عادل الأحمدي
بعد نحو ١٦ عاما من أول تمرد مسلح للعصابة الحوثية، وبعد أنهار الدماء التي سالت منذ ذلك اليوم، وبعد حالة الانسداد السياسي والرفض الاجتماعي الذي وصلت إليه الحوثية منذ سطوها على مؤسسات الدولة قبل ست سنوات، وبعد حالة التمزق التي طالت المجتمع والجغرافيا اليمنية، وبعد الدمار الكبير الذي ألحقته هذه المجازفة السلالية في البنى التحتية للدولة والأملاك الخاصة والعامة، سواء على يد الحوثية أو طيران التحالف، وبعد نشوء حالة رفض مجتمعية عارمة تعتبر الهاشمية هي العدو الأول لليمنيين طوال أكثر من ألفية كاملة.. بعد هذا كله ألم يحن الوقت بعد أن يسأل الهاشميون أنفسهم سؤالا وجيها وملحا:
– ماذا لو كنا سعينا للسلطة بدون الداعي الطائفي والرابط السلالي، وقد كنا متغلغلين في الدولة والأحزاب كأقوى ما يكون، هل كنا سنبوء بكل هذا السخط، وهل كنا سنعاني كل هذه الصعوبات؟
– ماذا لو سعينا للحكم تحت لافتة وطنية وشعار وطني متحرر من التبعية لإيران وحزب الله وخرافات كهنة المذهب وأحقادهم الدفينة.. هل كنا سنجد كل هذه المقاومة، وهل كنا سنفقد من أرواحنا كل هذه الأعداد؟
– ماذا لو كنا واصلنا الخطى عبر الاستفادة من المناخ الديمقراطي والنظام الجمهوري، ووصلنا الى الحكم عبر إرادة الشعب وليس عبر ركام من الزيف وجبال من جماجم أبناء القبائل، ألم يكن ذلك أسلم لنا ولأجيالنا القادمة حتى ولو فشلنا بالوصول إلى المواقع الأولى؟
– ماذا لو كنا انطلقنا تحت عباءة السادس والعشرين من سبتمبر الذي استفدنا منه كبقية أبناء الشعب وحُقنت في ظله أرواحنا وراكمنا فيه أموالنا ووسّعنا أحلافنا، ألم يكن ذلك أجدى لنا، بدلا من أن نحمل معنا أوزار قرون من الإجرام الإمامي كان الشعب تناساها فأيقظناها بأطماعنا وانجرارنا وراء الحقودين والحمقى منا؟
– هل يوجد عاقل منا اليوم يظن أننا لن ندفع جميعا كهاشميين، ثمن هذه المخاطرة التاريخية الملعونة؟ وهل ثمة من يظن أن الشعب اليمني سيغفر هذه المرة كل الجرائم التي ألحقناها في أرواحه ومعيشته ووحدته المجتمعية؟ ما الذي علينا فعله من الآن، لتجنب هذا المآل المريع أو حتى تخفيف وطأته؟!..
أقول: أليس حريا بهم أن يسألوا أنفسهم هذه الأسئلة وغيرها، بعد كل هذا الدمار؟ هل بدأوا يتهامسون بها على استحياء، أم أنهم ماضون الى كارثة مفصلية معصوبي العيون معتقدين أن النصر حليفهم!
أسئلة عديدة دارت في خلدي وأنا أسترجع هذه المقاربة التي كتبتها قبل ١٤ عاما ونشرتها ضمن كتاب “الزهر والحجر”. ورجائي أن نقرأها سويا للخروج بأجوبة في مشروع تناول قادم يفسر أسباب الاحتشاد السلالي الملحوظ حول مشروع مدمر وعقيم اسمه الحوثية.
إلى المقاربة المنشورة في “الزهر والحجر” الصادر في أغسطس ٢٠٠٦، بعد الحرب الثانية في صعدة، وقبل عقد ونصف من الآن:
يعد أصحاب الفكر الجارودي من الهاشميين وغيرهم، أحد أهم أسباب بقاء التيار الإمامي إذ هم المستفيدُ الأبرز من بقائه، والداعي التقليدي إليه.. وفي هذا السياق يجدر بنا، أولاً، التأكيد على أن هذا التيار لا يمثل سوى جزء بسيط من هذه الشريحة مجتمعة. حيث يوجد في اليمن هاشميون في تهامة وصعدة وحضرموت وصنعاء وإب وتعز وحجة (وغيرها)، منهم من هو من أبناء البيت الحسنى ومنهم من هو من أبناء البيت الحسيني. لكن التيار الإمامي لا يعترف بمن لا يؤمنون بنظرية الوصي. فيما بقية بيوتات الهاشميين منهم من تحرر من هذه الفكرة، ووصل رجاء الإماميين منه حد اليأس. ومنهم من تنام عنده الفكرة ويهتم بمصالحه لكنه لا يدخر جهداً في دعم التيار الإمامي وقت الضرورة. إنما على وجه العموم فإن السواد الأعم من الهاشميين يدركون فداحة هذا التيار وتأثيره السلبي على مصالحهم ومكانتهم في المجتمع، والذي يحدث هو أن أرباب التيار الإمامي يستقطبون الأجيال الجديدة من الهاشميين (والتي لا علم لها بتاريخ الوجع الهاشمي العريق جراء هذه الفكرة)، وذلك عن طريق انخراطهم، عادة،ً في حلقات العلم الداعية إلى إحياء الزيدية. إحياء الزيدية، كما أسلفنا، هو بمثابة “مسمار جحا” بالنسبة للتيار الإمامي حيث لا يفضي الإخلاص لما يدّعون أنه الزيدية (وهي كما أسلفنا لم تعد زيدية وإنما هادوية)، إلا إلى ضرورة تطبيق مبدأ الإمامة وإقامة دولتها على الأرض، ويستعمل التيار الإمامي لشحذ همة هؤلاء وإيقاد حنينهم كل أساليب الاستنهاض التي ترسم للأجيال الجديدة ماضيهم التسلطي وأيامهم الخوالي التي كان لهم فيها القول والفعل!
هكذا حدث الآن مع “الحركة الحوثية” التي استقطبت فتياناً هاشميين حتى من أعرق البيوتات الثورية التي لم تقف لا مع “شرف الدين” ولا “المطهر” ولا “القاسم” ولا “يحيى” ولا “أحمد بن يحيى”.. أسماء “خلية صنعاء” التابعة للحوثي كلها من أبناء الهاشميين عدا اثنين أو ثلاثة.. لكن اللافت في هذه الأزمة (أزمة الحوثي) خُلوُّها، خصوصاً في فترة البدايات، من جهود هاشميين مخلصة لنزع فتيل الأزمة، وخلو الساحة تماماً من كلمة حق كان يجب أن تقال من فمٍ هاشمي. وباستثناء بعض الرموز منها فإن البقية ربما لم يكونوا عابئين بالموت الذي كان يحصد أبناءهم وأبناء القوات المسلحة في مران ونشور، أو هكذا دلّ صمتهم، وهي حقيقة أرصدها هنا للتاريخ مع بالغ الأسف.
لم يكن هذا هو دأب الهاشميين في الزمن الماضي حيث لم تبدأ (بعض) ثورات الإصلاح قديماً، إلا على أيديهم كما فعل ابن الوزير وابن الأمير والجلال.
وبمنطق العقل، فإن على إخواننا الهاشميين أن يقطعوا صلتهم بنظرية “البؤس السياسي” تلك، بشيء من الحزم، ذلك أنها ليست سوى المحرقة التي تصطادهم جيلاً بعد جيل على يد بعضهم أكثر مما هو على يد إخوانهم القحطانيين.
نريد أن نشعر أننا جميعاً يمنيون، ليس لأحدنا فضل على أحد. ذلك أن التكبُّر والتعالي لا يفضي إلا إلى تمزيق وحدة المجتمع، ويورث أهله البغضاء المستطيرة والحقد المزمن. وفي هذا المعنى يقول الشهيد الزبيري في كتابه “الإمامة وخطرها على وحدة اليمن”: “قد يقال أو يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة أن إلغاء الإمامة المذهبية إنما يكون على حساب الهاشميين وضد مصلحتهم، ولكن هذا الرأي رأي خاطئ فما من خطر يهدد الهاشميين في الحاضر والمستقبل كخطر الإمامة، فكل إمام ينهض في عائلة هاشمية واحدة ويَلُوحُ له أن خصومه ومنافسيه إنما هم الرجال البارزون في العائلات الهاشمية الأخرى فيتجه أول ما يتجه للتخلص منهم قبل غيرهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشعب كله يشعر أن العائلات الهاشمية كلها طبقة متعالية متميزة عن الشعب منفصلة عنه دخيلة ليست من الشعب في شيء بل وكأنها أجنبية عنه دخيلة عليه. فإذا كان التمييز في عصور الجهل مزية للسلالات الممتازة فإنه سيكون في المستقبل خطراً كبيراً على هذه السلالات وباعثاً على نفور الشعب منها وتعصبه ضدها ووصمه إياها بالرجعية.. وبالتالي ستصبح على مر الأجيال معزولةً عن الشعب كأنها جالية فيه، وليست جزءاً منه، وبعد ذلك لن توجد قوة على ظهر الأرض تستطيع أن تخضع الشعب، إلى الأبد، لأقلية ضئيلة. تلك هي النتيجة المحتومة المنتظرة لمضاعفات خطر الإمامة واحتفاظ السلالات الهاشمية بالتميز على الشعب. أما لو أن العائلات الهاشمية فطنت إلى هذه الحقائق وتنبهت لدرء هذا الخطر، وتَزَعّمَ أحرارُها مقاومة الفكرة الإمامية.. وإتاحة الفرصة المتساوية لكل أبناء الشعب كي يشتركوا في حق الحكم فإنها بذلك تنقذ وحدة الوطن وتوفر على البلاد الكثير من الويلات”.
يواصل الزبيري: “إن في مصر وسائر أقطار العروبة والإسلام سلالات هاشمية تحتفظ بأنسابها وتعتز بها ولكنها لا تتخذ من هذه الأنساب وسائل للحكم والتميز. فاستطاعت بسبب ذلك أن تندمج في الشعب وتصبح عنصراً أصيلاً من عناصره، وتنجب أبطالاً من بينها يرتفعون إلى أعلى مراتب المجتمع بكفاءاتهم الشخصية لا بأنسابهم ولا أحسابهم، وبذلك لا يجد هؤلاء الأفذاذ من يطعن في مكانتهم أو يحاول زحزحتهم عنها. وكم عرفنا من أبطال عظام وثبوا إلى مستوى الزعامة السياسية والعلمية وتمتعوا بشعبية ساحقة فإذا بحثنا عن نسبهم وجدناهم من السلالة النبوية الطاهرة ولكن نسبهم هذا لم يكن علَّة لسيادتهم في المجتمع وإنما سادوا بكفاءاتهم وبطولتهم. بل إنه من المؤكد أنه لو تمسكوا بصفة الأنساب، وتميزوا بها على الشعوب، لكان من العسير عليهم أن ينالوا ما نالوه. ولا ينكر أحد أنه كان في اليمن منذ قرون بقايا الفرس وسلالات ممتازة تختلف من عهد الاحتلال الفارسي وقد ظلت عدة قرون محتفظة بتميزها على المجتمع اليمني فأثارت حفيظة الشعب وحملته على التعصب ضدها وعلى النفور منها وقد بقي الحمقى من أبناء هذه السلالات يفاخرون العرب في بلادهم اليمانية ويباهون عليهم حتى عزلوا أنفسهم أخيراً عن الشعب وشعروا بالوحشة والانفراد والاختناق. وأخيراً اضطروا أن يتخلوا عن عنعناتهم الساسانية الشاهانية ويندمجوا في الشعب ويصبحوا جزءاً منه. وها نحن الآن لا نجد أحداً من اليمانيين يشير إلى هذه السلالات أو يعرف عنها شيئاً. ونحن لا نستبعد إذا ما تحقق مبدأ الحكم للشعب أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه أي نابغة من هذه العناصر المندمجة في الشعب على رأس الحكومة الشعبية تطبيقاًَ لمبدأ تكافؤ الفرص. فإذا كان هذا هو الشأن مع بقايا أبناء الفرس والحبشة المحتلين فكيف يكون الشأن مع سلالات هاشمية وعربية”.
واقع الممارسة يثبت ما ذهب إليه الزبيري، إذ لم يصعد إلى قبة البرلمان عام 1993عن طريق حزب الحق الناشئ على عصبية هاشمية إلا ممثلان اثنان فقط. فيما الفائزون الهاشميون الآخرون كانوا كلهم من أحزاب أخرى ومستقلين لم يُدْلِ الناخب بصوته لهم على أي أساس طائفي.. وتجسّد ذلك بصورة أكبر في انتخابات العام 1997 حيث لم يصعد إلى قبة البرلمان من حزب الحق نائب واحد فيما صعد 86 هاشمياً من مختلف الأحزاب والمستقلين من بين 301 نائب هم قوام ممثلي الشعب اليمني، وهي نسبة لا تقارن، بأية حال، مع حجمهم العددي في المجتمع، (لأنها نسبة تفوق نسبة حجمهم السكاني بأضعاف).
متى يدرك أصحاب التيار الجارودي من الهاشميين أننا شعب سموح، لم نتعامل معهم لحظة واحدة وفق المنطق الكربلائي القاضي بنبرة الانتقام وإلا لما خرج الزبيري منذ الأيام الأولى لقيام الثورة داعياً إلى وقف النزيف في معارك تثبيت الجمهورية، محاولاً ألا تسير الثورة على ذات الخط الدموي الذي سارت عليه الدولة الإمامية. ودفع، رحمه الله، روحه ثمناً لهذا الحرص، (على يد اثنين من القتلة المأجورين أرسلهم المجرم محمد الحسين ونفذوا مهمتهم الخسيسة في برط ١٩٦٥).
نريدهم يمنيين لا حزباً أسرياً يعمل على إقصاء الآخرين لتثبيت قراباته وصلاته، مدفوعاً بمظلومية تاريخية كربلائية ذُبحت على إثرها شعوب بأسرها ومازالوا هم المظلومين!
متى يغادر إخواننا مربع هذا البؤس وتصبح اليمن بلاداً لكل اليمنيين بلا نعرة طائفية من أي نوع، فـ”قبل أن يوجد عدنان وقحطان، وجدت أرض اليمن مجال حياة للبشر الذين يعيشون عليها.. وقبل أن يكون زيد والشافعي وجدود جدودهما، كان شعب اليمن.. كل اليمن” وفقا لتعبير المفكر محمد أحمد نعمان رحمه الله.
وبرأيي أنه إن كان من درس يلزم أخذه من أزمة الحوثي في هذا المضمار فهو أن سماحة اليمنيين وغفرانهم ليست دائماً خصلة فاضلة.
أدري أن هذه النبرة تنطوي على قدر كبير من القسوة، لكنه منطق الرجال للرجال، حتى لا نقع في مغبة مداهنتهم على ما هم عليه.. ووالله “لم يُسرع به نسبه من أبطأ به عمله”، ولو كان هذا النسب ممتداً إلى خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، إذ هل كان بنو إسرائيل إلا أبناء نبي، ومن صلبه مباشرة دون وسيط، وقد ذكر الله في محكم كتابه أنه فضّلهم على العالمين، ولكن ذلك لم يغنِ عنهم من الله شيئاً. وكذلك هو حال من سواهم. إذ كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً منذ بدء الدعوة على ألا يتخذ بنو هاشم من قرابتهم من رسول الله سبيلاً للتكسب، فحرص على عدم توليتهم طيلة حياته، وكان يقدمهم في المعارك ثم لا يعطيهم من الصدقات. وفي ذلكم حكمة بالغة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
– ١١ يوليو ٢٠٢٠