شهود الزور !
– سام الغُباري
بين مُحب غالٍ، و مبغض قال، يثير “علي بن أبي طالب” الجدل لأول مرة في تاريخه بقدر متسع وفّرته وسائل التواصل الاجتماعي، وتصدّره اليمانيون دونًا عن شعوب الأرض.
جدل دخل فيه العارف، والقارئ، والفقيه، واللاقط لموقف، والباحث في محركات البحث، كلٌ يصوّب بندقيته نحو “عليّ”، وآخرون يفدونه باعتباره الجدّ المقدس الذي أحلّ لهم السلطة المطلقة والسرقة والقتل .
في الجوار، كان “عبدالملك بدر الدين” يقتل أطفالًا في تعز، ويُفجّر بيوتًا في قرية خبزة المذحجية، وفي تبريره لذلك، يظهر من وراء شاشة بث عملاقة، يُذكّر أتباعه أنه حفيد “علي بن أبي طالب”، وليس يمنيًا، إلا بما يظهر عليه من رداء، لكنه لا يعني أنه كسائر اليمنيين، بل الولي، والوصي، وابن رسول الله، وحفيد صهره القديس ذي المئة وصف ولقب، ذلك الإمام الذي لقي حتفه على يد رجل من اليمن يُدعى “عبدالرحمن بن ملجم”، دون الإشارة إلى شريكه الرئيسي !
وقد رأى يمانون كُثر ممن فقدوا أطفالهم أن هذه السلسلة الدموية التي تنتهي عند عليّ، وتتجاوزه نحو الرسول الأعظم، مسؤولة عن أحزانهم، ومآسيهم، بما يوفره تاريخ متصل عن مجازر تثير شبق الهاشميين في توسيع بركة الدم اليمني، وتهجير الأبرياء إلى مواطن أخرى
في ظل هذه المأساة التي يُصر على استمرارها “حفيد عليّ”، انطلق البعض لتحميل الإسلام، كل وزر، ودم، ووجهوا تهمة القتل، نحو حامل السيف المميز، صاحب ذي الفقار، صهر النبي، المتهم : عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
هل حقًا فعل “عليّ” ذلك؟ ، سأحاول الإجابة .. فاتبعوني:
مذ رحلت مهاجرًا إلى الرياض، كان السؤال الهاجس يطرق أذني التي انفجر منها دميّ، بعد جلسة استجواب عنيفة، أجراها بعض جيراني الهاشميين الملثمين – تعرفت على أحدهم بالصدفة -، يقول السؤال : لِمَ فعلوا بي ذلك؟، ويلتصق بالسؤال استغراب يبحث عن المكان الذي خبأوا داخله كل هذه الكراهية؟
وبدأت البحث ..
مئات الساعات قضيتها وسط مكتبة الملك فهد، متنقلًا بين عشرات الكتب التي دوّنتها في قائمة صفراء، واكتشفت في النهاية أن “علي بن أبي طالب” لا يستحق هذا الحيز التاريخي لدى الشعوب، وفي الإسلام الذي انقسم بين شيعة وسُنة، وأن الجريمة تكمن في تصديقنا لمرويات المؤرخين أنفسهم، وإن تطابق بعضها ! .
في السياق أثار “مروان الغفوري” سلسلة مقالات عن “الرجل”، مستندًا لقراءة من يحب الاستعراض. بحث فيما كُتِب ببطون الصفحات العتيقة، وقرر مواجهة رجل ميت، يشار إلى أنه دُفِن في كربلاء، أطلق “مروان” رصاصات مدوية، اخترقت مواضع عديدة في جسد “عليّ” الساكن بلا حراك !
قاتِل “عثمان بن عفان”، اسمه “عمرو بن الحمق”، دخل على الخليفة العجوز في لحظاته الأخيرة، وأجهز عليه بتسع طعنات، ثم غادر المنزل متجهًا إلى المسجد النبوي، صلى ركعتين، وحمد الله واثنى عليه، وذهب بالدم المنثور على ردائه نحو “عليّ”، قائلًا بحزم: أمدد يدك نبايعك .
ومدّ عليّ يده !
“عبدالرحمن بن ملجم” وجد لنفسه مساحة بين المبايعين، انطلقت يده وسط الزحام، لمعت عيناه في مواجهة عينيّ “عليّ”، في تلك اللحظة، يقول “البلاذري”، أن عليًا سحب يده، وتراجع إلى الوراء محتدًا، وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون.
قبل ذلك بساعات، وأسابيع
كان “عمار بن ياسر” يصيح في الناس المُحاصِرين منزل “عثمان”، يثير حماستهم، ويشير بيده نحوه، هاتفًا بأعلى صوت: اقتلوا هذا الكافر! . “عائشة أم المؤمنين” في طريقها إلى دارها على ظهر جمل يخطو الهوينا، علّقت بسخرية: اقتلوا “نعثل”، كانت تقصد “عثمان”، و أما “نعثل” فرجل من اليهود يسكن بالمدينة، شديد الشبه بـ عثمان كأنه هو.
طلحة بن عبيد الله، تولى توزيع المؤن والغذاء على الثوّار. الزبير بن العوام بصرامته وفصاحته، تموضع في صدارتهم، يخطب فيهم ويشجعهم على البقاء، وتحقيق أهداف الثورة !
في تلك الأثناء، كان العطش قد استبد بعثمان وزوجه “ليلى”، وابنته الرضيعة “مريم”، يرنو إلى الناس من كوة داره الطيني، يهتف في الزحام بحثًا عن اصدقائه القدامى: يا طلحة، يا زبير، يا علي. ويسأل في وهن : من هؤلاء ؟. ومن بعيد يرتفع صوت غاضب: اقتلوه، فيهيج الناس جذلًا، وسعارًا .
غير أن ثمة رجل يقترب، صديق، وصهر، اسمه “علي بن أبي طالب”، حاملًا قربة ماء. يستوقفه المتظاهرون : لمن هذه؟ فيجيب : إنها لعثمان. فتتكاثف الأيدي العارية عليه، وتنزع القربة وتُفرغ الماء في الأرض، ويقهقه الفاعلون.
لم يستطع علي بن ابي طالب منعهم من ذلك، يرمي عمامته في الهواء نحو جدار المنزل المُحاصر، معلنًا قلة حيلته في تزويد “عديله” بقربة ماء، تاركًا إياه نهبًا للعطش والجوع والخوف والترقب.
على باب “عثمان”، وقد صدر قرار الاقتحام، وقف “مروان بن الحكم” شاهرًا سيفه أمام تلك الجموع الهادرة، العمياء، كان وحده، يدافع عن “الدار” وعن “الخليفة”، فتلقى عشرات الطعنات، وسقط أمام الباب مضرجًا بدمه. ودهسه المئات بأقدامهم، ودخلوا، لكنه لم يمت .
مات عثمان بتلك الطريقة الدموية البشعة، فلم تهتز المدينة المنورة، هرب كل من انتمى الى بني أمية، ولم يحفل أحد بدفن الخليفة !
في اليوم الثالث، عند أوان منتصف الليل، تسلل “نعثل اليهودي” إلى الدار، وتولى مع زوجة عثمان مراسم تكفينه في عجل، وسروا به بقطع من الليل، حتى صادفهم حظ عاثر بنفر من “الثوّار” اعترضوا طريق الجنازة الصامتة، فأنزلوه إلى الأرض، وركلوه ودهسوه بأقدامهم، ثم مضوا يقهقهون.
لملم “نعثل”، والزوجة المفجوعة، جثمان الخليفة، وأسرعوا به إلى مقابر اليهود، ودفنوه هناك. ثم عادوا من فورهم . كي لا يعرف أحد مكانه .
على سفوح المدينة، جلس فتى وسيم الملامح، يُدعى “طويس” على جذع نخلة، وطفق يغني، يشدو بحزن هائل فراق مدينته، وبجواره كان رفيقه الدائم “أبان بن عثمان بن عفان” يلتقط أنفاسه، ويبكي، وقد أثار الغناء الشجيّ مدامعه وأحزانه، وغضبًا هائلًا على أبيه الغارق في دمه .
…
من منكم غاضب أيضًا ؟
من أجل ذلك، يقول العلماء، دعوا الفتنة بما حملت، ولا تفتشوا في سردياتها المؤلمة، فقد تكون كاذبة، هذه التفاصيل، دوّنتها كتب التاريخ بتطابق مثير، يكاد يُصدق .
* *. *
بعد مرور 10 قرون على المأساة، كتب شاب اسمه “حسين العماد” نظمًا شعريًا، يقذف أم “مروان الغفوري” بالزنا.
قال “العماد” أن مروانين يشبهان بعضهما، مروان ابن الحكم ومروان ابن الغفوري، يتشابهان في كون امهما زانيتين. في المستقبل إذا أصر “الغفوري” على الانخراط في العملية العسكرية ونجح في قتل عبدالملك الحوثي، ثم أقام دولة على أنقاض سلطة الحوثيين، سيهزمه الهاشميون في الكتب، فما أن يمر قرن واحد فقط، سيجد أحفادنا كُتبًا كثيرة تؤكد أن “مروان الغفوري” كان ناصبيًأ من عائلته فاسقة، ولم يكن ابن ابيه.
سيكتب حفيد “حسين العماد” ذلك، مُستندًا إلى مراجع ألفها أجداده، ومواليهم، ونشطوا في توزيعها واشهارها، بينما يتوارى حفيد الغفوري، وهمس محدود يطرق أذنيه عن آبائه يقول : لا تصدق .
علي بن ابي طالب محظوظ بشيعته، وغير محظوظ بدمويتهم المارقة في التاريخ. لم يكن لأحد القدرة على البقاء، والجدل، وإثارة الحروب من داخل قبره، سوى هذا الرجل، ولهذه الجدلية قصة طويلة بدأت منذ اليوم الأول لبقائه داخل مدينة الكوفة، وعزلته عن مسقط رأسه، حتى رحيله الأخير بضربة سيف أوقعها على رأسه، رجل غير يمني يُدعى : شبيب بن نجدة الأشجعي، ثم بضربة أخرى مميتة من “عبدالرحمن بن ملجم”
لماذا بقي في الكوفة ؟، كان ذلك الاقتراب أخطر مما يتوقعه عليّ، ومما توقعه أحفاده، وابنائه، كان بداية تسليم العائلة الأقرب للنبي العربي العظيم، إلى حاضنة فارسية، وجد عندهم قدرًا لا يخالطه جفاء، وحظوة لا تنقصها غفوة، فبقي بينهم يشعر بالامتنان لِما يمكن اعتباره “خذلان” قومه ورفضهم إمارته.
أمام مشهد الفوضى، كان “الحسن” يصرخ في أبيه : لا تقبل البيعة، ودع الثائرين يتخبطون بوزر ما فعلوا. وحذّره : إن قبلت، شاركت في دم الرجل .
وقف “علي بن أبي طالب” أمام مفترق طرق، ويد “عمرو بن الحمق” ترتفع مخضبة بدم عثمان: أمدد يدك نبايعك . ويبدو أنه لم يجرؤ على الرفض، وقد خالجه شعور من يرى في نفسه ُمنقذ المدينة المنورة من الفتنة. لكن دم عثمان كان يتكاثر مثل طوفان، مُقبلًا من بعيد، غامرًا كل أمر .
شعر علي بن أبي طالب بالغبن، منذ تلقيه الصدمة الأولى بانقسام باقي كبار الصحابة حول بيعته التي عدّها بعضهم غير شرعية، تراكم شعوره بالألم لهذا الرفض الذي لم يجد له مبررًا، منذ السقيفة، إلى بيعة عمر، واختيار عثمان، ثم إصرار الأخير على البقاء في سلطته حتى مقتله المدوّي، وكيف أنه في تلك اللحظات المؤلمة، ارتدى قميص عثمان دون أن يدري ثقله عليه في حياته ومماته
كانت السُلطة وإرث الخلافة على كف عفريت، ولما بردت الرؤوس الحامية، توجّه “مالك بن الأشتر” إلى دار الزبير بن العوام، دخل دون أذن، وكشف عن نصف سيفه، وابتسم ساخرًا، آمرًا: إن عليّ ينتظر مبايعتك.
مضى” الزبير” ونجله عبدالله، وذهب “طلحة” أيضًا، إلى دار عليّ، وضعوا أيديهم في يد عليّ، ومضوا حانقين.
وصل نبأ مقتل “عثمان” إلى “أم المؤمنين عائشة” التي أنهت لتوها فريضة الحج، فسألت عن الخليفة الجديد، فقيل لها: إنه عليّ .
صُعِقت عائشة، وأمرت بإعادتها إلى دارها في مكة، فعلِم طلحة والزبير وابنه، ذلك، تسللوا من المدينة، حتى بلغوا مكة، ومن هناك أعلنوا أنهم في حِلٍ من البيعة التي أرغموا عليها.
بقي “عمار بن ياسر” عضد “عليّ” الغاضب من منافسين ما كان لهم أن يجرؤوا – حسب رأيه – على طلب السلطة، وفي الأرض رجل يتنفس اسمه عليّ .
هذا الولاء قتل “عمار” في النهاية، فحُرِم “عليّ” آخر مُحبيه، أثقله رحيل “عمار”، وفترت بعده عزيمته، انكمش أخيرًا عقب واقعة التحكيم التي استبطن نتائجها، فانتحى جانبًا نحو الكوفة، ورأى من أهلها ذلك التبجيل الذي كان يحتاجه، والتوقير الذي راق له . لم يكن يعلم أنه شطر العائلة الأقرب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى نصفين.
حاول “الحسن” ترميم العلاقة مع العرب، بتسليم السلطة إلى خصمه “معاوية”، لكنه غاب في لحظة حزينة أخرى، لم يُعرف من قتله، وكيف؟ ثم تلتها الأحداث التي قَـتًـل فيها بعض “العرب” شقيقه الحسين، فتناثر الدم الحزين على مدى التاريخ، دون أن يحظى “عثمان” بلحظة مماثلة، وشيعة بكائين، ولطميات تنعي وفاته الأليمة .
طوفان الدم، بدأ مسيرته منذ أول خنجر أغمد في عنق عثمان، وما بين معركة وأخرى، انحسر الموالين لكل ما يمثله عليّ، وكانوا كلما أطلوا برؤوسهم، شرّعوا في الانتقام المُر
بدأ “المختار الثقفي” رفع راية “يالثارات الحسين”، اتخذ الغضب وسيلة لنزع السلطة، وافقه “محمد بن علي بن ابي طالب” في ذلك، وعمد “المختار” على إحراق “خولي بن يزيد الاصبحي” حيًا، بتهمة قطع رأس الحسين.
دولة “المختار” لم تدم، قضت عليها سنابك خيل “مصعب بن الزبير” الذي قُتِل بعد ذلك بسيف الحجاج بن يوسف
تمزقت الأرض، وتكاثرت الدويلات. وتعهد الحجاج على ترسيخ دولة بني أمية، واستعادة خارطة الخلافة، مهما كلفه ذلك من ثمن.
وبقيت عائلة “عليّ” الصغيرة تتأرجح بين العراق والشام، حتى استقر بقيتهم على ضفاف فارس، ومن هناك تحفزت المظلومية، وكتبت الانتهازية الفارسية حروف الغضب، والمأساة، والفجائع وغمرت الأحداث بأقاويل وأسانيد، وجاءت بشهود زور، ونسبت إلى الميتين مخططًا يوقد فتنة لا تموت، وعُمّرت شخصيات آل البيت بالقداسة والإعجاز، وانبثقت عنهم الرؤى المخالطة للإرث المجوسي، والأحاديث التي لا سند لها، وإن كُتبت على جلود، ونُزفت عليها أحبار من كانوا قبلنا، فلم تكن سوى أحاديثٍ لا يشهد بها أحد، فقد كانت بأقلامهم هُم .
لنعد إلى “مروان الغفوري”، فما كتبه كان أمينًا في نقله بنسبة كبيرة، لكنه لم يكن محايدًا، لقد وقف أمام حشد هائل من الغاضبين، الجائعين، المقتولين والمشردين، صاح في اليمنيين مُشيرًا إلى كربلاء، حيث يرقد جثمان علي بن أبي طالب – وهو ليس مرقده – قائلًا : هذا الميت سبب تعاستكم !
في السماء، حيث ترفرف روح عليّ، وأرواح المؤمنين الآخرين، يقرأ الرجل ما كتبه أتباعه، وأدعياء التاريخ، وشهود الزور، ومن انتسبوا إليه. يكاد يهتف بهم : لستُ أنا، ولا أعلم الغيب لأعرف مقاتلهم عني، لم أقل لهم ذلك، وما أمرتهم. ثم يطرق، ويضيف: موقعة الجمل، ومعركة صفين، والنهروان، كل ما قرأتموه عنهن ليس صحيحًا. هناك حلقات مفقودة، ووقائع لم تحدث.
يهتف عليّ مُجدّدا : ما كُتِب كان سياسة، ومن أرّخ لم يكن حاضرًا، ومن نقل لم يرسم الصورة كاملة، فشهد من لم يشهدوا الواقعة .
يحاول عليّ رفع صوته ليسمعه من في الأرض، وتربت كف عيسى بن مريم ظهره، يهوّن عليه: دعك منهم يا أبا الحسن، فقد قال اتباعي أني أمرتهم بعبادتي، ويضيف موسى بن عمران بصوت واضح: إسألوني عن الناس، فقد خبرت أشدهم تقلبًا، هذه طبائعهم، إلا من اتقى، ونهى النفس عن الهوى، ولم يشهد بما لم يرى .
وصوت آخر يدوي : تلك أمة قد خلت .
غير أن أحدًا لم يفهم، ولا يريد أن يعتبر من التاريخ، بل بالقدر الذي يجعل حروفه أسنة حادة تُقطّع رقاب الناس. أولئك من ظلموا أنفسهم، وشهدوا بالولاية، والسفاهة، وابتدعوا الخرافة، وأوغلوا في دم المسلمين بغير حق، وشهد خصومهم عن جهالة أن عليّا صانع مرتزقة، وقاتل، وفاشل، وجبان، وأكثر من ذلك . وما شهدوا ولا حضروا ولا نظروا لكن سرقتهم كتب من سبقوهم بالشهادة الزور.
اللهم إنا نبرأ إليك من كل دم .
والله المستعان