سام الغُباري
بدا لي من وراء زجاج بدين، يقطع بخطو مريب شارعنا الاسفلتي، كانت اشجار الفوكس غير المنتظمة عند الجزيرة الترابية الفاصلة تتثاءب مستيقظة من كابوس شتاء المدينة الشهير بقسوته، مع اقتراب الربيع بقيت هذه الأشجار بلا عناية كحال الناس والأرض والدولة التي شهدت لتوها غزوًا من الداخل، أجبر الرئيس وحكومته على الاستقالة، واعلان الغزاة تشكيل مجلس بديل، كان القادم نحوي، أحد الغزاة، رأيته يقترب، وعلى كتفه تدلى سلاحه الآلي، وسَرت في خاطري فكرة أنه قد يؤذيني !
شعرت بخطر مجهول. في كل مرة تنتابني هذه المشاعر، تدق أجراس القلب بعنف خلف أضلعي، ويهوي شيء ما في الداخل من الصدر إلى قعر البطن، هذه المرة، كنت مستسلمًا، أرنو إلى القادم بسذاجة، وكأني أسلم قدري إلى الجلاد عن رضا، ثم أدرت ظهري، واشغلت نفسي بترتيب بعض الألبسة على طاولة زجاجية مكعبة، وسمعت الخطو واضحًا، لقد دلفوا متجر أبي، وصوت احتكاك الفولاذ يطرقع، هدر غاضب يصرخ من خلفي: سلم نفسك، لا تقاوم، لا تتحرك.
ودُرت، رأيتهم، كانوا ملثمين في نصف دائرة، بسلاح مصوب إلى رأسي، وسألتهم بفزع عمّا يحدث، كانوا مستفزين، وأياديهم على الزناد.
تقدم ذلك الذي رأيته أولًا، شتمني، وامسك تلابيبي وجرني بقسوة إليه، فأحاط بي شركائه، ودفعوني إلى الخارج بعنف، غرسوا فوهات بنادقهم في ظهري وصدري، وجاءت سيارة رمادية مسرعة بلهفة، محدثة صريرًا مزعجًا، توقفت أمامنا، وزُجّ بي داخلها، وعلى الفور ظهرت عربتين مسلحتين من أزقة متفرعة عن حيّنا الرئيسي، وغلبت دهشتي خوفي، مُعلقًا: هذا اختطاف!
وكأني أبنت عيوبهم، فصعقوا، أو انهم كانوا في ذنب، ففضحتهم، وطالبوني بسحب كلامي . شدّ الراكب في الخلف شعري إليه، قائلًا: انتظرناك منذ الأمس، وأضاف حانقًا : اتعبتنا !
هل اعتذر ؟، فضّلت الصمت، ثم قطعته، وكررت : هذا اختطاف، فابتسم السائق، وكان ثلاثينيًا نحيلًا، ناتئ عظام الفك على وجه أصلع وجبهة ثقيلة أعطبت جزءًا من وجهه السفلي، عرفت لاحقًا أنه منفذ العملية، وسمعته يطمئن سيده عبر هاتف صغير بنجاح فعلته الآثمة، ثم أغلق هاتفه، وعلّق ساخرًا : كيف نختطفك ونحن الدولة !
أدركت لتوي ما عجزت عن فهمه، كنت أرفض مثل غيري ذلك الاقتحام المسلح إلى صنعاء، ولم نتوقف عن الكتابة، كانت مدينتي مسلوبة هي الأخرى، اقتحمها مسلحون في نهار مشرق، حيث كانت ألوية الجيش وقوات الأمن والنجدة، وما يقرب عن عشرة الآف جندي مزودين بأسلحة ضخمة صامتون، وكأن الأمر لا يعنيهم !
سألته معترضًا: ومن قال انكم الدولة ؟ ولكزني الرجل من الخلف في خاصرتي بفوهة بندقيته، فصحت متألمًا، كانت السيارة تمضي بين جموع متفرقة من الناس، رأيت أصدقاء يتسكعون على الجانب الأيمن من الطريق الفرعي، وآخر يستند إلى شجرة بلوط قديمة، كانت الشجرة الوحيدة في ذلك الشارع، أغصانها فارعة، وجذورها عتيقة وصلبة اخترقت جزء من الاسفلت بحثًا عن مصدر للحياة، وفي غصة الألم، وبفم مقبوض، وحاجبين معقودين، وانحناءة طفيفة، قلت محتجًا : أهكذا تعاملون أسراكم ؟ .
رد السائق بفضاضة: أنت قليل أدب ونحن نؤدبك.
لم أحر جوابًا، تسللت اصابعي خلسة إلى موضع الضربة، اتفقد وجعًا مفاجئًا، وأضاف الوغد من الوراء : سنذهب بك إلى صعدة عند السيد، وقبل ذلك ستذهب إلى سميك سام الأحمر، وضحك حتى اهتزت السيارة، ملوحًا بيده اليمنى في شماته : تونسوا بعض يا عيال الحرام !
وضحكوا، أثاروا قهقهة واسعة، محيطًا هائلًا من الإزدراء وسط سيارة صغيرة، وغيظ حبيس في داخلي يدعوني للمقاومة، للاشتباك بالأيدي، والصراخ، لطلب النجدة من الناس في الطرقات، ولم أكد أبدي مقاومة حتى تكالبوا عليّ، هجموا أربعة من الخلف، وضربني السائق بمرفقه بحدة أسفل ضلوعي وندت مني أنة مكتومة، ثم امسكوا رأسي، وذراعيّ . حادت السيارة بقوة إلى اليمين، واضطر سائقها إلى التشبث أكثر بالمقود، مطلقًا شتائم نابية، حاول استعادة توازنه، لكنه خرج عن المسار إلى الطريق الترابي المحاذي، وبدأت في استخدام نصف جسدي غيرالمكبل، رفعت رجلي اليمنى إلى أعلى، رفست الزجاج الأمامي، بخفة أدهشتني، وعنف جعلني اكتشف قوة كامنة لم استخدمها .
ارتبك السائق أكثر، وضغط بقوة على مكابح السيارة، وأصدرت صريرًا حادًا، ومالت مرة أخرى إلى اليسار، واستقام وغد من الوراء بعقب بندقيته يضربني في ركبتي، وساقي، صرخت من الأعماق، دوت صيحة فظيعة في فراغ السيارة المشبع بالتوتر والأنفاس اللاهثة، كان الألم رهيبًا، وعشرات الأصابع القذرة تنهش جسدي، وتكبلني، حتى خارت قواي، وتوقفت السيارة، وتوقفت عن المقاومة
ترجل السائق، مضى مرتبكًا وغاضبًا الى مؤخرة السيارة واخرج شيئًا، ظننت انه سيقتلني، كانت عيناي تدوران بفزع في محجريهما، ولهاثي يعلو بعنف، وصدري يرتفع وينخفض بتتابع سريع، وأدركت اني اختتق، ذراع صلبة مذعورة احاطت عنقي من الوراء، وضغطت عليه إلى مسند الكرسي ذي اللون الرمادي، وصوت حشرجة عنيفة تخرج من فمي، انقذني منها السائق إذ فتح الباب، وجرني بقسوة خارجًا، ومسدسه ملتصق بصدغي، فانفلتت الأذرع، وسعلت بشدة، كنت اتحسس رقبتي متفقدًا حال حلقي، ورجلي اليمنى متيبسة ومجروحة من الضربات، وقد تمزق جزء من ردائي، وبانت قطرات دم على صفحة الساق، حيث كان العظم يصدر موجات أنين متصلة، أصابتني بصداع مفاجئ، واعتراني فتور مفاجئ، إذ كادت قواي تنهار، ولم أملك قدرة على الوقوف
خرج الأربعة من الخلف، وأحاطت بنا العربتين المسلحتين من الأمام والوراء، اقترب سائق الأولى متسائلًا، فأشاح سائقنا بوجهه مكتفيًا بالتعليق أني أردت أن أكون بطلًا
وعض على شفته السفلى بحقد رهيب، ومضى يقيد رجلاي بحبل غليظ، وعقدوا يداي الى الظهر بحبل بلاستيكي أبيض، وقرروا إغماض عيني، بخرقة بالية نتنة سلبها من رأس أحد الأوغاد .
كانت عيناي تسجلان كل شيء حولهما بدهشة تصويرية فائقة لالتقاط كل ما أمكن، قبل أن أهوي في الظلام .
* منقول عن كتاب : حكاية صحفي يمني في سجون الحوثيين – نشرت مقتطف منه بمناسبة الذكرى السابعة لاختطافي –