشتراكي اليمني وقيادة الدولة في الشطر الجنوبي واعية كل الوعي لمرتكزات المشروعية في عدن، لقد انكشف الغطاء الايدلوجي (الاشتراكية العلمية) للنظام السياسي هناك، ورفع الداعم الدولي يده عن النظام الحاكم وترك مصير البلاد لما تفرزه حقائق التاريخ وخرائط الجغرافيا السياسية وهوية المجتمع اليمني في الجنوب. وبقيت الوحدة اليمنية هي الثابت الوحيد، والسعي لتحقيقها رأس مشروعية النظام الشطري وحبله السري مع مكنون الذاكرة الوطنية وشعار مرحلة الثورة الوطنية وتجربة النضال من أجل (يمن ديمقراطي موحد). كان الأستاذ البيض -وهو أحد رواد أكتوبر وجيل التأسيس- يدرك هذا النفس الوحدوي وسط المجتمع المشبع بثقافة الوحدة وسمو النضال من أجلها، المثل والقيم الوطنية التي زرعها النظام الشطري في المجتمع وصبغ بها كل مؤسسات الدول والحزب طيلة فترة النضال الشطري لتحقيق الوحدة اليمنية -1967م-1990م- كان يدرك تبعات أي مساس ب(قيمة الوحدة) وهو يُضمّن بيان إعلان فك الارتباط 1994م، التمسك بالسعي من جديد (لتحقيق الوحدة اليمنية).
في الشطر الشمالي كان النظام السياسي منشغلا أكثر بمقاومة عودة الإمامة والحرب الأهلية التي أشعلتها. ثم معالجة تبعاتها وإنجاز المصالحة الوطنية الداخلية. وكان سعي النظام الحثيث في عدن نحو الوحدة يثير مخاوف الحكومات الائتلافية الهشة في صنعاء من ابتلاع الفكرة الايدلوجية -الاشتراكية العلمية- المؤطرة والمنظمة في عدن لكل المشهد السياسي، وكان قيام المؤتمر الشعبي العام في مطلع الثمانينات قد مثل معادلا تنظيميا وموضوعيا للحزب الحاكم في عدن، شكل تأطير العمل السياسي في الشمال مرحلة من الاطمئنان الجمعي تؤهل النظام هناك من الدخول في الحوار الندي بما يبدد مخاوفه من نخبة الحكم في عدن والبحث في مشروع الوحدة كحاجة للأمن والاستقرار والتنمية وإنجازاً للنظامين، بحسبه هدفا للثورتين ومطلبا للشعب في الشطرين. وكان صالح كحاكم مطلق في الشمال -عكس القيادة الجماعية في الجنوب- لديه هامشٌ أكبر للمناورة والمبادرة وهذا الوضع القيادي مكنه من تجاوز كل تحفظات بعض النخب وهواجسها، مما سرع قيام دولة الوحدة اليمنية كحلم وطني وقومي يومها. صالح كزعيم كبير وأطول رؤساء اليمن في سدة الحكم، كان هو الاخر -كالبيض- مدركاً لقيمة الوحدة في وجدان اليمنيين وعقل حكام اليمن (كمصدر أساسي للمشروعية)، أطلق شعار (الوحدة او الموت) للتعبئة والحشد في مواجهة اعلان فك الارتباط من طرف الحزب الاشتراكي اليمني عام 94م. بعد ذلك التاريخ أصبح النظام السياسي مُطالباً بإنجاز التنمية الشاملة وعهد الرخاء المتعثر -سابقا- بمبرر الصراع في سبيل بناء الدولة. غير أن فكرة التوريث التي أطلت بقرونها شكلت بؤرة صراع جديد في الصف الجمهوري داخل بنية نظام صالح من جهة ومن جهة أخرى بعثت في سياقات الحراك الاجتماعي ظلال عهد الإمامة وطيفها الكئيب في ماضي الشعب اليمني، في خضم هذا الفشل الذريع عاد صالح مذكرا بقيمة الوحدة، وهو يهدد بتمزيق اليمن من بعده، حتى واليمنيون يصيغون ميثاق اليمن الفيدرالية كصيغة عصرية لدولة قوية تحترم التنوع في نظام يبسط السلطة ويوزع الثروة، كان يصور ذلك مدخلا للتشطير، مسكونا بفكرة قيمة الوحدة العظيمة في وجدان الشعب اليمني.
إن وحدة الشعب والوطن هي عهدة الاحرار ومناضلي الثورة وزعماء الأمة للأجيال اليمنية المتعاقبة. عقد بلقيس وأروى وسبأ وحضرموت…. الذي أوصى المحضار حكام اليمن بحفظه على مر العصور وهو يقول (حافظ على عقد الجمان اللي ورثته بعد بلقيس).
إن التراخي أو التماهي تجاه تغول التدخلات الخارجية بما ينتقص السيادة، أو التساهل مع مشاريع التجزئة والتقسيم وضرب النسيج الاجتماعي والمشروع الوطني الجامع، يضاعف المصاعب والعقبات في طريق استعادة الدولة من بين براثن المليشيات المنقلبة على الجمهورية والوحدة، ويمكنها -المليشيات- من ورقة أخلاقية في حربها ضد اليمنيين، بادعاء الذود عن السيادة وحماية وحدة الشعب والتراب الوطني. وهي مزاعم ماضي الإمامة وشنشنتها، كما هي دعاوى ودثار نسختها الحوثية اليوم.
إن أمام الدولة اليمنية اليوم حكومة وقوى سياسية وفعاليات مدنية وشعبية رفع حساسيتها من أي انتهاك للسيادة أو استلاب للقرار في كل ما يتعلق بمستقبل اليمن، جمهورية النظام السياسي ووحدة الأرض والانسان اليمني. ومن هنا يبدأ تصحيح العلاقات المشوشة والمرتبكة مع جيراننا وأشقائنا في الخليج العربي أولا. وخطاب المجتمع الدولي ثانيا، وقبل كل ذلك، التصالح والانسجام مع ضمير الأمة ونضالات أحرارها ودماء شهدائها وتطلعات شعبها وأمانة أجيالها.